يأخذنا الكاتب اليمني بسام شمس الدين في روايتهِ «نزهة عائلية» ( دار الساقي) إلى حكاية قوامها الأعراف، وانتهاك تلك الأعراف هو ما تسعى الرواية إلى جعله استثناءها. ينقل الكاتب صراع الولاءات لدى الجماعات والأفراد؛ بين ميثاق القبيلة المقدس وميثاق الدولة الناشئة.
يعتمد في سرده على شخصية مأمون الجزار.عبر التغيرات التي طرأت على هذه الشخصية، يصور مسار الأحداث في محيطها. باستخدام زمن متواصل تتخلله أبواب على الذاكرة، يوزع الحكاية بشكل يمكن إسقاطه على خطة عسكرية تقليدية لقبيلتين متصارعتين بينهما سوق مُحايد يكون مسرحاً للصراع أو تمثيلاً واقعياً للعداء. ينقل الكاتب أدواتهِ بين المناطق الثلاث راصداً حياة مأمون الجزار. وما يلبث أن يوسع خريطتهُ ويصل إلى العاصمة. لكن أساس الحكاية يبقى في تلك المساحة بين المتصارعين. تمثل «نزهة عائلية» عرضاً يقابل العصبية بالمساومات والحروب بالتسوية، التعصب الديني بالعلم. وقبل ذلك، تضع الرواية الأعراف مقابل هدرها.

تصبح إقامة مؤسسات الدولة الحديثة كالمدارس والمستوصفات نوعاً من التعدي على الجماعة. إذ إنّ كلّ نمط اقتصادي يُنشئ نمطاً اجتماعياً موازياً. غاية الرواية هي المجتمع القبلي الواقف على أطلال زمانٍ غابرٍ ويرى في كلّ تغير لا يخرج من الأعراف، تهديداً تنبغي محاربتهُ. في هذا الجو من شتات الانتماءات، يشيّد شمس الدين حكايتهُ ويرمي بأبطالهِ إلى نزهة تحمل فكرة الفناء بين طياتها.
يندفع هزّام ابن نقيب آل طعيم إلى حانوت مأمون الجزار. يخلق هذا الفعل العشوائي الحدث الذي تنطلق منه الرواية. يظهر الجزار في مظهر المنقذ للطفل من مصير والدهِ. وقد قضى مغدوراً من قبل نقيب آل شهوان الذي لم يكترث بالأعراف، لتبدأ حلقة الثأر الفارغة بين القبيلتين. في المنزل، تدفع زوجة الجزار بهِ إلى آل شهوان كي يطلب الصفح منهم جراء انقاذهِ طفل أعدائهم. يخرج إلى الجرود، يتعرض للأسر وصنوف التعذيب والمهانة كافة عوضاً عن الصفح، ليخرج بانتهاء سلسلة الثأر الأولى، ويعود ليجد السوق أطلالاً. يعيش مع زوجتهِ وابنه في كنف زوجة النقيب المغدور. وينقلب حالهُ وحال زوجتهِ إثر الغياب الطويل. لقد خرج من المنزل بسبب مشورتها، وبعودتهِ، باتت تسحرها لحظات غضبهِ وفُتنت بالصفعة التي وجهها إليها. لقد غدا الجزار رجلاً مثل والدها. ينتمي مأمون إلى فئة البيع، وهي فئة أقل قدراً من القبائل، لا يجوز لهُ المشاركة في اجتماعات رجالاتهم ولا حمل السلاح.

أخرج الكاتب اليمني نصه من رتابته بنهاية مسرحيّة
لكن قربه من زوجة المغدور وإنقاذه ابنها جعلاه استثناءً، إضافة إلى عملهِ وكيلاً لعقارات العائلة في العاصمة. يشكل اختباره الجهل والأميّة، الاختبار الأكثر دلالة في الرواية. تدفع التغيرات التي رافقت تعلّمهُ بالنص إلى رمزية مشرقة في حياة القبائل. دفعه نزق شيخ الجامع إلى تعلم القراءة والكتابة، وبتعلمهِ بات مرجعاً لأهالي القبيلة، لا سيما فقرائها. إلى جانب ذلك، لقد زاد أعداؤه من حراس الأعرف شراسةً، وهم أسياد القبيلة وشيخها. لقد بدأ التعليم يفرز واقعاً اجتماعياً جديداً، خصوصاً بعد نجاح مأمون في إقناعهم بضرورة الموافقة على تشييد المدرسة. بنى لنفسهِ منزلاً كبيراً في السوق. بالتالي، وقف في المرتبة الفاصلة بين فئة البيع وأهل القبائل؛ فهو سيد فئة البيع وصغير أهل القبائل متى ما اجتمع بهم. لا يغيب الثأر عن حلقات السرد المتداخلة، ويبقى الانتقام هو السيد الخفي. يعود هزّام من إعدادٍ شاق كي يصير النقيب ويمضي إثر تأكد أمر موته، بسبب المرض، كي ينتقم لمقتل والدهِ تاركاً وراءه جنيناً في رحم عروسهِ. يرافقه مأمون في رحلة الثائر تلك، ثم تعود الأحداث إلى رتابتها، إلى أن يصير الحفيد قادراً على الأخذ بالثأر. لكنه لن يفعل، إذ تكون التغيرات العامة قد أثمرت عن رقة ترفض القتل. ويكاد قلب الحفيد العاشق يستعذب سيل دمائه كي يقابل ابنة مأمون الجزار فقط، وكلّ دماء لا تقود إلى المحبوب مرفوضة في عرفهِ، لاجئاً إلى أعراف العشاق وغير مكترث بأعراف القبيلة. يستلم ابن الجزار مديرية المنطقة، وتبدأ الجمهورية بفرض منطقها على الجميع، ضمناً والده، الذي مضت سنواته وهو يهرب من نبوءة إحدى العرافات. أمام المخفر، يفكر بالانتحار، بسبب رفض ابنه استقباله في مكان العمل. يضع الأحجار في ثيابهِ ويمضي إلى البئر، قبل أن يواجه نبوءة العرافة، أو تساعدهُ الصخور في جعبته على الفرار منها.
تبلغ الرواية ذروتها في الصفحات الأخيرة. تتضح نزهة العائلة التي تسحب الخراب معها إلى العاصمة، من أجل أخذ الثائر من نقيب آل شهران. أخرج شمس الدين نصه من رتابته بنهاية مسرحيّة؛ إذ أنبتت بذرة الفناء على مشاهد أغلقت الرواية على الدماء. بدأ النص بانتهاك للأعراف وتتالت عمليات الانتهاك خلال الصفحات حتى باتت الأعراف نثرات وشراذم في رؤوس العجائز، ولتبني الدولة أعرافها الجديدة. أعراف لم تبتعد بالقدر المرجو عن أعراف القبائل. كأنّ في هدر الأعراف تكريساً للهدر عرفاً، سارت وفقاً لهُ المصائر في الرواية وجانب الحياة الذي صوّرتهُ.