صفحات الإبداع من تنسيق: أحلام الطاهر

رواية كولسون وايتهيد
تقديم أحمد العلي
ترجمة سماح جعفر

كورا، عبدة تعمل في مزرعة قُطن خلال الفترة التي سبقت نشوب الحرب الأهليّة الأميركيّة في القرن الثامن عشر. يعيش العبيد وقتها حياةً جحيميّة، غير أن كورا وجدت في حياتها ما هو أشدّ صعوبة؛ فهي لم تكن منبوذة فحسب من قبل البِيض، بل أيضاً من قِبَل إخوانها الأفريقيّين، لأنّ والدتها هربَت من المزرعة من دون أن يتمكّن صيّادو العبيد من إعادتها، وهذا حُلم كلّ عبدٍ دون استثناء. ينضمّ إلى المزرعة سيزر، العبد الذي اصطادوه في فرجينيا، فيُعجب بكورا ويُخبرها عن أمر السّكك الحديديّة السريّة: مهارب تحت الأرض لا يُعرف من حفرها ومَن سعى إلى جلب القاطرات البدائيّة إليها، ولا يعرف البِيض الأعداء طريقاً إليها وأين تقع، فالمداخل إليها مخبّأة ومموّهة. غير أن سيزر، الذي يعرض على كورا الهرب نحو الشّمال، حيث يعيش السّود أحراراً، يعرف شخصاً يدلّه على أحد المداخل، فتأخذ حياة كورا درباً لم تتخيّلها.

يُعالج الروائي الأميركي كولسون وايتهيد (1969) في هذه الرواية التي صدرت عام 2016، مسألة العبوديّة والظُّلم الأسود - الأسود، والخُدعة الأميركية بشأن المساواة بين المواطنين منذ إعلان الاستقلال الأميركي. ورغم كتابته السرديّة المتشظّية التي تشبه اللقطات المتتابعة التي يضطرّ معها القارئ إلى إعادة القراءة دوماً، لا الركض مع السرد حتى النهاية، فإن أسلوبه هذا يترك التأثير المرجوّ منه في نفس القارئ وخياله: الحياة ليست نهراً جارياً سلساً، بل هي مليئة بالسّخام والتراب والمستنقعات، وخطوات الهرب إمّا إلى المشنقة، أو الشمس.

الفصل الأول

في المرة الأولى التي اقترح فيها سيزر على كورا الهرب نحو الشّمال، أجابت بالنفي.
كان هذا حديث جدّتها: «أجاري». لم تشاهد جدّة كورا المحيط مطلقاً قبل تلك الظهيرة المشرقة في ميناء عويده، حيث كان الماء يلتمع وقتها في زنزانة الحصن. كانوا يوضعون داخل الزنزانة حتى تصل السّفُن. اختطف مهاجمو داهوميان الرجال أولاً، ثم عادوا إلى قريتها في الليلة التالية لأجل النساء والأطفال، اصطحبوهم نحو البحر مكبلين بسلاسل تصل كل اثنين معاً. اعتقدت أجاري، بينما تحدق في المدخل الأسود، أنها سوف تجتمع مع والدها، هناك في الظلام. أخبرها الناجون من قريتها أنه عندما فشل والدها في الحفاظ على وتيرة المسيرة الطويلة، أوقد المهاجمون النار في رأسه وتركوا جسده على الطريق. أما والدتها فقد ماتت قبل سنوات.
بيعت جدة كورا عدة مرات خلال الرحلة إلى الحصن، وتم تبادلها بين تجار الرقيق لتعمل في نَظْم الوَدَع والخَرَز. كان من الصعب معرفة سعرها في عويده لأنها كانت ضمن عملية شراء بالجملة، ثمانية وثمانون نفساً بشرية مقابل ستين صندوقاً من خمرة الرُّم والبارود، وهو سعر تم الاتفاق عليه بعد مساومة قياسية في الساحل الإنكليزي. أصحاب البنية القوية من الرجال والنسوة القادرات على الإنجاب سعرهم أعلى من الأطفال، مما يجعل الحساب الفردي صعباً.
السّفينة «ناني» كانت قد انطلقت من ليفربول، وقد توقفت مرتين على طول ساحل الذهب. قام القبطان بتنظيم مشترياته من العبيد في صفوف متعاقبة، حتى لا يجد نفسه محمّلاً بمجموعة متراصّة ذات ثقافة مشتركة فتُقلقه. فما من أحد يعلم نوع التمرّد الذي قد يطبخه أسراه، فهم يتحدّثون بلسانٍ مشترك. كان هذا هو الميناء الأخير للسفينة قبل عبورهم المحيط الأطلسي. قام اثنان من البحارة الشُّقر بجرّ أجاري إلى السفينة وهما يهمهمان. كان جلدهما أبيضَ مثل العظام.
هواء الانتظار الضار، كآبة الحبس، وصراخ أولئك المكبلين دفعت أجاري إلى الجنون. وبسبب صغر سنها، لم يكن مختطفوها مستعجلين على إدخالها البلاد، لكن، في نهاية المطاف، قام بعض زملائهم الأكثر حنكة بسحبها من فترة الانتظار التي استمرت ستة أسابيع نحو المعبر. فقد حاولت الانتحار مرتين خلال الرحلة إلى أميركا، مرة بتجويع نفسها والأخرى محاولةً الغرق. تمكن البحارة من إحباط محاولتيها في المرتين، كانوا على دراية بمخططات وميول العبيد. لم تكن أجاري قد وصلت إلى حافة المركب العُليا عندما حاولت القفز في المرة الأولى. كان بالإمكان تمييز وقفتها المتكلفة ومظهرها البائس من بين آلاف العبيد. كانت مقيدة من رأسها إلى أخمص قدميها، من رأسها إلى أخمص قدميها في بؤس مأساوي. على الرغم من محاولتهم البقاء معاً في أثناء المزاد العلني في عويده، فقد اشترى تجار برتغاليون باقي أفراد عائلتها فأخذوهم من البارجة «فيفيليا»، البارجة التي بعد رحيلهم بأربعة أشهر كانت تنجرف على بُعد عشرة أميال قبالة برمودا. فقد انتشر الطاعون على متنها، وقرّرت السلطات إشعال النار فيها ومشاهدتها تتصدّع وتغرق. لم تعرف جدة كورا شيئاً عن مصير البارجة. راحت طوال حياتها تتخيّل أبناءَ عمومتها يعملون مع سادة أسخياء في الشّمال، وتُعقد صفقاتٍ حولهم بشروط أكثر تسامحاً من الصّفقات التي تتضمّنها هي. رُبما ينسجون، أو يغزلون، ولا يقومون بأعمال الحقول. في قصصها، تمكّن إيساي وسيدو والبقيّة بطريقة أو بأخرى من شراء صكوك عِتْقهم من العبوديّة، فعاشوا رجالاً ونساءً أحراراً في مدينة بنسلفانيا، وهو المكان الذي سمعت اثنين من الرجال البيض يتكلمون عنه ذات مرة. تلك الأوهام منحَت أجاري الراحة عندما كانت أعباؤها تحطّمها إلى ألف قطعة.
المرّة التالية التي تُباع فيها جدّة كورا، كانت بعد قضائها شهراً في مستشفى الأمراض الوبائيّة في جزيرة سوليفان. ما إن صَدّقَ الأطبّاء على أن جدّة كورا وبقيّة حمولة سفينة ناني خالية من الأمراض، حتى شهدوا يوماً حافلاً في السّوق، مزاداً كبيراً يجلب دائماً حشداً متنوّعاً من الشُّراة.
توافد التجار والقوادون من كل مكان على الساحل في تشارلستون، للتحقق من عيون البضائع ومفاصلها وأعمدتها الفقرية، حذرين من الاضطرابات التناسلية والآلام الأخرى. كان المشاهدون يمضغون المحار الطازج والذرة الساخنة بينما يطلق بائعو المزاد أصواتهم في الهواء. وقف العبيد عراة على المنصة. كانت هناك حرب مزايدات بين مجموعة من عُشّاق الأشانتي: أولئك الأفارقة من أصحاب السّلالة الجيّدة والعضلات المفتولة، قام مدير محاجِر الحَجَر الجيريّ بشراء حفنة من الأطفال الزنوج في صفقة مذهلة. رأت جدّة كورا صبياً صغيراً من العبيد يأكل الحلوى وتساءلت عمّا يضعه في فمه.
قبل غروب الشمس، اشتراها وكيل بمبلغ مئتين وستة وعشرين دولاراً. كان بإمكانها أن تجلب سعراً أكبر، لكن ذلك الموسم شهد وفرة في الفتيات الصغيرات. كانت بذلة الوكيل مصنوعة من أكثر الأقمشة التي رأتها بياضاً. بينما تومض على أصابعه خواتم ذات أحجار ملونة. وعندما قرص ثدييها لمعرفة ما إذا وصلت سنّ البلوغ، شعرت بمعدن الخواتم بارداً على بشرتها. تمّ وَسْمها، ليست أوّل مرّة ولن تكون الأخيرة، وتكبيلها خلال ما تبقى من يوم المزاد. في تلك الليلة، بدأ العبيد مسيرتهم الطويلة نحو الجنوب، مكبلين خلف عربات التجّار التي تجرّها الدواب. أمّا السّفينة ناني، فكانت حينئذ في طريقها إلى ليفربول، مُحمّلة بالسُّكّر والتبغ. وكان هناك عدد أقل من الصّرخات في جوفها.
ربما تظنّ أن جدة كورا ملعونة، بسبب بيعها واستبدالها وإعادة بيعها عدة مرات على مدى السنوات القليلة التالية. دائماً كانت الكوارث المذهلة تحلّ على مُلّاكِها. سيّدها الأوّل خُدع بواسطة رجل باعه جهازاً لتنظيف القطن أسرع مرّتين من مَحْلَج القُطن. كانت الرسوم البيانية مقنعة، لكن في النهاية كانت أجاري مُلكيّةً أُخرى تمّت تصفيتها بأمر من القاضي. بيعت بمائتين وثمانية عشر دولاراً في تبادل سريع، وجاء سبب الانخفاض في السعر بسبب تقلبات السوق المحلي. مَالِكٌ آخر مات بداء الاستسقاء، ثم قامت أرملته ببيع العقارات لجمع المال من أجل عودتها إلى موطنها في أوروبا. قضت أجاري ثلاثة أشهر ممْلوكةً لرجل ويلزيٍّ فقدها في نهاية المطاف هي وثلاثة عبيد آخرين واثنين من الخنازير جرّاء خسارته في جَوْلَة لعبٍ بأوراق اللعب. وهلمّ جرا.
كان سعرها متذبذباً. لكن عندما تُباع مرّات عدّة مثلها، فإن العالم يعلّمك أن تولي اهتماماً أكثر وأكثر للتفاصيل. لذا تعلّمَت أن تتكيف بسرعة مع المزارع الجديدة التي تؤخذ إليها للعمل، وأن تُميّزَ مُحطِّمي الزّنوج من المُلّاك عن الرّحيمين بهم، والكسالى عن المجتهدين، والمُخبرين عن حافظي الأسرار. السّادة والعشيقات بدرجات مكرهم، والأراضي المملوكة يائسة المستقبل عن الواعدة بالخير. أحياناً لا يريد المزارعون أكثر من حياة متواضعة، لكن هناك رجالٌ ونساءٌ يرغبون في امتلاك العالم، كما لو كان العالم مجرّد مساحات للزّراعة يُمكن امتلاكها شيئاً فشيئاً. مائتان وثمانية وأربعون ومائتان وستون ومائتان وسبعون دولاراً. أينما ذهبت وجدتهم يزرعون قصب السكّر والبقوليّات فتعمل معهم، باستثناء آخر أسبوع قبل بَيْعها مرة أخرى، حين قضت الوقت في لفّ التّبغ.
أعلن التاجر في مزارع التبغ أنه يبحث عن عبيد في سن التكاثر، ويفضل أن تكون أسنانهم مكتملة وأن يكونوا ليّنِي العريكة. كانت قد أصبحَت امرأة وقتئذ. لذلك ذهبت.
كانت تعرف أن العلماء البيض يحدقون في الأشياء لفهم كيفية عملها. حركة النجوم عبر الليل، امتزاج الأخلاط الأربعة في الدم. درجة الحرارة المطلوبة لإنتاج محصول قطن صحي. اخترعت أجاري عِلماً لجسدها الأسود وراكمت الملاحظات.
كل شيء له قيمة، وإذا تغيّرت القيمة يتغيّر كل شيء. اليقطينة السّليمة تساوي أكثر من تلك المتشقّقة التي لا تحتفظ بالمياه داخلها، والسنّارة التي تُبقي سمكة القرموط عالقةً بها أكثر قيمة من تلك التي ينفكّ عنها الطُّعم. المفارقة السّاخرة في أميركا هي أن البشر أيضاً أشياء لها قيمة معيّنة. من الأفضل مثلاً أن تقلّل خسائرك بألّا تبتاع رجلاً مسنّاً لن يبقى على قيد الحياة خلال الرحلة عبر المحيط، بل تبتاع شابّاً من سلالة قَبَليّة قويّة يجلب زبائنه أوّلاً بأوّل. الفتاة المُسْتَعبدة الوَلودة التي تعصُرُ من نفسها جِراءً صغيرة كانت مثل نبتة النّعناع، إنّها مالٌ يجلب مالاً أيضاً. إذا كنت شيئاً -عربة أو حصاناً أو عبداً- فقيمتك تحدد إمكانياتك. وبالتالي فكّرَت في مكانها.
وصلت أخيراً إلى جورجيا. اشتراها وَكيلُ مزَارع عائلة آل راندال، مقابل مائتين واثنين وتسعين دولاراً رغم الفراغ الجديد الذي شاعَ في نظرة عينيها، وجعلها تبدو بسيطة التفكير. ولبقيّة حياتها، لم تذهب أجاري بعيداً عن مزراع راندال ولم تتنفّس نَفَساً واحداً خارجها. كانت في المنزل، على تلك الجزيرة النائية التي تُطلّ على الفراغ.
تزوّجَت جدة كورا ثلاث مرات. كانت تحملُ مَيْلاً للأكتاف العريضة والأيدي الكبيرة، ما يُشبه تماماً راندال الأب، العجوز، رغم التباين في أنواع العمل الذي يضعه السيّد وعبدته في الاعتبار. كان مخزون المزرعتين جيّداً، تسعين رأساً من العبيد في النصف الشمالي، وخمسة وثمانين رأساً في النصف الجنوبي. ولذلك، فقد توفّر أمام أجاري وَفْرَة من الرّجال لتختار منهم عموماً. وعندما لم يكن الأمر كذلك، فإنّها تصبر.
أصبح زوجها الأول مدمناً على ويسكي الذرة وبدأ باستخدام يده الكبيرة لتناول كميات كبيرة. لم تكن أجاري حزينة لرؤيته يختفي على الطريق عندما باعوه إلى مُلْكِيّةٍ في فلوريدا متخصّصة في زراعة قصب السكّر. بعدها، اجتمعت مع أحد الفتيان اللطفاء من النّصف الجنوبيّ. قبل موته بسبب الكوليرا، كان يُحبّ أن يقصّ عليها قصصاً من الكتاب المقدّس، حيث كان سيده السابق أكثر ليبرالية في ما يتعلّق بعلاقة العبيد بالدّين. استمتعت بالقصص والعِبَر، وافترضت أن للرجال البيض وجهة نظر: الحديث عن الخلاص يمكن أن يمنح الأفارقة أفكاراً. الفقراء. أبناء حام. البسطاء. أمّا زوجها الأخير، فقد ثُقِبَت أذناه بسبب سرقته العسل. وظلّت جروحه تتقيّح حتى قضى نحبه.
أنجبت أجاري خمسة أطفال من هؤلاء الرجال، جميعهم وُلِدوا في المكان نفسه، على الألواح الخشبيّة إيّاها في الكوخ نفسه، وهي البقعة التي كانت تشير إليها أجاري عندما يُسيؤون التصرّف. ذاك هو المكان الذي جئتم منه، وإذا لم تفعلوا ما آمركم به، سوف أعيدكم إليه. كانت تريد تعليمهم طاعتها، فربما سيطيعون جميع السادة القادمين وينجون. اثنان منهما ماتا بسبب الحمى. قطع أحد الصبية قدمه أثناء اللعب على محراث صدئ، فتسمم دمه، فيما لم ينهض أصغرهم بعدما ضربه سيده على رأسه بكتلة خشبية. واحداً تلو الآخر. على الأقل، لم يتم بيعهم قط، قالت سيدة مُسِنّة لأجاري. وقد كان ذلك صحيحاً، ففي ذلك الوقت نادراً ما كانت مزارع راندال تبيع الأطفال. لذا كنتَ تعرف أين وكيف سيموت أطفالك.
الطفلة التي عاشَت بعد سِنّ العاشرة كانت والدة كورا، مابل. ماتت جدّة كورا، أجاري، في مزراع القطن، بينما رؤوس نبات القطن الدائريّة تصرخ حولها مثل أمواجٍ بيضاء في مُحيط غاشم. إنّها آخر أبناء قريتها، وقد جُرّت خلال صفوف النّباتات الطويلة عبر الحقل بعُقدةٍ حول رأسها، والدّم يتدفق من أنفها، والزّبد الأبيض يغطي شفتيها. إنّه أمرٌ يمكن حدوثه في أي مكان آخر. كانت الحرية ممكنة لأشخاص آخرين، لمواطني مدينة بنسلفانيا الصاخبة التي تقع ألف ميل إلى الشّمال. منذ الليلة التي اختُطفت فيها، تم تسعيرها مراراً، كانت تستيقظ كل يوم على ميزانٍ بمقياس مختلف.
اعرف قيمتك وستعرف مكانك في النظام. الهرب من حدود المزرعة كالهروب من المبادئ الأساسية لوجودك: مستحيل.
ذلك كان حديث جدّتها في مساء يوم أحد، عندما فاتحها سيزر حول السّكك الحديديّة السريّة؛ وقالت لا.
وبعد ثلاثة أسابيع وافقت.
هذه المرّة، كان الحديث لوالدتها.
* تصدر الرواية بترجمتها العربية عن «مجموعة كلمات» في «معرض الشارقة للكتاب 2017» بعدما فازت بجائزة «بوليتزر» عام 2017، وأدرجت أخيراً في القائمة الطويلة لترشيحات «بوكر» البريطانية.