رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان: ترميم الزمن المعطوب | لطالما كانت غادة السمّان في مخيّلتنا كاتبة الحب. والأنوثة المتفتّحة الواثقة من نفسها. كاتبة وجوديّة أيضاً، مسافرة بين المدن والثقافات. لم تكن يوماً راديكاليّة، على تصادم مع المؤسسة السلطوية الذكوريّة. بل اكتفت بالمناغشة والاستفزاز والغواية، مراعيةً «قواعد الاشتباك» التقليديّة بين الرجل والمرأة.
وتحت هذا السقف، انتقدت المجتمع الذكوري وتمرّدت عليه وفضحته. تجرأت على المجاهرة بالرغبة، وغازلت «الرجل» وأعلنت «عليه» الحبّ. وبهذا المعنى غادة السمّان كاتبة شعبيّة. يقترن اسمها بالرغبة المتفلتة. غير مهم إذا كان التحرر الجنسي هنا مجرّد اختراع أدبي. الأدب هو المرجع. كل ذلك جعلها في جيلنا مثالاً أعلى وأيقونة. رغم كونها ليست سيمون دو بوفوار، ولا كوليت، ولا أناييس نِن. رغم كونها لم تعلن القطيعة مع السائد!
لكن الحب، حين يكون من لحم ودم، يبدو لكثيرين صنواً لـ «الفضيحة»، ويبدو الافصاحُ عنه تشهيراً ولوثةَ عار. ما ان نشرت غادة السمّان أخيراً رسائل أنسي الحاج إليها، كما فعلت في الماضي مع غسّان كنفاني (8 طبعات منذ 1992)، حتى تعالى كونشرتو الاستنكار، كأنّها ارتكبت المحظور. علماً أن تاريخ الفنّ كلّه قائم على علاقة ملتبسة بين المستور والمعلَن، الخاص والعام، الحياء والسفور. سمعنا أن نشر الرسائل يندرج ضمن مشروعها النرجسي، لترسيخ صورتها كحوريّة بيروت العصر الذهبي وملهمة مثقفيها ومناضليها. ألم تكن كذلك فعلاً؟ تلك الشابة الموهوبة، الهاربة من مجتمعها الدمشقي المحافظ إلى عاصمة كل الاحتمالات، كان يفوح منها عبق الحريّة والتمرّد وهي تجتاز بيروت على درّاجتها، وتسوسح الرجال في الـ «هورس شو» والـ «دولتشي فيتا». ولا شكّ في أن الرسائل المحمومة التي كتبها لها أنسي الحاج، العام 1963، بخط منمنم على أوراق دفتر مدرسي، أو على قفا برقيات وكالة الأنباء في «النهار»، تؤرّخ لتلك المرحلة. إنّها جزء من ذاكرة بيروت، عاصمة الحداثة العربيّة.
تلك البيروت، لم يبق منها اليوم إلا حفنة كلمات، أعادتها لنا غادة السمّان بأمانة. بلى، رسائل أنسي هي ملك قرّاء الأدب ونقاده ودارسيه ومؤرخيه. من حقنا أن نقرأها، ونتركها تأخذ مكانها في تاريخنا الاجتماعي والثقافي والسياسي. هنيئاً للمتلصصين أيضاً. «لم أتزوّج بعد. لم تتزوّجي بعد. أرجوك يا غادة أن تأتي إليّ!». هل كانت الرسالة الأخيرة؟ مكتب أنسي الحاج القديم في «الأخبار»، يشهد أنّه عاش عاشقاً حتى آخر أيّامه. لكنّ أجمل قصص الحب تلك التي لا تكتمل. شكراً غادة!