في عدد ممتاز من فصلية «الشعراء» الصادرة عن «بيت الشعر الفلسطيني» عام ٢٠٠٤ مخصص للشاعر محمد علي شمس الدين (1942) بعنوان «المنشد الجنوبي»، يقول الشاعر اللبناني عباس بيضون في محور «شهادات»: «يتميز محمد علي شمس الدين بين لداته الشعراء اللبنانيين بشيء أشبه بالتأسيس... نوع من الريادة في استلهام فضاء لغوي وثقافي ومكاني أظن أن الجنوب اللبناني بكل ما تتابع عليه تاريخياً ولغوياً ووجدانياً مصدره، إذ يبدو لي أنّ مخاضاً ثقافياً وعاطفياً أمكن له أن يتحول الى رافد فريد في القصيدة المعاصرة».
في قصائد محمد علي شمس الدين الأولى «اقتحامات جنونية» في «قصائد مهربة الى حبيبتي آسيا»، وقصائده الأخيرة (يا زهر عرسال)، واكبت اقتحامات المقاومين على الجرود الشرقية للبنان في هذه اللحظة المشرقية التي تواجه اللحظة الأميركية المتوحشة.

يخص صاحب «شيرازيات» و«اليأس من الوردة» و«الشوكة البنفسجية» وغيرها من عشرات الدواوين الشعرية ملحق «كلمات» بمقابلة شاملة حول الشعر والرواية والمقاومة والأجيال الشعرية الجديدة

■ بداية، هل يمكن للشعر أن ينقذ العالم اليوم، أم أنّه في مأزق وجودي ويجب إنقاذه؟
تناسب الشعر فكرة «المخلص» من ناحيتين: ناحية ارتباطه بالغيب، إذ كل شعر مهما كان مادياً أو يومياً له ميتافيزيكه، ومن ناحية ارتباطه بالخيال. والأرجح أن سقراط سخِر من الخيال باعتباره يجمع بين الموجود والمعدوم في وقت واحد وذلك لحساب العقل وترتيباته. ولعلّ القرآن في ذكره للهيام لدى الشعراء، قد نزع نزعة مشابهة. بعد ذلك، جاء من أنقذ الشعر من براثن الفكرة اليونانية عن الشعر. ففي حديثه عن السماع في الفتوحات المكية، يعتبر إبن عربي أنّ الخيال في الشاعر هو صورة الله فيه، لأن الشاعر بالخيال يُوجد ما ليس موجوداً. أما أن الشعر اليوم في مأزق وجودي ويجب انقاذه... ففكرة فانتيزية غير دقيقة، راجت هناك ومن ثمّ هنا. ما زالت جميع الفنون من رواية وسينما وموسيقى حتى الآن تصبو نحو الشعر، وأضيف، وهو أمر مهمّ جداً، أن علوم ما بعد الحداثة، تلتحم بالشعر في نظرية «الكاوس» (Chaos Theory) والاحتمالات. وليس الشعر غريقاً حتى يتم إنقاذه، لأن من يكتب الشعر هم الشعراء.

■ هل هناك محطات معينة في حياة الشاعر تسمح لنا بفهم أعمق لشعره، أم يصعب الفصل بين الشاعر وحياته؟
هي افتراضات على أي حال. مَن يدقق في سيرة أبي العلاء المعري مثلاً، ير أن حياته، بنت شعره بمقدار ما هو شعره ابن سيرته. الوشيجة بين سلوك شاعر ما ونصوصه معقدة جداً ومفاجئة. يوم انتحر ارنست همنغواي، كتب غابرييل غارسيا ماركيز أنّ ما يعرفه عن شخصية همنغواي العنيفة من صيد الوحوش في الغابات والقرش في البحار، لا يسمح للحظة بإمكانية انتحاره. ويوم فصَلَ البنيويون والألسنيون بين النص وصاحبه، لاحظوا أن تلمّس سيرة النص لا تكون إلا من خلال النّص نفسه ولا شيء سواه. فالنص تبعاً لهم، هنا، كائن لغوي لا أكثر. النص برأيي مغامرة لغوية ووجودية في وقت واحد.

■ كم كان لك من العمر حين نشرت ديوانك الأول «قصائد مهربة الى حبيبتي آسيا»؟ وهل كنت تعرف مسبقاً أنك ستكون شاعراً؟
الديوان الأول صدر عن «دار الآداب» في نهاية عام ١٩٧٤. وكنت أبلغ ٣٢ عاماً. كنت أعرف أن ما أصنعه هو الشعر، وأعرف أنه خطير جداً. كنت أشعر، أنا الصغير والهارب دائماً من الناس، بإمكانية الطيران الشاسع في اتجاهين، وقصائد هذا الديوان اقتحامات جنونية لكل ما حولي. هل قبل «قصائد مهربة...» حياتي تشبه شعري؟ كلّا قطعاً. كان لي صاحب أو اثنان، وبنت جميلة كالقمر قربنا، وكثير من حيوانات الدار، وكتب تراثية في مكتبة الجد، وكنا فقراء. لكني أُصبت بنوع من الأرق استمر طويلاً، وكتبت قبل عام ١٩٧٠ المئات من النصوص التي مزقتها، لأني كرهتها.

■ في شعر محمد علي شمس الدين مريم وزينب وخديجة وليلى وآسيا، هل المعجم الانثوي يعود لشخصيات حقيقية؟
بالطبع هنّ نساء حقيقيات شعرياً، لكن شتّان بين نصّ كل امرأة وسيرتها. سوف تجد، على سبيل المثال، أنّ اسماً واحداً هو «ليلى» سيحمل أحوالاً متعددة. ففي قصيدة «وجه ليلى»، يتبين من النشيد الأخير أنّ قيساً وهو أنا، لم يحب ليلى بل شُبّه له، وأن القصة بكاملها اسطورة: «علّقتُ على باب الدنيا قلبا مطعونْ/ وصلبتُ جناح الطير على جذع الزيتون/ ونقشتُ على عنقي سيفا/ وعلى هدبي سيفا مسنون/ وشنقتُ الشمس بأعتابي/ وصفعت قفا القمر المفتون/ لا قيس أحبَّ ولا ليلى/ عرفت وجها للمجنون». وفي قصيدة أخرى بعنوان «خمسة أبواب للموسيقى» في ديوان «الغيوم التي في االضواحي»، يأتي ما يلي: «والذي حيّر العقل حتى براه الجنون/ أن ليلى التي متّ في حبها ألف عامٍ/تخونْ». باختصار: إن نساء القصائد هنّ نساء الخيال اللواتي يأتين من الواقع أحياناً، ولكن ليذهبن الى الاسطورة.

■ لنعد الى السؤال البديهي الأول: ما هو الشعر؟
الشعر مسألة بديهية وفلسفية في وقت واحد، وهو مسألة تاريخية أيضاً. وللشعر صلة مؤكدة باللغة، وبفنون كثيرة... الرواية، الموسيقى، الرسم، الكيمياء، كما أن شبكة علاقاته تمتد من أدنى مستوى لعيش الانسان في الكهوف الأولى، الى ريادات العقل البشري المغامرة في المجرات، وفي المختبرات، وفي النفوس وطياتها الغامضة. هكذا ربما جاء تعريف عبد القاهر الجرجاني للشعر على أنه «الجمع بين رقاب المتعارضات». صورة بسيطة لما ينطوي عليه هذا الفن من قابلية التعدد، وتعريف الشعر في النقد العربي القديم والحديث لم ينفصل عن جذر فلسفي وجذر تاريخي، لكنهم عوّلوا على عنصري المحاكاة والوزن. ما طرأ على هذين العنصرين حتى اليوم مهم. فالوزن تفلّت من سيمتريته نحو الإيقاع من ناحية الـ Rythme، ومن ثمّ ليكون حراً بالمرّة حتى في أن يكون «لا وزناً» كما ارتأى بودلير في طرح سؤاله: «هل يمكن أن نشتقّ من النثر قصيدة؟ وانتهى الى تلك التسمية الجديدة الملتبسة (قصيدة النثرـPoème en prose). قد يكون الشعر هو حفر بئر في صحراء النثر الشائعة.

الشجن الكربلائي متأتٍ من
صوت الجد الحزين وهو الشيخ
المرتل الذي نشأتُ في كنفه


■ يقول ماتيس إن كل فن هو ديني بالضرورة. يتفق ذلك مع تعريفك الميتافيزيقي للشعر. هل أنت متدين؟
الفنون من شعر ورسم وموسيقى ومسرح نشأت حول المعبد. كان المعبد الوثني مسرح هذه الفنون. والشعر الجاهلي عُلّق على أستار الكعبة الوثنية. ثم صار المسجد حاضن الترتيل القرآني الذي هو أصل الصوت واللغة والسماع. لكن، إضافة إلى الدليل التاريخي والانثروبولوجي لارتباط الرقص والغناء والشعر بالمعبد، لديّ القناعة بأن لا شعر من دون ميتافيزيقيا. وتعريفي للشعر، كما هو معلوم، أنه «جرح من أقدم جروح الغيب». والغيب يبدأ من أدنى درجات المجهول، ليصل الى سر الأسرار الذي هو الله. وأما أنه من الأقدم، فلأن القصائد وجدت محفورة على جدران الكهوف البدائية في ألتاميرا، وهي في أساس الرقص الديني والأعراس والمآتم لدى قبائل معزولة لا تزال تعيش حتى اليوم في اميركا الجنوبية (قبائل الماوري)، وفي أدبيات المؤرخين العرب (الطبري والمسعودي وابن الأثير) إن الشاعر الأول هو آدم. أما من حيث أني متدين، فأنا كثير الإصغاء للقرآن: آياته مدهشة وموسيقية ومؤثرة بي لكي لا أقول إنها تخطفني من نفسي. والغموض فيه يثير فيّ الرغبة في الشعر، وأعتقد أني أقضي وقتاً طويلاً في التأمل في هذا العالم ونظامه واضطرابه. تشجيني وتحيرني القسوة المفرطة في التاريخ والحاضر، ما يثير في نفسي أسئلة كثيرة حول أسباب الشقاء، لكن، وهنا الخطر، تثير في نفسي أيضاً أسئلة ميتافيزيقية، أسئلة على شفير الهاوية.

■ هناك رموز باطنية في شعرك، وأقنعة وإشارات صوفية وعرفانية تحيلنا الى الحلاج والسهروردي وحافظ الشيرازي، وشجن كربلائي تستحضر فيه شخصيات مثل الحسين وزينب والمهدي، ما هي علاقتك بالتراث العربي والإسلامي؟
الشجن الكربلائي متأتٍ من صوت الجد الحزين وهو الشيخ المرتل الذي نشأتُ في كنفه وأنا صغير في قريتي بيت ياحون في الجنوب. أنا ابن أذان الفجر العميق وابن هذا الصوت بالذات. وبرغم أني كتبت أموراً خطيرة حول الشجن الكربلائي، لأني مجّدته وهو منتصر فقط، وامتزج بدمي في شتى الأحوال، إلا أنه، كما أقول في قصيدة «ورشة القتلة»، فرحي. أما بشأن الرموز العرفانية والصوفية في شعري، فإنني هيئت باكراً للحال الصوفي والعرفاني من خلال نشأتي الدينية والروحية الطقوسية، فضلاً عن قراءتي الكثيرة القرآنية بخاصة، وكتب ابن عربي والحلاج وجلال الدين الرومي، والشبلي والبسطامي، والتفسير الصوفي للقرآن للإمام جعفر الصادق... كل ذلك أشاع في نفسي مناخاً ملائماً لهذه الأحوال. لكن أشعار هؤلاء ضعيفة بالإجمال، وقوتهم الروحية موجودة في أحوالهم. استفدت من الأحوال، لكنني اخترت أن أكون الشاعر لا السالك أو الفقير.

■ لماذا خصصت حافظ الشيرازي بكتاب كامل؟ هل أعدت صياغة قصائده بطريقتك؟
عرف العرب حافظ متأخرين ولم يولوه الاهتمام الذي أولاه إياه غوته مثلاً، الشاعر الألماني صاحب «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي». كان أفضل من نقله للعربية ابراهيم امين الشواربي وصدرت الطبعة الأولى لترجمته عام ١٩٢٤ في مصر مع مقدمة للدكتور طه حسين. ثمة جاذب روحي شدني الى حافظ الشيرازي، أسميه اقترابه من «موطن الأسرار» من خلال «الحب». يقول: «بوسعي رؤية قلبك داخل صدرك الشفاف/ مثل زمردة تنبض في الماء». وقد قرأته واحتفظت بأثره البالغ في نفسي سبع سنوات بعد زيارتي لإيران ورؤيتي لتبرك الناس بـ «فأل حافظ»، دون أن أعمد لأي كتابة عنه. وقد حدث أن عانيت ألماً جسدياً أدخلني المستشفى واضطرني للتردد عليه دورياً لمدة ستة أشهر. خلال ذلك، انفجرت في نفسي «حالة» حافظ الشيرازي، فكتبت ٧٥ قصيدة غزل عام ٢٠٠٤ تأسيساً على غزلياته وهي قصائد تخصني بمقدار ما تخص حافظ الشيرازي سواء بسواء. لم أترجم الشيرازي، بل كتبت ما يسمى النصّ على النصّ، أي قصائد على قصائد.

■ في قصائدك سفر في جغرافيا الجنوب اللبناني، من جبل الرفيع، الى سهل الرمان (كفرمان)، بيت ياحون، الليطاني، الشقيف، جبل الريحان ماذا يمثل لك الجنوب اللبناني؟
الجنوب اللبناني، المسمى جبل عامل تاريخياً، هو المكان الذي ولدت فيه، وأعيش على أرضه قسماً من أيامي، وهو في آخر المطاف، العصب الحار الحزين الانشادي والملحمي لما كتبت من قصائد مهما كان موضوعها، ما ينقل الجغرافيا من حيز الموضوع الى حيز الخصوصية في الذات. هذا ما رميت اليه حين قلت إن الجنوب الذي يحملني أحمله. ما كتبت من القصائد عن آسيا وغرناطة واليأس من الوردة ومنازل النرد... يشتغل بعصب التكوين الجنوبي، هذا العصب مشغول من ريح واحزان عميقة ورسم صورة لمخلص طالما رسمت صورته من ديوان لديوان. ثمة دم وإنشاد في جميع ما أكتب.

■ أين تكمن خطورة الشعر، في «اعطاء النظر» كما يقول بول ايلوار، أم في القدرة على الخلق؟ ولماذا عارض القرآن الشعراء؟
خطورة الشعر تكمن أكثر في إثارة الخيال، وفي هذه الإثارة تلتحم المركبتان الهائلتان: مركبة الشعر ومركبة العلم. استراتيجياً، لم يعارض القرآن الشعراء. ثمة روح شعرية في بعض الآيات المتشابهات. لا ننسى تلك الفواتح المدهشة (ك ه ي ع ص، أ ل ر، طا سين) وقد جمعها الحلاج في كتاب الطواسين؛ وقد كانت الروح القرآنية الملهم والدليل لجميع الشعراء الاسلاميين على امتداد التاريخ من ابن الفارض وجلال الدين الرومي وسعدي وحافظ حتى محمد اقبال واحمد شوقي ومن تلاه حتى اليوم. حتى المعري والمتنبي لا يحلقان خارج جاذبية القرآن.

■ لمن يكتب محمد علي شمس الدين؟ في قصائدك حمولة معرفية، بخاصة في الكتاب الأخير «النازلون على الريح» حين تحاور الإمام الغزالي أو حين تستحضر فلاسفة وقامات كبيرة في الأدب والشعر واللغة كإبن سينا والمعري والخليل بن أحمد، هل تتطلب قراءتك استعداداً معرفياً مسبقاً؟
قصيدتي في ديوان «النازلون على الريح» التي تشكل ربع الديوان هي بعنوان «يوم الأحد الواقع فيه صمتي» مهداة الى الغزالي في محنته، محنة الشك، والقصيدة معراج نحو الله. وفيها يلعب الزمن دوره «سبعون من السنوات تساوي خمس دقائق من أيام حبيبي». كما أنها تنتهي «في زحمة سيري نحو الله». أُفضّل لمن يقرأني أن يتزود بالمعرفة، لأنه يصبح على تماس مع الطبقات الإيحائية للشعر. لكن شعري مكتوب لمن يقرأ، ابتداء من العامل أو الفلاح الذي ربما كان على اطلاع ثقافي متواضع وصولاً لعالِم الفيزياء. لأني أعتقد أن الشعر يبدأ من حيث تنتهي المعارف والعلوم والفلسفة والتاريخ... أي هو إكسير خاص أو برق يكشف ظلمات الوجود ثم يترك كل شيء لحاله. إن للقارئ أو المتلقي مفهوماً خاصاً يتعلق بالتركيب العصبي والنفسي وبالقابلية للموسيقى، بمقدار تعلقه بالتركيب المعرفي للشعر.

عرف العرب حافظ الشيرازي
متأخرين ولم يولوه الاهتمام الذي أولاه إياه غوته مثلاً

■ يقول بول فاليري إنّ الشعر سفر بين الصوت والمعنى. يُتّهم محمد على شمس الدين بأنه متعصب للإيقاع الموسيقي في الشعر. هل يسكنك الإيقاع؟
وضع بول فاليري في كتابه عن بودلير هذه الثنائية «صوت/معنى» (Son/Sens)، وقال إن القصيدة تستمر ما دام هذا التردد بين الصوت والمعنى موجوداً، فإذا انتهى، وقعت القصيدة في النثر. تناول هذه المسألة باحثون ألسنيون كثر من بعد فاليري من أهمهم اثنان: أغامبن وبيترز من خلال بحث مستفيض لكل منهما بعنوان واحد هو «نهاية القصيدة». بالطبع عالج الباحثان هذه المسألة من خلال الشعر الفرنسي والانكليزي واللاتيني القديم. لقد طلب مني الشاعر أدونيس أن أناقش الباحثيْن المذكورين وأدرُس نهاية القصيدة في الشعر العربي، وقد كتبت بحثاً مطولاً بنفس العنوان (نهاية القصيدة) في العدد 4 من مجلة «الآخر» أحيل إليه لمزيد من التفاصيل والمناقشة * . نقد هذه النظرة قائم على أنها نظرة لغوية شكلانية أو صورية للقصيدة. أريد أن أضيف هنا شيئاً يتعلق باللغة العربية وهو ما تمتاز به من بين جميع لغات العالم. إنها لغة اشتقاق عامودي، لا لغة نحت وتركيب أفقي كالفرنسية والانكليزية والإيطالية وسائر لغات العالم. والاشتقاق العامودي للعربية، يجعلها لغة موسيقية أولاً. فمن الجذر تُشتقّ كل الكلمات المتفرعة تبعاً لأوزان: كتب، كاتب، كتابة، مكتوب، مكتب... كل وزن في الاشتقاق من الجذر، له معنى خاص به ومختلف عن الآخر، والانتقال من وزن اشتقاق لوزن اشتقاق آخر هو انتقال من معنى لمعنى على أساس نغمي. مثلاً، يقول صلاح عبد الصبور: «أمي ما ماتت جوعاً/ أمّي ماتت جوعانة». فالفرق بين جوع وجوعانة فرق اشتقاقي نغمي وموسيقي وهو فرق وزن. كل كلمة في اللغة العربية لها وزن. لذلك، كان الشعر العربي من حيث تكوينه التاريخي ومن حيث الأساس الاشتقاقي للغة العربية، شعراً موزوناً بالضرورة. والاشتقاق مسألة شديدة الخطورة والدقّة. أعظم من عرفها وكتب فيها وعلّمني أصولها العلامة اللغوي الراحل الشيخ عبد الله العلايلي. قال لي «هذا باب يفكّ الرقاب». طه حسين نفسه (مما قال) كان يخطئ في وزن الاشتقاق، بين الضمة والكسرة ينقلب المعنى رأساً على عقب. بين عجز بكسر عين الفعل وعجز بفتح عين الفعل، فرق أخطأ فيه «عميد الأدب العربي» بين أصبح عاجزاً وكبرت عجيزته. واذا كان الشعر هو زهرة اللغة واللغة سجل التاريخ والهوية وموسيقى الزمان، فكيف، بهذه السذاجة، نرمي بخصيصة لغتنا العربية، عن جهل على الأرجح بما هي عليه، في مسألة الوزن، لصالح الشعر الغربي الذي لا تتمتع لغاته بما تتمتع به اللغة العربية من خصيصة الاشتقاق الموسيقي. أجبني: هل يقرأ القرآن من دون الترتيل وهو موسيقى (سماع). هل يقرأ أي نص لأي شاعر أو ناثر دون الانتباه للموسيقى؟ وعلى هذا قال الجاحظ قديماً إنّ «الشعر هو فلسفة العرب الوحيدة» ويقصد الوزن. لكن في الوزن ومشتقاته، هناك نقاش طويل لا مجال هنا للتفريع فيه.

■ انتهى النقاش حول الشكل الشعري في الغرب والمدارس الشكلية منذ أكثر من خمسين عاماً، أليس مجدياً أن ينتهي هذا السجال في الساحة الشعرية العربية؟
هل هناك سجال الآن في الساحة الشعرية العربية؟ هناك خبط عشواء. وكيف له أن يُقفل؟ ثم إن الشعر في الغرب على العموم ضعيف، حتى لكأن الشعر خصيصة مشرقية.
■ هل تحب قصيدة النثر؟
كتبت شيئاً منها في «حلقات العزلة»، وقصيدة «تعب شهريار» وقصيدة «لكي لا يقول قائل إني رأيت» في ديوان «النازلون على الريح». أحب قصائد محمد الماغوط في دواوينه الثلاثة الأولى. سائر ما كتبه فيه فجاجة نثرية وسياسية . بعض «خواتم» أنسي الحاج جميلة وكذلك كتاب «الوليمة». كتاب «لن» ليس شعراً بل اشكالية شعرية. الذين كتبوا قصيدة النثر في الشعر العربي الحديث والمعاصر، اصطدموا بجدار الموسيقى. ومن الملفت مثلاً، أن شاعرين معدودين هما أدونيس وأنسي الحاج، كان لكل منهما موقف قاس ونقدي من قصيدة النثر العربية. بعدما وضع أدونيس بيانها في أحد أعداد مجلة «شعر»، عاد وتنصل منها ونفاها كقصيدة حقيقية عن نفسه وعن الآخرين. أنسي الحاج في مقال له حول مجموعتي «النازلون على الريح» يقول: «نحن معشر ديوك الحداثة أجهز أولادنا على الباقي بعدما فتحنا صندوق باندورا واندفعت منه أفاعي الكاوتشوك وعقارب القش. أعرنا أنفسنا لنكون جنود الهدم وبيادق القدر»**.

■ من تعرف من الشعراء من الجيل الثلاثيني أو العشريني في لبنان أو العالم العربي اليوم؟
اللائحة تطول: بعضهم اقترحت عليه عنوان ديوانه كـ «نحن واحدان» للشاعر عبد الله ابو بكر، الى الشاعر الشاب السعودي اياد الحكمي الذي اختير أميراً للشعر هذا العام، وأحمد عايد وأحمد إمام من مصر. وأنتم هنا في لبنان، كتبت عن الاصدار الأول لكل منكم بما يشبه الأوعية المتصلة من يوسف بزي، ويحيى جابر، وزاهي وهبي، واسكندر حبش، وجوزيف عيساوي واسماعيل الفقيه الى محمد ناصر الدين ومهدي منصور وربيع شلهوب. وأصغي لأسامة حيدر وخليل عاصي وكميل حمادة وحسين ناصر الدين وخاصة فاروق شويخ ومحمد الدهيني.

جبل عامل تاريخياً هو
العصب الحار الإنشادي والملحمي
لما كتبته من قصائد

■ ماذا نجد من الكتب في مكتبة محمد علي شمس الدين؟
هي مكتبة ضخمة فلسفية وتاريخية وحقوقية وشعرية، ومكتبة دراسات وتراث وحداثة، وتضم كتباً بلغات ثلاث: العربية والفرنسية والفارسية. منها بالفرنسية أناشيد مالدورور للوتريامون ونادجا لبريتون وكتب صلاح استيتية في الشعر، واشعار بول ايلوار وجاك بريفير وأشعار سيرج باي التي ترجمتها للعربية شعراً، وبودلير ورامبو. بالفارسية ديوان حافظ الشيرازي بطبعات متعددة والمثنوي للرومي وغيرها.

■ كتبت قصيدة صوِّرت أخيراً بعنوان «يا زهر عرسال». لا يخشى محمد علي شمس الدين من البوح بموقفه السياسي، هل انت شاعر المقاومة اليوم؟ ألا تخشى مطبات الايديولوجيا التي قد تضر بالشعر؟
الخوف من الايديولوجيا جزء من الخوف من المعرفة الملتزمة. أهم ما أعرفه من نفسي هو أني حر، حر بالاختيار وحر بالتخلّي. وأنا في سلوكي وشعري أضم ثلاثة مستويات من معنى المقاومة: الأول الإقامة في الأرض. الثاني الهجرة من المكان للعودة إليه. الثالث: الإقامة في اللغة. تسأل: مع المقاومة؟ إن لم تكن مع المقاومة مع من تكون؟

■ يتهم بعضهم المقاومة الاسلامية اليوم بأنها لم تنتج شاعراً ولا رساماً أو فناناً جدياً طوال تجربتها، بعكس التجربة اليسارية التي إن فشلت سياسياً وعسكرياً، فإنها استمرت في الفكر والأدب والثقافة، ما رأيك؟
استمرت التجربة اليسارية، نعم، لكن في إطار الثقافة المغلولة. والعجيب أنّ كثيرين من رموز اليسار القديم انتقلوا إلى مواقع وافكار شديدة القرب من الوسطية الملتبسة التالية: اسرائيلي+عربي/ ٢ (مقسوم على اثنين). الياس خوري في روايته الأخيرة «اسمي آدم» أو «ابناء الغيتو» بعد أن يكتب مئة صفحة لا لزوم لها في حكاية وضّاح اليمن، يكشف لنا أن آدم دنون الذي يقدمه في المقدمة على أنه اسرائيلي مئة بالمئة، هو فلسطيني في نيويورك مئة بالمئة. الالتباس الثقافي أخطر من الالتباس السياسي. أما بشأن المقاومة الاسلامية، وعلاقتها بالشعر والفنون وسائر شؤون الثقافة، فلا تنس أن هذه المقاومة ولِدت في أزمنة التباس كثيرة: بين الديني والعلماني، الديني والطائفي، المحلي والأجنبي، إلى جانب الصراعات المحيطة بها من تنازع مصالح عسكرية واقتصادية عظمى وتنازع عرقي ولغوي وقومي ومذهبي. كل ذلك، كان لها أن تخترقه بعاملين مهمين: العامل الأول فكري مؤسس على فهمها للإسلام والتشيع في مواجهة الفهم المتوحش للإسلام الذي أنجب القاعدة و«داعش» و«النصرة» وأخواتهما وفي مواجهة أطروحات أميركا والغرب أيضاً. المزج بين الميتافيزيك الشيعي والتكنولوجيا المعاصرة العسكرية والعلمية ولادة خاصة جديدة ومعاصرة للإسلام. إذن، الشعر، أو الرسم والفن على العموم، لن تكون مفصولة عن هذا التوليد الجديد للإسلام. فالمقاومة الآن، في الفنون، هي أكثر حضوراً من اليسار. إنها اللحظة المعاصرة في مواجهة اللحظة المتوحشة الاميركية. شعري في عمقه طالع من هذا العمل الإسلامي الجديد، المرتبط بتاريخه القديم، وبأسلافه من شهداء ومتصوفة. ولا أعتقد بولادة أكثر من شاعر واحد ليملأ حقبة أساسية من حقب التاريخ. ثم إنها مرحلة ما زالت قيد الصراع والتكوّن وكذلك الفنون. فلننتظر قليلاً.
لخّص لنا الجدل الذي دار في القاهرة بينك وبين جابر عصفور حول الشعر والرواية.
كان ذلك في «المهرجان العالمي للشعر العربي» في «دار الأوبرا» في القاهرة مطلع العام الجاري. كنت مدعواً ولي بحث بعنوان: «الشعر، ما الضرورة؟». بحضور د. عبد السلام المسدي، وأحمد درويش ومحمد عبد المطلب. ومن حيث أنّ الاحتفالية للشعر، فاجأنا د. جابر عصفور باستغراق الحديث عن الرواية، وبأن الشعر مهمش اليوم وإلا فلماذا أعطيت «نوبل» لنجيب محفوظ الروائي وليس لشاعر، وبأن هذا الزمن هو زمن الرواية لا الشعر وقد ثنّى عليه المسدي موافقاً كأنما ثمة ما يشبه تواطؤاً على الشعر. وكاد الافتتاح ينتهي على هذا المنوال في دار أوبرا مكتظة بالشعراء والنقاد والصحافيين والمثقفين والمتفرجين. ما قلته باختصار هو ما يلي: ما فاجأني أن عصفور أدخل في ليلة عرس الشعر رجلاً أجنبياً الى مخدع العروس، وأن تلك المقارنة بين الرواية والشعر فاسدة من أصلها. فالشعر برق اللغة القديم، والرواية حكايات طويلة ودروب متشعبة. وسردها يخرج من باب ليدخل من آخر. الفرق بين الشعر والرواية هو فرق في الطريقة. فإذا كانت الحقيقة هي الطريق للحقيقة، فإن طريقة الرواية تختلف جوهرياً عن طريقة الشعر. ولا مجال للمفاضلة، فضلاً عن أن الشعر هو العلامة القديمة للإنسان من الأشعار المنقوشة على الكهوف والمكتوبة في رقيم الطين في سومر وأكاد مروراً بالعصر الفلسفي اليوناني، وصولاً الى عصر النهضة وأيامنا هذه. فاليونانيون القدماء رذلوه باعتباره محاكاة لمحاكاة، ومجدوا العقل على حساب النزوات والغرائز الأولية للإنسان، لكن نيتشه وهايدغر أعادا الاعتبار لهذه الغرائز في الشعر الديونوزوسي على حساب قدسية العقل الفلسفي القديم. كما اعتبر هايدغر أن الشعر ليس محاكاة، بل ابتداع أول وخلق للأشياء باللغة وهو ما قال به ابن عربي والمتصوفة المسلمون. كأنما جمهور دار الأوبرا قد أفاق من غيبوبة. وكان هناك ردّ بعد ذلك من المسدي وعصفور اللذين وافقا على ما أقول وقال لي جابر عصفور: أرشحك لنوبل.

■ ما جديدك؟
صدرت لي في القاهرة منذ فترة عن «هيئة قصور الثقافة» ثلاثة أعمال شعرية مختارة هي «الشوكة البنفسجية» و«أميرال الطيور» و«منازل النرد»، مع مقدمة للشاعر عبد المنعم رمضان. كما صدرت لي في لبنان عن «دار الأمير» طبعة جديدة ومزيدة بتسع غزليات من ديوان «شيرازيات»، والعمل جار على إعادة طباعة «حلقات العزلة» و«كتاب الطواف» و«رياح حجرية»، فضلاً عن كتاب جديد ضخم من ثلاثة أجزاء بعنوان «فهرست الكائنات الشعرية».
ختاماً، هل نكتب لأننا نخاف الموت؟
أنا لا أكتب خوفاً من الموت، بل أكتب حرصاً على الحياة.
المراجع:
* محمد علي شمس الدين، نهاية القصيدة، مجلة الآخر، عدد ٤، ربيع ٢٠١٢، ص ٦٦.ـ٨٤.
** أنسي الحاج، كلما جرحت هذي البرتقالة تبتسم، خواتم، جريدة الأخبار، ٢٠١٣، عدد ٢١٤٣.