هذا مثل عربي شهير ما زلنا نستعمله بين الحين والآخر، وإن بلهجة فيها قدر من المكر والسخرية. وليس لهذا المثل قصة كما هو الحال مع الأمثال القديمة الأخرى. فقد نُحت المثل من ممارسة طقسية محددة. بذا فالممارسة الطقسية هي قصته عملياً.
وقد ورد خبر طقس القعقعة في بيت شعر شهير للنابغة الذبياني:
كأنك من جمال بني أقيشٍ
يُقعقع بين رجليه بشنّ
وكما نرى، فالبيت هنا يصف طقس القعقعة بالشن بين أرجل الجمال، ولا يضرب مثلاً. ولم تردنا أخبار عن استخدام هذا القول كمثل في العصر الجاهلي. لكننا نعرف أن زعماء بني أمية افتتنوا بهذا المثل أيما افتتان. فقد استخدمه بصيغته المعروفة (ما يقعقع لي بالشنان) كل من: معاوية، وعبد الله بن زياد، والحجاج الثقفي، الذي قال: «إني والله يا أهل العراق ما يقعقع لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز التين». وربما أشار هذا إلى أن المثل ابتدع في بدايات العصر الأموي، أو في وقت ما من صدر الإسلام.
ولا خلاف حول الحال التي يضرب فيها المثل. فهو يضرب في الرجل: «الشرس الصعب الذي لا يُهدّد ولا يُفزّع» (الزمخشري، المستقصى). أو في «من لا يتّضع لحوادث الدهر، ولا يروعه ما لا حقيقة له» (تاج العروس). أي إنه مثل يقصد به قائله أن يخبر الآخر أنه لا يخوّف ولا يروع بالأصوات والجعجعات.

وهناك إجماع على أن الشن هو الجلد الجاف أو القربة الجلدية الجافة: «وأصله من تحريك الجلد اليابس للبعير ليفزع» (ابن سيده، المحكم). يضيف الزمخشري: «لا يقعقع له بالشنان: هو جمع شن، وهو القربة الخلقة، إذا قعقع نفرت منه الإبل» (الزمخشري، المستقصى في أمثال العرب).
لكن ثمة اضطراب بشأن بني أقيش وجمالهم. فهم إما قبيلة من الناس، أو قبيلة من الجن: «هو حي من عكل، وجمالهم ضعاف تنفر من كل شيء تراه. وقال ابن الكلبي: بنو أقيش: حي من الجن» (البغدادي، خزانة الأدب). وتوصف جمال بني أقيش بأنها جمال نافرة «تنفر من كل شيء تراه»، كما عند البغدادي. وينقل عن الأصمعي أنها جمال حوشية: «جمال بني أقيش حوشية ليست ينتفع بها، فيضرب بنفارها المثل» (البغدادي، خزانة الأدب). والحوشي هو الوحشي البري.
لكن إذا كانت هذه الجمال نافرة من الأصل، فلماذا إذن يجري تفزيعها؟ ألكي تزداد نفاراً على نفار؟! ولحل ما يبدو تناقضاً هنا، فإن من المهم أن نفهم أنّها جمال (حوشية)، أي جمال برية غير أهلية. أي إنها تعيش بعيدة عن الناس، نافرة عنهم في الفلوات. لكن يبدو أنها تقترب في لحظة محددة منهم، فتحتاج إلى التفزيع والتنفير، فيقعقع لها بالشنان. ويبدو لنا أن هذه اللحظة هي موسم تزاوج الإبل. فحين يحل وقت التزاوج، تأتي الفحول الحوشية السائبة في البرية لتختلط بقطعان النوق الأهلية، باحثة عن وصال جنسي معها. وفي هذه اللحظات بالذات، كان يقعقع لها بالشنان بين أرجلها لإبعادها. ويؤكد لنا الجاحظ حقيقة أن هذه الإبل كانت تتزاوج مع الإبل الأهلية: «وزعم ناس أن من الإبل وحشياً... فزعموا أن تلك الإبل تسكن أرض وبار... قالوا: وربما خرج الجمل منها لبعض ما يعرض، فيضرب في أدنى هجمة من الإبل الأهلية. قالوا: فالمهرية من ذلك النتاج» (الجاحظ، الحيوان). ثم يضيف موضحاً: «الحوشية من الإبل والحوش من الإبل عندهم هي التي ضربت فيها فحول إبل الجن، فالحوشية من نسل إبل الجن، والعبيدية، والمهرية، والعسجدية، والعمانية، قد ضربت فيها الحوش» (الجاحظ، الحيوان).
وهكذا تخرج الإبل الوحشية، أي إبل الجن، من أرض وبار، التي هي أرض الجن، أي أرض بني أقيش عملياً، فتضرب في الإبل الأهلية، فينتج ذلك الضراب جمالاً تدعى الحوشية. هذه الجمال الحوشية، أي التي من نسل إبل الجن البرية، تتزاوج من جديد مع الإبل الأهلية، فينتج من ذلك الضراب الإبل (العبيدية، المهرية، والعسجدية)، وميزتها كلها أنها تملك عرقاً وحشياً يربطها بالجن.
أما أصحاب الإبل الأهلية، فلم يكونوا راغبين في أن تضرب إبل بني أقيش البرية نوقهم في ما يبدو. من أجل هذا، كانوا يعمدون إلى طرد هذه الإبل عبر التخويف بالشنان الجافة حتى لا يحصل هذا الضراب. هذا هو الأمر كله. أي هذا هو أصل طقس القعقعة بالشنان لجمال بني أقيش.

إبل الإله

لكن لم يكره أصحاب قطعان الإبل الأهلية الاختلاط الجنسي بين نوقهم والجمال الحوشية، رغم أنها حسب القزويني «إبل لم ير أحسن منها» (القزويني، آثار البلاد وأخبار العباد). السبب: هو أنهم لن يتمتعوا بنتاج هذا الاختلاط، أي بالمواليد القوية التي تنتج منه، في ما يبدو. إذ إنه لا يحق لهم الانتفاع بهذا النتاج. ويبدو أن هذا هو المعنى المقصود من جملة «ليست ينتفع بها»، التي نسبت إلى الأصمعي في المقتبس الذي أوردناه أعلاه. ولدينا قصة كاشفة عن الإبل الحوشية في أرض وبار الأسطورية الشهيرة، تثبت بالفعل أن هذه الإبل لا ينتفع بها:
«الإبل الحوشية؛ تزعم العرب أنها التي ضربتها إبل الجن، وهي إبل لم ير أحسن منها... حكي أن رجلاً من أهل اليمن يوماً رأى في إبله فحلاً كأنه كوكب بياضاً وحسناً، فأقرّه فيها حتى ضرب إبله. فلما لقحها لم يره حتى كان العام المقبل، وقد نتجت النوق أولاداً لم ير أحسن منها. وهكذا في السنة الثانية والثالثة. فلما ألقحها وأراد الانصراف هدر فاتّبعه سائر ولده» (القزويني، آثار البلاد).
هذا المقتبس يفسر لنا، بنحو شبه أسطوري، لمَ كان أصحاب الإبل الأهلية يبعدون الجمال الحوشية عبر القعقعة بالشنان بين أرجلها. فالقبول بدخول هذه الإبل، ومثيلاتها، وسط الإبل الأهلية سيؤدي إلى ما أدى إليه الأمر مع الرجل اليمني. فقد ترك الفحول الحوشية تضرب نياقه أملاً بالفوز بمواليد «لم ير أحسن منها». لكن الأمر انتهى إلى كارثة عليه وعلى قطيعه. فقد هدرت الفحول الحوشية، أي فحول إبل بني أقيش، آخذة معها نسلها ذاهبة إلى أرض وبار، أرض الجن. وهذا ما كان يخشاه أصحاب الإبل عند حضور جمال بني أقيش. فهم سيخسرون المواليد الجديدة، التي لن تكون لهم. لذا كانوا يقعقعون بين أرجل الإبل الحوشية لإبعادها عن إناث إبلهم.
لكن الأمر في الحقيقة لا يتعلق بأنّ الفحل الأب يأخذ بهدرته مواليده وراءه، بل يتعلق بأن الجمال الحوشية جمال إلهية. بذا فنتاج أصلابها إلهي لا يمكن الانتفاع به. وقد كان مفهوماً في ما يبدو لأصحاب الإبل الأهلية أن نتاج ضراب جمال بني أقيش، أي الإبل الحوشية، لنياقهم لن يكون من حقهم. فهذه الجمال جمال الإله. ونتاج أصلابها للإله. أي إنه لا يحق لصاحب النوق الأهلية أن يتصرفوا بهذا النتاج. بناءً عليه، لم يكن هناك من حاجة كي تهدر الفحول الحوشية الأقيشية آخذة أولادها معها إلى وبار. فصاحب الإبل نفسه كان ملزماً، في ما نظن، بإفراد نتاج جمال بني أقيش، إن حدث بالمصادفة تزاوج بينها وبين نوقه، وتركها تهيم في البراري حرة، لأنها نتاج إبل تابعة للإله. لذا، فكل صاحب إبل كان يحرص على أن لا تختلط نوقه بفحول الإبل الحوشية، لأنه سيخسر نتاج هاتيك النوق لتلك السنة.
وثمة في النصوص العربية ما قد يشير مباشرة إلى حرمة الإبل الحوشية التي نتحدث عنها. يقول الأزهري نقلاً عن أبي عمر الشيباني: «وإبل حوشية محرمات لعزة نفوسها» (الأزهري، التهذيب). ومن الواضح لنا أن حرمتها لم تكن لعزة نفسها، بل لعزة إلهها. إنها محرمة على الناس، ولا ينتفع بها، لأنها إبل الإله. بالتالي، فهي جمال لا يحق ركوبها، ولا الانتفاع بلحومها أو وبرها أو حليبها.

القعقعة لا الضرب

لكن لا بد من القول إنّ طرد الإبل الحوشية كان يحصل بألطف الطرق الممكنة. إذ لا يمكن التعامل مع إبل الإله، بالطريقة ذاتها التي تعامل بها الإبل الأهلية الغريبة، وهي الطريقة التي تحدث عنها الحجاج في خطبته الشهيرة بالكوفة: «لأضربنكم ضرب غرائب الإبل». لم تكن إبل بني أقيش تعامل كإبل غريبة، أي عبر الضرب القاسي الذي لا رحمة فيه. فلا يجرؤ أحد على معاملة إبل الإله بهذه الطريقة. كانت تبعد بالقعقعة فقط، لأنها إبل مقدسة. القعقعة فقط هي وسيلة إخافتها وإبعادها. إذ لا يجوز ضرب إبل الإله وإيذاؤها.
ومن المحتمل أن هذه الإبل كانت تبعد أيضاً بصوت من الفم، إضافة إلى صوت الشن. ذلك أن جذر قعقع يعني الطرد: «قال الأصمعي: إذا طردت الثور قلت له: «قُع قُع» (لسان العرب). و«قع قع» هذه اسم فعل أمر للطرد كما نفهم من هذا الكلام. ونظن أنه اسم فعل أمر عام للدواب وليس للبقر فقط. وربما كان قد اشتق في الأصل من صوت القعقعة بالشنان. أي إنه تقليد بالفم لصوت القعقعة. لكن لا شيء يمنع كذلك أن تكون القعقعة ذاتها قد اشتقت من صوت «قع قع». فوق ذلك، فإن ابن الأعرابي يخبرنا أنه «يقال: قع قع إذا أمرته [الحيوان] بالسياحة والتعبد في القيعان والقفار» (الأزهري، التهذيب). وتعبّد الإبل هو ابتعادها في الفيافي: «بعير متعبِّد ومتأَبّد إذا امتنع على الناس صعوبة وصار كآبِدَةِ الوحش» (لسان العرب). بناءً عليه، فقعقعة الإبل قد تكون في الأصل دفعاً لها إلى القيعان والقفار، أي إلى البراري البعيدة. فهي إبل الإله، ويجب أن تسوح في قفار أرض الإله الواسعة، بعيداً عن الإبل الأهلية.
على كل حال، يبدو أن إبل بني أقيش هي الإبل المسيبة التي ورد ذكرها في القرآن، أو من نسلها: «ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون» (سورة المائدة 103). فههنا ثلاثة أصناف من الإبل التي تسيب وتترك هائمة: البحيرة، والسائبة، والحام. أما الوصيلة فيقال إنّها من الغنم. وهي تسيب للإله، أو للآلهة، بناءً على نذر ما، أو انطلاقاً من وضع خاص بها، ولا يجوز الانتفاع بها مطلقاً. أي لا يجوز ركوبها أو أكل لحومها أو شرب حليبها حين تكون إناثاً. فهي ملكية خاصة للإله.
هذه الإبل المسيبة هي التي شكلت قطعان إبل بني أقيش في البراري. وقد حرم القرآن تسييب هذه الإبل في سورة المائدة، كما رأينا. وهي إبل مذكرة أو مؤنثة. لذا فمن المحتمل أن الإبل الوحشية المؤنثة أيضاً كانت تحاول الاختلاط بالفحول الأهلية. بناءً عليه، فقد كان أصحاب الإبل يقعقعون بين أرجل الجمال، سواء كانت مذكرة أو مؤنثة، كي لا تتواصل مع إبلهم جنسياً.
* شاعر فلسطيني