صرفت من العمر مع الكتب زمناً أطول بكثير من ذاك الذي صرفته مع الناس. والسبب هو ربما أنّني وجدت في الكتاب نوعاً من السلوى لم أجدها عند معظم الناس، فقلّ بذلك عدد الأصدقاء وازداد عدد الكتب التي صادقتها.
وتقدم بي العمر، فترسّخت عزلتي وأضحى عالمي الحقيقي هو عالم القراءة والكتابة. ويصف فخر الدين الرازي أخلاق سنّ الشيخوخة، فيقول إنّ منها الشك في أكثر ما يقال، والامتناع عن الأحكام الجازمة، والجبن والخوف والعلم بعواقب الأمور وشهوة الأكل والوقاحة والغضب وحب السلامة. لست أدري كم من تلك الأخلاق أتحلّى بها اليوم، لكني أجد في بعضها وصفاً نفسياً بالغ الدقة لأخلاق الشيخوخة.

العلّامة الفلسطيني الكبير
خليل السكاكيني بالاشتراك مع والدي، هو الذي طوّر هذه النظرية التعليمية لتلائم الطفل العربي
ولا ريب عندي أنّ الشك والامتناع عن الأحكام الجازمة والعلم بعواقب الأمور، كلها تأتي في غالب الأحيان من التجارب التي يقع عليها المرء في الكتب. فلو لم تكن للكتب فائدة سوى هذين الأمرين، لكانت الفائدة عميمة النفع. أما ما بقي من فوائد للكتب، فليس ثمة ما أحيل إليه القارئ أفضل وأجزل وأعمق فكراً من الجزء الأول من كتاب «الحيوان» للجاحظ.
ولا مناص من الاعتراف بأنّ الوحي المباشر لهذه الذكريات، جاء من كتب عدة آخرها كتاب صدر عام ٢٠١٤ للناقد والأكاديمي البريطاني جون كاري بعنوان «البروفسور غير المتوقَّع: سيرة في أكسفورد» الذي يسرد فيه حياته الأدبية ويأتي فيه على الكتب التي تركت تأثيرها في خياله وعقله. راقتني فكرة هذا الكتاب الذي أهدته إلي ابنتي، وهي أيضاً أستاذة جامعية، وشجّعتني على السير على خطاه. ووجدتُ أنّ الإنسان الذي يمضي جل حياته في البحث والتعليم والكتابة الأكاديمية، يكون في الغالب على هامش الحياة العامة والأحداث الجسام. فإذا كان ثمة من فائدة تُرجى من تجارب حياةٍ منعزلة كهذه، فهي تكمن في استعراض ما مرّ بذاك الإنسان من الكتب والنظريات التي شغلته عبر السنين. أما ذكرياته الأخرى، فهي قد لا تهم سوى الأولاد والأحفاد وبعض الأصدقاء المقربين، هذا إذا اهتموا بها أصلاً.

القدس حوالى العام ١٩٤٣

كنت على ما أظن في الخامسة حين بدأت بتعلم القراءة. وكان كتابي الأول بدعةً بين كتب القراءة في ذلك الزمن، إذ كان يستند إلى نظرية جديدة في تعليم القراءة تقضي بأن يبدأ الطفل بتعلّم كلمات كاملة وليس بحروف الهجاء. لا أدري مصدر هذه النظرية، وإن كانت مستوردة من الغرب أو لا، لكن والدتي قالت لي في ما بعد إنّ العلّامة الفلسطيني الكبير خليل السكاكيني، بالاشتراك مع والدي، هو الذي طوّر هذه النظرية لتلائم الطفل العربي. والسكاكيني من أبرز كتّاب فلسطين، ومذكراته «كذا أنا يا دنيا» هي من أهمّ وأمتع المذكرات في العالم العربي في القرن العشرين. وهو يستعيد تاريخ فلسطين في النصف الأول من ذاك القرن على شكل يوميات يختلط فيها الجد بالهزل، وتُبقي لنا صورة تنضح بالحياة عن المجتمع الفلسطيني، رجاله ونسائه وشخصياته المختلفة ومثقفيه.
أعود إلى الكتاب. فقد انتشر هذا الكتاب في مدارس فلسطين. وهكذا كانت أولى الكلمات التي تعلمتها هي «راس، روس» و«دار ، دور»، ثم انتقلنا بعد قليل إلى كلمات من أربعة أحرف، أذكر منها «وادي» و «ساري». وفي زمن قصير، صارت القراءة متعة كبرى، خصوصاً حين وصلنا إلى أول نكتة في الكتاب: «آه ما أطيب كرابيج حلب!» و«هل أكلت منها؟»، «لا ولكن معلمي أكل منها وقال إنّها طيبة». ها ها ها! ثم ازدادت المتعة عندما أصبحت قادراً على قراءة عناوين الصحف التي كانت تصلنا إلى المنزل، وهما صحيفتا «فلسطين» و«الدفاع». كانت تلك العناوين تنقل أخبار الحرب العالمية الثانية التي لم أعرها كبير اهتمام، بل الأخبار التي استحوذت على خيالي آنذاك كانت مغامرات الشقي الصقلي سلفاتوري جوليانو عبر جبال جزيرة صقلية ووديانها، وإفلاته العجائبي المستمر من البوليس الإيطالي. ويبدو أنّ هذا الافتتان الطفولي بالأشقياء، استمر زمناً طويلاً، إذ عمدتُ قبل بضع سنين إلى كتابة بحث مشترك عن الشقي البقاعي الشهير ملحم قاسم (ولا بد من الاعتراف بأنّ زميلتي الدكتورة ميسون سكرية هي التي كتبت الجزء الأكبر من ذاك البحث).
وكانت أولى الكتب التي قرأتها هي قصص الكاتب المصري كامل الكيلاني الذي كان رائداً من رواد كتابة قصص الأطفال في عالمنا العربي، وكان أيضاً صديقاً لوالدي. رافقتني كتب الكيلاني لسنوات عدة. كان الكيلاني يختار من باقة عريضة من القصص العالمية ويسكبها بأسلوب مبسط، لكنّه فصيح العبارة. وما زلت أذكر من بينها قصة العندليب والوردة التي أحزنتني جداً، إذ تنطّح العندليب فغرز قلبه حتى الموت في شوكة ليصبغ حبيبته الوردة باللون القاني الذي كانت تشتهيه. وعلمت في ما بعد أنّها من قصص أوسكار وايلد.

من كامل الكيلاني إلى جرجي زيدان

مدرستي الأولى كانت «مدرسة الأمة» ورئيسها المربي الفلسطيني الكبير شكري حرامي الذي كانت نظرة واحدة منه تكفي لإسكات أعلى الصفوف ضجيجاً. كان يعلّمنا التاريخ، ولربما كنت حينها أسعى جاهداً لنيل رضاه، فأصبح التاريخ منذ ذلك الزمن السحيق مادتي المفضلة.

مأساة تهجيرنا من بيتنا في
القدس تجلّت تدريجاً في نوع من أنواع الهرم الذي أصاب العائلة بأسرها، كل على طريقته
وواكب ذلك الشغف بالتاريخ انتقالي من كامل الكيلاني إلى جرجي زيدان الذي التهمتُ رواياته التهاماً، من «العباسة أخت الرشيد» إلى «الأمين والمأمون» إلى «فتح الأندلس» إلى «المملوك الشارد» إلى «صلاح الدين» و«مكائد الحشاشين» وغيرها من الروايات التي لم أعد أتذكرها اليوم. لا ريب أنّ جيلاً كاملاً من الشباب العربي تربى على تلك الروايات الفاتنة التي أنعشت التاريخ العربي وجعلت منه قصصاً حية تزخر بشخصيات يكاد المرء أن يراها ويلمسها ويخاطبها ويفرح لأفراحها ويبكي لفقدانها. وكانت رواياته سريعة الحركة، مُحكمة الزمان والمكان، تتعاقب فيها المشاهد بشكل سينمائي آسر يخطف أنفاس القارئ، ولا يسمح له بتركها جانباً حتى في أوقات الطعام أو النوم. لست أدري إذا كانت ثمة دراسة أدبية معمقة لهذه الروايات، لكن مثل هذه الدراسة ضرورية في نظري لفهم هذا السحر العجيب الذى صاغ به زيدان قصصه. لن أناقش هنا تاريخية تلك القصص، ولا مصدر إلهامها الذي قد يكون الروايات التاريخية الغربية لأمثال السر والتر سكوت، لكن لا ريب أنّ براعة زيدان تتفوق على براعة سكوت في استحضار الماضي، فقد قرأت في ما بعد روايات والتر سكوت ووجدتها طويلة جداً ومملة، ويلزمها تركيز شديد وصبر مديد لمتابعة أحداثها.

الهجرة من فلسطين

كنت في العاشرة من عمري حين هُجّرنا من منزلنا في القدس، ولجأنا كما لجأ مئات الآلاف من شعبنا الفلسطيني إلى المهاجر هرباً من الإرهاب الصهيوني. لم أعِ الأمر في البدء، لكن هذه المأساة تجلت تدريجاً في نوع من أنواع الهرم الذي أصاب العائلة بأسرها، كل على طريقته. أصبح العلم والتعلم أمراً في غاية الأهمية، فتقلصت مساحة الطفولة وحريتها. هرم والدي بسرعة وتوفي بعد ضياع فلسطين بقليل، وازداد الإحساس بأنّ العلم أمر عظيم الشأن وبأنّه أولوية الأولويات. لم استوعب هذا الأمر في البدء، بل لربما تدهور مستوى ما كنت أقرأ، فانتقلت من جرجي زيدان إلى قصص أرسين لوبين المترجمة إلى العربية التي كانت رائجة في بيروت في تلك الآونة. أرسين لوبين (كنا نلفظ الاسم على وزن «ستين سبعين»): ذاك اللص الجنتلمان الذي يبرع في الاختفاء وتفادي الشرطة كأنه نسخة مدينية من الشقي سلفاتوري جوليانو أو من روبن هود، ثم يفضح من هم أكثر منه إجراماً، بل يمدّ يد المساعدة أحياناً للضعفاء والمساكين. ولربما كان على كل حال أنموذجاً نجده في أدبيات لغات متعددة على شكل اللص الظريف المحتال الذي يجد فيه الأطفال فسحة لمخيلتهم وسعيهم للالتفاف والتحايل على عالم الكبار.
هذا التدهور في مستوى القراءة تجلى كذلك في شغفي المتعاظم بمجلات «الكوميكس» الأميركية، ومنها مغامرات «توم ميكس» و«جين اوتري»، وهما من فصيلة الكاوبوي. ثم انصب هذا الشغف خصوصاً على مغامرات الطفلة «ليتل لولو» وشلّتها، أي صديقها البدين «تبي» وعدوهما «إيغي» وباقي الشخصيات. لم تكن هذه المجلات مترجمة بعد، فاضطررت إلى قراءتها بالإنكليزية التي لم تكن صعبة على كل حال. كانت «ليتل لولو» تستحضر عالماً صغيراً هو عالم ضواحي المدن الأميركية الجميلة يسرح فيها هؤلاء الأطفال بحرية تامة ومغامرات مشوّقة لا تنتهي. وانتقلت من بعدها إلى مجلة تدعى «كوميكس كلاسيكس» التي كانت تحوّل القصص الغربية الكلاسيكية إلى شرائط مصورة كأنها صندوق الفرجة. أزعج الأمر بعض أفراد العائلة الذين رأوا فيها مسخاً للروايات الكلاسيكية، لكن العجيب أنّ هذه الكوميكس هي التي شجعتني في ما بعد على الرجوع إلى الروايات الأصلية. كذلك وصلتنا في تلك الآونة أيضاً المجلات المصرية المصورة ومنها« المصور» و«آخر ساعة» و«الاثنين» التي اشترك الأهل فيها، فأقبلت عليها بنهم، وكنت أنتظرها كالولهان من أسبوع إلى آخر.
وسرعان ما تدخل الأهل: ما هذا آرسين لوبين؟ وما هذه الكوميكس؟ وماذا سيحل به إذا استمر على هذا المنوال المتدهور؟ تدخل عندئذ أخي أسامة رحمه الله الذي قرر أنّ الدواء الناجع لإنقاذي من الانحطاط يكمن في التحول إلى الشعر العربي القديم الذي كان يحفظ منه الآلاف من الأبيات. بدأ بتعليمي شيئاً من العروض، وما زلت أذكر أنّ أوّل البحور التي رسخت في ذهني بسبب موسيقيّته هو البحر الوافر: مفاعلتن مفاعلتن فعول. ووجدت فيه نغماً جميلاً سهلاً على الحفظ، فنظمت فيه بضعة أبيات أتغزّل فيها بوالدتي، إذ كنت في ذلك الحين في صميم مرحلة أوديب الفرويدية. هذا النظم الخنفشاري شجّع أخي على دفعي إلى حفظ الشعر، فكان أوّل ما حفظته (وكان يدفع لي ربع ليرة عن كل بيت أحفظه) هو قصيدة المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة: طوى الجزيرة حتى جاءني نبأ فزعت فيه بآمالي إلى الكذب.
ثم انتقلنا إلى أبي تمام وفتح عمورية، ثم إلى أبي فراس والحمامة النائحة، ثم إلى الحطيئة و«طاوي ثلاثٍ»، ثم إلى ما لا أذكر من قصائد غرزت فيَّ حباً للشعر لم تزده الأيام إلا رسوخاً. وحين أصبح التاريخ مهنتي ومصدر رزقي، اكتشفت في الشعر ليس فقط جماليته، بل أهميته الفائقة في استرجاع صور الزمن الماضي وذهنيته، الأمر الذي لم نعره بعد ما يستحق من اهتمام. فالشعر للمؤرخ هو المدخل إلى ذهنيات عصر ما، فإذا أردنا استعادة صورة ماضٍ ما، فلا بد لنا من دراسة شعره (وفنه كذلك). ونجحنا قبل بضع سنين في عقد مؤتمر دولي في الجامعة الأميركية حول الشعر والتاريخ صدر في ما بعد في كتاب بالإنكليزية تحت عنوان «الشعر والتاريخ: أهمية الشعر في إعادة بناء التاريخ العربي». غريبٌ حقاً أمر هذه البذور التي تُغرس في الطفولة، فنجدها قد أينعت في زمن الكهولة.

اليونانية واللاتينية في إنكلترا

في العام ١٩٥١، قرر الأهل إرسالي إلى مدرسة داخلية في إنكلترا، ولعل قرارهم هذا جاء من شعورهم بأنّ عملية إنقاذي لم تكن قد اكتملت، والله أعلم. وكنت متحمساً للالتحاق بمدرسة كهذه لأنني كنت قد قرأت، ولربما في«كلاسيكس كوميكس» قصة «توم براون وأيامه المدرسية» التي صدرت في عهد الملكة فكتوريا عام ١٨٥٧ وأضحت نموذجاً في ما بعد لقصص المدارس الداخلية في إنكلترا. ولا حاجة للقول إنّ أيامي في تلك المدرسة لم تكن تشبه أيام العزيز توم براون إلا في وحشيتها ونظامها الهرمي العسكري المخيف. أما مغامراته المشوّقة، فلم أحظَ منها بأي نصيب خلال السنوات الأربع التي أمضيتها في ذاك المعتقل. لن أستجدي دموع القارئ في وصف ما عانيت، لكن لا بد من الاعتراف بأمرين: أولهما تعلم اللاتينية واليونانية، وثانيهما الطاقة لاحقاً على تحمل كافة صعاب الحياة (تقريباً!) بالمقارنة مع صعاب تلك الأيام.
كان تعلم اللاتينية واليونانية أهمّ ما استفدته من مدرستي، وكانت هاتان اللغتان في تلك الأيام ما زالتا تحظيان في إنكلترا بقدر كبير من الاحترام والتقدير العلمي. وكان التخصص بهما على مستوى الشهادة الثانوية (A Level) وبالتاريخ اليوناني والروماني، يعني الولوج إلى نخبة الطلبة. كان تعلم هاتين اللغتين يعني الانفتاح على حضارتين كان لهما تأثير عميق وواسع في الحضارة الأوروبية من جهة، والحضارة العربية الإسلامية من جهة أخرى. ولم يكن تعلم اللاتينية أمراً صعباً، خصوصاً أنّ إلمامي بالصرف والنحو ساعدني على فهم أصول الصرف والنحو اللاتيني، فالمرفوع والمنصوب والمجرور نجده في اللاتينية، كذلك إنّ علم العروض اللاتيني يشبه في الكثير من نواحيه ما يقابله في العربية. وبقيت اللاتينية إلى حد ما في الذهن حتى اليوم. أما اليونانية، فوجدتها أصعب وأكثر تعقيداً، وسرعان ما طمس الزمن معالمها، رغم أننا كنا نقرأ في الصف مسرحيات ايسكلس ويوريبديس وسوفقليس، كما وتواريخ ثيوسدديس وزنوفون وبعض محاورات أفلاطون والبعض من كتاب الأخلاق لأرسطو، والبعض من إلياذة هوميروس. وكان التركيز في الصف على ترجمة النصوص بدقة، وليس على التحليل الأدبي. ومن بين المسرحيات التي طبعت نفسها في مخيلتي مسرحية «انتيغوني» لسوفقليس التي وجدت فيها بطولة روحية خارقة جسدتها فتاة في مقتبل العمر تحدّت بشجاعة ليس فقط الدور الذي فرضها عليها المجتمع كفتاة، بل أيضاً ظلم حاكمٍ متسلط يتظاهر بالتمسك بفرائض الدين.
أما الأدب اللاتيني، فكان أولاً يتمثل في كتاب يوليوس قيصر حول الحروب ضد بلاد الغال، ثم تدرجنا إلى تاسيتوس مؤرخ روما في عصره الذي وجدته أصعب بكثير في لغته، لكنه إمام المؤرخين الساخرين. وما زلت أردد إلى اليوم جملته الشهيرة بعدما دمّر الرومان مدن بريطانيا: «يجعلون منها قاعاً صفصفاً ويسمونها سلاماً»، فكأنه يصف ما فعلته وتفعله إسرائيل في فلسطين. ولعل أكثر ما رسخ في الذهن هو إنيادة فرجيل التي أعجبتني فخامة ألفاظها لا دعايتها الإمبراطورية، والتي كنت أرى فيها إعجاباً مبطناً من جانب الإنكليز، وكأن فرجيل في نظرهم يبشر بفضائل الإمبراطوريات على البشرية. أما الصراع بين أثينا وإسبرطه، فكان يوحى إلينا من جانب أساتذتنا أنّه يماثل الصراع بين إنكلترا الأثينية الليبرالية الديمقراطية وألمانيا الأسبرطية المحافظة الأوتوقراطية.
خلال تلك الأعوام الأربعة وما تبعها من سنوات ثلاث في جامعة أكسفورد، كانت الوالدة رحمها الله ترسل إليّ وإلى أختي رندة رسائل أسبوعية بالعربية بأسلوبها البديع والبسيط الذي كانت تشتهر به، وكانت تنتظر الرد الذي كثيراً ما تأخر، وكثيراً ما كان مزيجاً مضحكاً من الفصحى والعامية. وهكذا تلاشت العربية عن الشاشة، كما يقال في يومنا هذا، وأضحت الإنكليزية هي جل ما أقرأ، ولربما بعض الفرنسية من حين إلى آخر. وكانت مادة تخصصي في الجامعة هي التاريخ. وكان منهاج التاريخ في الجامعة يومئذٍ ينصبّ في الغالب على تاريخ إنكلترا في القرون الوسطى، كأن ما كان يحدث في أوروبا أو بيزنطة أو في العالم العربي والإسلامي في تلك العصور، لا علاقة له بإنكلترا على الإطلاق.

هوى كتابة التاريخ

وكان الأستاذ الوحيد بين أساتذة التاريخ الوسيط في أكسفورد الذي يأتي في محاضراته العامة على ذكر ما وراء إنكلترا من حضارات وأمم هو المؤرخ الشهير السر ريتشارد سثرن الذي كتب في ما بعد كتاباً صغيراً بعنوان «نظرات غربية حول الإسلام في العصور الوسطى» حلل فيه الفترات التاريخية لتلك النظرات. وكتابه هذا لا يزال في رأيي المنطلق لأي دراسة في هذا الموضوع، رغم صدور العديد من الكتب التي تعالج الموضوع نفسه في ما بعد. وبعد انقضاء سنوات عديدة، قُيض لي أن أجتمع به على فنجان شاي، فأخبرته بتجاربي الخائبة أيام التلمذة، وأخبرني أنّ المنهاج قد تحسن منذ أيامي تلك. وكنت في تلك الآونة أخطّط لكتابي في كتابة التاريخ عند العرب، فاستشرته لأنّ كتابة التاريخ الأوروبي كانت أحد اهتماماته الرئيسية، وأردته أن يشير علي ببعض ما صدر في ذاك المضمار لأغراض المقارنة ففعل. وكان طويلاً نحيلاً ودوداً يشبه القديسين الذين كان يكتب سيرهم كالقديس انسلم وغيره.
لم يبقَ في الذهن الكثير مما قرأته في الجامعة من كتب تعود إلى عصور إنكلترا الوسطى سوى ربما كتاب المبجّل بيد (توفي في ٧٣٥) بعنوان «التاريخ الكنسي للشعب الإنكليزي»، وقصصه المشوِّقة عن القديسين والقديسات وحياة الرهبان في أديرتهم، خصوصاً قصة الراهب كدمون ونزول الوحي عليه بطريقة تذكّر بنزول الوحي على الرسول العربي. ولفتني أيضاً ذكره لمعركة بلاط الشهداء التي تُعرف في أوروبا بمعركة بواتييه أو تور حيث مُني الفاتحون العرب بهزيمة على يد شارل مارتل، وهي أول إشارة إلى تلك الواقعة في المصادر الأوروبية. وكثيراً ما يشار إليها بأنّها من معارك التاريخ الفاصلة التي أوقفت الزحف العربي نحو أوروبا ومنعت العرب من احتلالها، لكن العرب ظلوا يرسلون الحملات العسكرية نحو أوروبا على امتداد قرنين من الزمن على الأقل بعد تلك المعركة. أما ما عدا كتاب المبجل بيد، فلا أذكر أي مصادر أخرى لتاريخ إنكلترا الوسيط. تحسنت الأمور بعض الشيء في السنتين اللاحقتين، فاخترت مادة الثورة الفرنسية ثم مادة الحرب الأهلية الأميركية. قرأت الكثير عن الثورة الفرنسية، وأذكر منها الآن كتاب جورج روديه بعنوان «الجمهور في الثورة الفرنسية» الذي أحدث ضجة في أوساط المؤرخين في تلك الأيام لاستخدامه سجلات البوليس في باريس في دراسة الجذور الاجتماعية للجماهير. وما زلت أذكر دهشتي حين قرأت تحليل المؤلف لاقتحام الباستيل وأنّ الجماهير التي اقتحمته، كانت تبحث عن الخبز وليس عن الحرية. أما الحرب الأهلية في أميركا، فكان أستاذ المادة أستاذاً أميركياً زائراً اسمه دافيد دونالد، اشتهر في ما بعد بكتابه عن الرئيس الأميركي لنكولن. كان دونالد أستاذاً جافاً يؤمن إيماناً مطلقاً بالوثائق من بيانات ومعاهدات وقوانين ومناظرات في الكونغرس وما شابه. وكنا نجتمع معه كل أسبوع في حلقة دراسية لنقرأ عليه أبحاثنا، وأذكر أنّني كتبت بحثاً عن الولايات الجنوبية الأميركية قبيل الحرب الأهلية، وحاولت أن أبرهن أنّ تلك الولايات صاغت لنفسها قومية ضيقة مستقلة في زمن كانت فيه القوميات تكتسح أوروبا، وكانت هذه القومية من أسباب نشوب الحرب الأهلية الأميركية. لم يرُقه الأمر، فالتاريخ بالنسبة إليه من صنع النُخب في المكان الأول. وهذا ما يفسر شهرته ككاتب سِير في ما بعد.
أصبح من الواضح لدي أنّ اهتماماتي لم تعد تنصبّ على التاريخ بحد ذاته، بل على كتابة التاريخ وفلسفته التي وجدت فيها مادةً غزيرة للتحليل والخيال والبحث. وضعتُ التاريخ جانباً، وأقبلت على دراسة كتابته ومنطلقاته الفكرية، ولم تكن تلك المواضيع تروق مؤرخي الإنكليز في تلك الأيام، فقد كانت النظريات التاريخية تأتي إليهم في الغالب من أوروبا وفرنسا وإيطاليا بالتحديد. لا أدري من الذي نصحني بأن أقرأ كتاب بينيدتو كروتشه «التاريخ كقصة الحرية»، إذ كاد هذا الكتاب بسبب صعوبته أن يقضي نهائياً على اهتماماتي الجديدة. لكنني ثابرت على قراءته بعناد الشباب الذي لم أعد أتحلى به اليوم، ففهمت ما نسبته نحو عشرة في المئة من نظرياته، وما رسخ في الذهن هو شعاره الشهير أنّ كل تاريخ هو تاريخ معاصر وأنّ وعي المؤرخ هو الذي يصنع التاريخ. كان كروتشه عدواً للنظريات الكبرى في التاريخ، ومن أهمها بالطبع النظرية الماركسية، وعدواً لكل محاولة لصوغ قوانين للتاريخ أو جعله علماً يشابه العلوم الطبيعية. انتقلت في ما بعد إلى كتاب المؤرخ الهولندي بيتر خيل وكتابه «نابليون: مع وضد»، وهو دراسة لمؤرخي الإمبراطور الفرنسي وصل خيل فيها إلى نتيجة مفادها أنّ التاريخ جدال لا نهاية له، وأنّ أجيال المؤرخين المتعاقبة تجد فيه ما يلائم أهواءها، وأنّ الوصول إلى ما قد نسميه الحقيقة في التاريخ أمر يلامس الاستحالة. وكما كتاب خيل، كذلك استهواني في تلك الفترة كتاب المؤرخ البلجيكي هنري بيرين بعنوان «محمد وشارلمان» الذي طرح فيه نظرية قوامها أنّ الفتوحات العربية الإسلامية هي التي أغلقت أبواب أوروبا التجارية، ما أدى إلى نشوء النظم الإقطاعية فيه الممثلة في مملكة شارلمان، أي إنّ «محمد» أدى إلى «شارلمان». ووجدت في هذه الكتب نظريات قد نصفها بالجمال لما فيها من تأويلات بسيطة تلخص التاريخ تماماً كما لخص أينشتاين قوانين الفيزياء بمعادلة بسيطة جميلة.
والخلاصة أنّ هذه الكتب وغيرها مع مشاربها المختلفة هي التي استحوذت على فكري بالكامل، فلما جاء زمن الامتحانات النهائية، حصلت على علامة ممتازة في موضوع كتابة التاريخ، وعلى علامات متوسطة في المواد التاريخية البحتة. وكانت النتيجة درجة الشرف الثالثة، أي ما يعادل درجة C. وخاب ظن العائلة في «نبوغي» كما كان قد خاب من قبل، ولم أشعر بأنّني استرجعت البعض من صدقيتي في أكسفورد إلا بعد تخرجي بخمس وعشرين سنة، وذلك حين دعيت إلى إلقاء محاضرة جورج أنطونيوس السنوية في مركز دراسات الشرق الأوسط في أكسفورد، وكان موضوعها «فلسطين في العصور العربية الوسطى»، فنالت إعجاب الراحل الكبير ألبرت حوراني وغيره من المؤرخين، فاكتفيت بهذا الإعجاب من جانب «الأكسفورديين»، وشعرت بأنّني قد «انتقمت» أخيراً من جامعتي!

في الجامعة الأميركية في بيروت

طفقت بعد التخرج أبحث عن وظيفة. وكانت الجامعة الأميركية في بيروت هي الوجهة الطبيعية، إذ كانت جامعة والدي وأعمامي جميعهم، وكان لي فيها أخَوان وأخت بين أعضاء التدريس. وساعدني أحد الأقرباء، فاستقبلني عميد كلية الآداب والعلوم المرحوم الدكتور فريد حنانيا، وقرّ الرأي على أن ألتحق بدائرة الثقافة العامة كما كانت تسمى في ذلك الزمنGeneral Education. ولا بد من بعض الكلمات عن هذه الدائرة، لما كان لها من عميق الأثر في علاقتي بالكتب وتوجهي في ما بعد باتجاه تاريخ الفكر. أتت فكرة هذه الدائرة من أميركا ومن جامعة كولومبيا تحديداً، وكانت مبنية على مبدأ تربوي قوامه أنّ الطالب أو الطالبة، مهما كان موضوع اختصاصهم، لا ينبغي أن يغادروا الجامعة دون أن يكونوا قد اطلعوا على بعض أمهات الكتب في الحضارة الغربية، قديمها وحديثها. وانتقلت الفكرة هذه إلى بيروت وأُنشئت هذه الدائرة قبل التحاقي بها، عام ١٩٦٠، بنحو خمس سنوات. وكانت النصوص المقررة تنقسم إلى أربعة أقسام تاريخية: قديم ومتوسط وحديث ومعاصر، وتمتد على مدى سنتين من الدراسة. وكانت تلك النصوص عبارة عن مقتطفات يقرأها الطلاب كل أسبوع. وكان الأسبوع يبدأ بمحاضرة عامة لجميع الطلاب حول النص المقرر، يتبعه بعد الظهر اجتماع للأساتذة للنقاش حول المحاضرة والنص. ولم تكن معظم النصوص القديمة والمتوسطة غريبة عني، على عكس معظم النصوص الحديثة والمعاصرة. لكنني وجدت أنّ كافة هذه النصوص تستوجب الكثير الكثير من الإعداد والتحضير كي تُقدّم إلى الطلاب في سياقها الفكري والتاريخي. ما هي أهمية هذا النص؟ وكيف نقرأه؟ وما قيمته لزماننا هذا؟ وماذا وكيف ولماذا وإلى آخره من مشاكل تأويل النصوص التي لا تنتهي.
وما زلت إلى اليوم أقع في مكتبتي على بعض الكتب التي كنت ألجأ إليها في ذلك الزمن للتنوير والاستلهام. ومن بين أوائل الكتب التي أنجدتني كتاب الفيلسوف البريطاني برتراند رسل بعنوان «تاريخ الفلسفة الغربية»، فكان في البدء نعم المنجد، إذ كان شمولياً في تغطيته التاريخية، أي من أفلاطون وصولاً إلى معاصريه مثل برغسون وغيره. نشر رسل كتابه في أميركا في الأربعينيات، ويعترف في مذكراته لاحقاً بأنّ القصد من كتابته كان الربح المادي ليس إلا. هو كتاب يتوجه نحو القارئ العادي والطلبة المبتدئين بأسلوب مشوِّق مبسط مليء بتعليقات وتهكمات رسل نفسه حين يوجز أو يختصر ما يمرّ به من فلسفات لا يستسيغها. لم يعدْ لهذا الكتاب كبير أهمية في يومنا الحاضر بسبب سطحيته وتاريخيته المتعثرة. لكنه كان لي في البدء معيناً ونصيراً يلخص نظريات فلسفية كانت ستستغرق من وقتي الكثير لفهمها. ولا ريب في أنّ تلخيصات رسل تلك قد شابها الكثير من التشويه، لكنني وجدت في ما بعد أنّ سوء الفهم في بعض الحالات قد يؤدي إلى إثراء المعرفة بما يوازي حسن الفهم.
وتبع رسل العديد من الكتب التي أنجدتني، وقد أعود إلى بعضها في ما بعد. ورسخت النصوص المقررة في الذهن، وأصبحت بالنسبة إليّ جزءاً أساسياً من تكويني الثقافي، فقد كان تعليم هذه النصوص سنة بعد سنة يرسخ فهمها ويعمقه. وبعدما كان الاعتماد في السابق على ما قد ينجد الفهم ككتاب رسل وغيره، أصبح لديّ من«الخبرة» في تعليمها ما يكفي لتأويل تلك النصوص تأويلات شخصية تستند إلى العديد من النظريات الأدبية المختلفة وتندمج في قالب مؤلف من مصادر نظرية متعددة. وهكذا، تكوّن لديّ مخزون لا بأس به من الإلمام بتاريخ الفكر، واستقر عندي التصميم على أنّ تاريخ الفكر هو ما سأصرف إليه اهتمامي في المستقبل. والفضل في هذا كله يعود إلى دائرة الثقافة العامة واجتماعات الأساتذة الأسبوعية والنقاشات التي كانت تدور في ما بيننا حول النصوص وحول أفضل السبل لفهمها وإيصال هذا الفهم لتلاميذنا.

الإلياذة والأوذيسة وأفلاطون وأرسطو

في البدء كان هوميروس! كانت الوالدة رحمها الله قد ترجمت الإلياذة والأوذيسة عن النص القصصي لهاتين الملحمتين الذي صاغه الكاتب الإنكليزي الفرد تشرش، وكنت قد قرأت هذه الكتب ثم قرأنا بعضها بلغته الأصلية في المدرسة الإنكليزية، فكانت القصة بخطوطها العريضة معروفة لديّ عندما وصلت في آخر المطاف إلى تدريسها.


وصورة البطل تختلف اختلافاً بيّناً بين الملحمتين، يتجسد في الاختلاف بين اخيليوس واوديسيوس، ثم في مغزى البطولة عند غيرهما من الشخصيات التي تزخر بها تلك الملحمتان. هل للبطولة معنى واحد عند هوميروس؟ هذه اللحظات الإنسانية البحتة في خضم المعارك بين الإغريق وأهل طروادة: ماذا تعني في سياق الملحمة ككل؟ خذ مثلاً الزيارة التي يقوم بها ملك طروادة بريام لاخيليوس يتوسل فيها إليه أن يردّ له جثمان ابنه البطل هكتور الذي كان اخيليوس قد قتله وحلف أن يجعله طعماً لجوارح الطيور. هي ملحمة قد نراها ظاهرياً كأنها تمجد الحرب والبطولة الحربية، لكن هذا اللقاء بين الأب المفجوع والبطل المتوحش ينتهي إلى بكاء الاثنين معاً تفجعاً على عبثية الحروب وما تخلف من المآسي والأحزان. هذه اللحظات الهومرية وغيرها الكثير في الإلياذة تجعل من هوميروس شاعراً يلحظ أدق وأصدق المشاعر الإنسانية وأكثرها عمقاً، فتصبح الملحمة سجلاً لا للحروب فحسب، بل لما يواكب هذه الحروب من انفعالات وعذابات النفس البشرية.

أول الكتب التي قرأتها هي
قصص المصري كامل الكيلاني الذي كان رائداً من رواد كتابة قصص الأطفال في عالمنا العربي

أو خذ مثلاً اللحظة التي تقف فيها هيلين الفاتنة على أسوار طروادة مع الملك بريام، وهو والد عشيقها باريس الذي اختطفها من زوجها الإغريقي، هيلين التي من أجلها دارت هذه الحرب الماحقة. تقف هيلين فتشير إلى أبطال الإغريق، وهم زملاء زوجها وحلفاؤه، وتعرّف الملك إلى أسمائهم واحداً واحداً. تندب هيلين حظها البائس، فيواسيها الملك ويضع اللوم على الآلهة التي تعبث بمصائر البشر كالأطفال مع اللُّعَب، فنجد أنّ البطولة الحقة هي البطولة البشرية التي يتهددها الموت، وليست الخوارق التي تأتي بها تلك الآلهة الخرقاء السخيفة التي لا تموت. أما الأوذيسة، فهي ملحمة من صنف آخر تماماً. ملحمة الحنين إلى الأوطان، ملحمة الخضوع للاختبار والتجارب والآلام والدموع، من خلال رحلة نخالها قد لا تنتهي لكثرة ما فيها من العوائق والتعرجات والإغراءات. وما زلت أجد فيها إلى اليوم صورة ملحمية لمعاناة شعبي الفلسطيني وأملاً لا يخبو أبداً في العودة.
أفلاطون الإلهي وأرسطو... ماذا؟ الدنيوي؟ يا من «يدعي في العلم فلسفةً»! لم يسبق لي أن تفلسفت ولن أتفلسف الآن، بل جلّ ما أستحضره في الذهن اليوم هو بعض النصوص من هذا الثنائي الجليل الذي لا ريب قد دخل في سماء الأبدية. في ما يختص بأفلاطون، لم أقتنع بحججه حول ضرورة وجود الكمال في عالم المُثُل من خلال انعدامه في هذه الدنيا، بل إنّ تعدد هذه الكمالات من شأنها في رأيي أن تخلق ما هب ودب من كمالات متناقضة. كذلك لم أقتنع برفضه القاطع للنظام الديموقراطي، فالفارابي مثلاً يرى في هذا النظام بعض الميزات ويختلف مع أفلاطون حول هذا الموضوع. لكن لغة أفلاطون هي في القمة من البلاغة والحسّ الأدبي، فمحاوراته قد ينالها من سهام الفلاسفة ما ينالها، لكنها تبقى على الدهر مثالاً أدبياً لا نظير له في البساطة والوضوح وعمق الرؤية. خذ مثلاً النص الذي في «جمهوريته» حول مساواة النساء بالرجال. هذا النص الذي كُتب قبل زماننا الحاضر بألفين وخمسمئة سنة، لا يزال إلى اليوم يمتلك رونقاً أدبياً ومنطقياً وعاطفياً يضاهي النصوص المقدسة. فيا ليته يُدرّس في مدارسنا منذ الصفوف الابتدائية كي تترسخ هذه المساواة فى ضمير الناشئة العربية. أما أرسطو، وهو المعلم الأول، فقد سعى الفارابي وغيره «للجمع بين رأيي الحكيمين»، ولا أدري إذا كان سعيه هذا ناجحاً، غير أنّ مروحة اهتمامات أرسطو أوسع من اهتمامات أفلاطون، وخصوصاً في مجال الطبيعة. لا يمتلك أرسطو موهبة أفلاطون الأدبية، فأسلوبه جافّ ومختصر ولا يحضرني الآن أي نص من كتبه سوى بعض النتف من كتابه في الأخلاق. لكن علينا أن نعترف بأنّ أرسطو هو في كل مكان، وأنّه جزء أساسي من تراثنا الفلسفي والعلمي العربي. لم يسلم أرسطو من النقد، فالجاحظ مثلاً يفنّد العديد من نظرياته حول الحيوان، ونحن اليوم نفتقد روح النقد تلك، والتي تجلت عند أسلافنا، فجعلت منهم أنداداً لأرسطو وأفلاطون. ولا يحضرني اليوم أي كتاب نقدي عميق كتبه مفكر عربي معاصر وخلق أسلوباً عالمياً جديداً في التفكير سوى كتاب الاستشراق للراحل إدوارد سعيد.
باستطاعتي طبعاً الرجوع إلى أرشيف الدائرة لأستذكر النصوص المقررة في ذاك الزمن السحيق، لكنني لا أسعى هنا للتعليق عليها كلها، بل فقط تلك النصوص التي حفرت بعض الأخاديد في الوجدان والذاكرة. وهكذا يحضرني الآن بعد هوميرس والإلاهيان أفلاطون وأرسطو قصيدة للوكريشيوس الروماني (القرن الأول بعد الميلاد) الرائعة «حول طبيعة الأشياء» التي تذهل القارئ العصري بعصريتها وبرفضها القاطع للفكر الديني الذي تنعته بالميثي، وبتركيزها على العقل. هاك ما جاء من أبيات في مقدمة الفصل الثاني من القصيدة أردتُ تردادها بلغتها الأصلية لما فيها من إيقاع موسيقي، وهي على وزن مفتعلن فعلن فعلن فعلن فعلاتن:
«سوافِ مَري مَغنو توربَنتِبس ايكورا فَنتيس/ اي تِررا مغن التيريوس سبِكتارِ لابورِم/
نون كويا فِكساري كويمكوامسْتْ يوكوندا فولُبتاس/ سَد كويبس إبسه مَليس كارياس كويا كيرنري سواف است».
«يا لها من بهجةٍ حين تعصف الرياح في مياه البحر المتلاطم/ أن نشهد من الشاطئ ما يعانيه الغير من متاعب/ لا للتشفي والالتذاذ بمشاهدة عذابات الآخرين/ بل البهجة أن ندرك ما فاتنا نحن من تلك العذابات».
نجد هنا في لوكريشيوس صورة العاقل الذي يقف على شاطئ الأمان، حراً طليقاً من كافة الأساطير التي«تعصف» بالإنسان. تتبع تلك الدعوة إلى التعقل، نظرية حول الكون ترى فيه مجرد ذرات من أصناف متفاوتة في النعومة والخشونة، وهي تلتحم لتشكل الأجساد والأرواح ثم تنحل، في دوران لا ينتهي. والموت ليس سوى الانحلال، فلا داعي يدعو للخوف من عقاب في جحيم ولا لأمل في جنة، بل العاقل هو الذي يتحرر من تلك الأوهام، وينصرف إلى السعادة التي يعرّفها على أنّها السعادة الفكرية العقلية المتحررة من التعصب الديني والماورائيات، والمنكبة على دراسة الكون دراسة «علمية» بحتة. فالتعصب الديني هو الذي يجلب على البشر معظم المآسي والشرور. أما هذا العالم الذي نعيش فيه، فليس إلا عالماً واحداً من بين عوالم عديدة. وللشاعر أيضاً رأي كان له تأثيره العميق في الفكر السياسي الأوروبي، أي ما جاء عنده حول نشوء المجتمعات الإنسانية وقيامها على أساس «عقد اجتماعي».

لا ريب أنّ جيلاً كاملاً من الشباب العربي تربى على روايات جرجي زيدان الفاتنة التى أنعشت التاريخ العربي وجعلت منه قصصاً حية تزخر بشخصيات يكاد المرء أن يراها ويلمسها ويخاطبها

ترى، ما الذي يجعل من هذه النصوص الكلاسيكية الموغلة في القدم، أعجمية كانت أو عربية، نصوصاً تستحوذ على الذهن في يومنا الحاضر؟ لعل الجواب الأسرع هنا أن نقول إنّ هذه النصوص تخاطبنا بشكل مستقبلي، أي إنّها تستوجب القراءة المتجددة والتأويل المستمر في كل عصر من العصور. يقول الأديب والشاعر الأميركي الكبير عزرا باوند، إنّ النصوص الكلاسيكية هي «كالأخبار «الصحفية» التي تبقى دوماً أخباراً». وربما عدتُ لاحقاً إلى هذا «التفلسف» وإلى تعريفٍ أدق للنصوص التي نسميها اليوم كلاسيكية.
أعود إلى النصوص المقررة التي ما زالت حاضرة في الذهن، فأصل إلى ثيوسيديدس الإغريقي (ت. حوالى ٤٠٠ ق.م.) و«تاريخ الحروب البلبونيسية». يؤرخ هذا الكتاب لحروب عاصرها المؤلف ولعب فيها دوراً عسكرياً فاشلاً، أدى به إلى النفي عن مدينته أثينا.
وفي مقدمته «المستقبلية»، يقول المؤرخ إنّ تاريخه يستند إلى أحداث شاهدها بنفسه أو استقى أخبارها من ثقاتٍ، وإنّ تاريخه يختلف جذرياً عن باقي التواريخ التي ينعتها بالأساطير أو بالشاعرية، الأمر الذي يمنح تاريخه في رأيه فائدة كبرى وعِبراً شتى لأهل السياسة، فيصفه بأنه «ذخر للأبدية». لن أخوض هنا في الجدال القائم حول ما إذا كان ثوسيديدس هو فعلاً أول المؤرخين «الموضوعيين» أو أنّه هو نفسه أدبي بل شاعري الهوى، فأنا لست خبيراً في هذا الموضوع، لكن لا يمكن أي قارئ أن يتجاهل النفحة «التراجيدية» في بعض أحداثه، ومنها على سبيل المثال وصفه لخطاب بريكليس الزعيم الأثيني في ذكرى شهداء الحرب، أو وصفه الدقيق للطاعون الذي اجتاح أثينا، أو قصة المناظرة الذي دارت بين الأثينيين وأهل جزيرة ميلوس إبان حصارهم لها، أو قصة الحملة العسكرية الأثينية ضد جزيرة صقلية، أو قصة صعود الديماغوجي كليون ليصبح حاكم أثينا الفعلي. فهذه الأحداث جميعها ربما لم تكن قد جرت تماماً كما وصفها، لكنها جميعها سُكبت في قالب تراجيدي واضح يميز بين القول والفعل، بين الحق والقوة، بين المبادئ والتطبيق، بين الغريزة والتعقل. وهكذا نجد أنّ خطاب بريكليس الذي يمجد فيه أخلاق الأثينيين، يتبعه مباشرة وصف الطاعون حيث نجد تلك الأخلاق العالية قد انحلت بالكامل.

أما المناظرة مع أهل جزيرة ميلوس، فتذكرني أكثر ما تذكرني بديبلوماسية السيد هنري كيسنجر في الشرق الأوسط، المبنية على ميزان القوى فحسب لا العدالة، والحملة العسكرية ضد صقلية هي أشبه ما تكون بالمغامرات العسكرية الأميركية في كافة أرجاء المعمورة منذ فييتنام وحتى يومنا هذا، وصعود الديماغوجي كليون إلى سدة الحكم، يذكر بصعود طوني بلير ورونالد ريغان في بريطانيا وأميركا. فأخبار ثيوسيديدس هي فعلاً من صنف «الأخبار التي تبقى دوماً أخباراً»

دانته والنهايات السعيدة

أصِلُ إلى دانته الليغييري (ت. ١٣٢١م.) وإلى «الكوميديا الإلهية». والكوميديا في زمن دانته، لم تكن تعني القصة الضاحكة، إذ لا مكان للضحك إطلاقاً عند دانته، بل تعني القصة التي لها نهاية سعيدة.

اكتشفت في الشعر ليس
فقط جماليته، بل أهميته
الفائقة في استرجاع صور الزمن الماضي وذهنيته


هذه القصيدة بأجزائها الثلاثة هي رحلة، ولعلها حِجّة، في العالم الآخر، تبدأ بالجحيم وتصل إلى المطهر أو البرزخ لتنتهي في الفردوس. وهي ذات نطاق شاسع الطول والعمق والامتداد، في قالب هندسي معماري محكم البناء. هي رحلة أرادها الشاعر أن تمتلك درجات متعددة من الرمزية، إذ إنّ عالمنا هذا ليس إلا صورة، أو رمزاً للعالم الآخر. تبدأ الرحلة مع الشاعر الذي يجد نفسه تائهاً في غابةٍ، هي غابة الضلال والشك. ويذكرنا الأمر بكتاب «المنقذ» للإمام الغزالي، فلو شاء الإمام أن يكتب تجاربه في رحلته الروحية شعراً، لوجدنا دانته متعاطفاً معه في الكثير من الأمور. كذلك إنّ العديد من الباحثين، من أوروبيين وغيرهم، قد لمّحوا إلى التقارب بين أبي العلاء في «رسالة الغفران» وكوميديا دانته. وما زلت أذكر أنّ أحد زملائي في الدائرة يومئذ، وهو الأستاذ ريتشارد لوماي، أطلعني على بعض الجمل القصيرة في دانته التي استعصت عبر العصور على فهم الخبراء، وأثبت أنّها باللغة العربية. هذه العلائق بين دانته والحضارة العربية ما زالت كما يقول المثل الإنكليزي «تنتظر خروج المحلَّفين»، لكي نصل إلى القطع بصحتها، لكنها بلا شك جديرة بالملاحقة العلمية.
جحيم دانته هو حفرة على شكل مخروطي مقلوب رأساً على عقب داخل الأرض، نجمت عن طرد الرب لإبليس من الجنة. وهذه الحفرة هي في الوقت ذاته حفرة حقيقية ورمزية ينتشر على جوانبها الداخلية ما يشبه الخنادق اللولبية التي تؤوي الأصناف المختلفة من الخاطئين، بدءاً من مرتكبي الصغائر (خطايا الجسد) في أعالي الحفرة، ووصولاً إلى الكبائر (خطايا العقل) في قاعها. كل خطيئة من تلك الخطايا لها عذاب يناسب الخطيئة المعينة بحيث يتعرف كل خاطئ إلى حقيقةِ خطيئته (أو كما جاء في القرآن الكريم «وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون»، «ذوقوا ما كنتم تعملون»). فخطايا الجسد كالحب المحرم مثلاً، تُعاقب بوضع المحبين في دوامة من الأعاصير، فكما أنّ الحب المحرم قد عصف بهم في الدنيا، كذلك تعصف بهم الرياح في الآخرة. وهكذا دواليك.
وفي القاع، نجد إبليس في بحيرة من الجليد يقضم باستمرار رأسي يهودا الاسخريوطي الذي خان المسيح (= الكنيسة) وبروتوس الروماني الذي خان يوليوس قيصر (=الإمبراطورية أو الدولة)، فالخيانة وهي أعظم الخطايا عند دانته «تجلّد» الأحاسيس البشرية بالكامل.

ما زلت أذكر دهشتي حين
قرأت تحليل روديه لاقتحام الباستيل وأنّ الجماهير التي اقتحمته، كانت تبحث عن الخبز لا عن الحرية

ورحلة الشاعر تأخذه من خندق إلى آخر أعمق منه برفقة الشاعر الروماني فرجيل الذي هو المرشد والدليل الذي يشرح لدانته بالتفصيل تركيب الجحيم وبُنيته. يلتقي الشاعران بعدد لا يحصى من الناس من معاصرين وقدماء، فمنهم من يعبّر عن نوع من التوبة، ومنهم من لا يزال مصراً على خطيئته حتى بعد الموت، وهم في الوقت ذاته أحياء وأموات (أو كما جاء في القرآن الكريم «ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت»)، ولا أمل لديهم في الخروج من الجحيم، فهم فيها خالدون.
أما المطهر، فهو جبل مخروطي الشكل في المقلب الآخر من الكرة الأرضية نجم عن حدوث حفرة الجحيم. وهذا الجبل له أيضاً خنادق لولبية خارجية يجتازها صعوداً كل من له أمل في الوصول إلى القمة، ومن ثم إلى الفردوس. ويقول البعض إنّ هذا المطهر هو أقرب أجزاء الكوميديا إلى الواقع، إذ نحن هنا بصحبة أناس ما زالوا يأملون الوصول إلى الجنة من خلال التخلص التدريجي من الخطايا وتطهير النفس البشرية من شوائبها. وفي القمة، نصل إلى الفردوس الأرضي حيث تنطلق النفس المطهّرة إلى الفردوس الأعلى. أما الفردوس الأعلى، أي الجزء الثالث من الكوميديا، فهو على شاكلة وردة (أو لربما مسرح روماني دائري الشكل) نجد فيه القديسين على طبقاتهم بالنسبة إلى قربهم من العرش. وهذا الجزء الأخير لم ينل على مرّ الزمن من إعجاب القراء ما ناله الجحيم والمطهر، فهو كالصورة الثابتة التي لا حراك فيها، فيما الأولان في حراك وغليان مستمران.
هذه إذاً «البانوراما» الشاملة لكوميديا دانته، وقد لا يكون من الصعب أن يتصور المرء ما تحفل به هذه الملحمة الشعرية من حوادث ولقاءات وحوارات وحِكَم وصوَر ومشاهد وخُطب منها اللاهوتي ومنها العلمي ومنها السياسي ومنها الأخلاقي وإلى ما هنالك، فهي عالم دانته الأوروبي القروسطي بأسره. ولنا نحن العرب حصة في تلك الملحمة، إذ نجد مثلاً في مكان اسمه «ليمبو» حيث لا عذاب ولا أمل بعض الفلاسفة القدماء كأرسطو وأفلاطون ثم بعض فلاسفة العرب كابن رشد، وكذلك السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي كان مثالاً للشهامة في زمن دانته. أما الرسول العربي الكريم، فهو وبصحبة علي عليه السلام في خندق الذين شقوا الكنيسة، أي إنّ الإسلام في نظر دانته هو هرطقة مسيحية.
كنت في العام ١٩٨٣ في زيارة لإيطاليا، فوددت أن أزور بعض الأرض التي كتب عنها دانته، فاستقللت باصاً ريفياً إلى بلدة «غوبيو»، ثم إلى أعلى الجبل الذي فيه كنيسة القديس «أوبلدو». دخلت إلى الكنيسة، فوجدت نفسي وحيداً تماماً وأمامي وعلى بعض الارتفاع من أرض الكنيسة، تابوت زجاجي يرقد فيه القديس المذكور وجسده ما زال سالماً من الفساد.

كان كروتشه عدواً للنظريات
الكبرى في التاريخ، أهمها بالطبع النظرية الماركسية، وعدواً لكل محاولة لصوغ قوانين للتاريخ أو جعله علماً يشابه العلوم الطبيعية
إنتابتني هيبة المشهد، وربما بعض الفزع، فلم أنتظر الباص للعودة مجدداً إلى البلدة، بل هرولت نزولاً في منحدر شديد من الأرض فيه جدول صغير، وإذا بي أقع في منتصف الطريق على لوحة من المرمر الأبيض نُقشت عليها بعض أبيات دانته:
«بين نهر توبينو والماء المنحدر
من القمة المختارة التي يرقد عليها القديس اوبلدو
تروي المياه من الجبل بساطاً يتدلى من الأرض خصيباً»
فاكتفيت بهذا اللقاء المباشر مع عالم دانته، فكان الأمر بالنسبة إلي كأنه كشف أو حال أي كذاك الذي يأتي على أهل التصوف، رغم أنني لست منهم في العادة. أما أبيات دانته التي رسخت في الذهن، فهي كثيرة وما زلت أرددها أحياناً لنفسي أو لمن يتلطف ويصغي إليها، فمنها مثلاً: «نسّون ماجيور دولوري كيه ريكوردارسي
دل تمبو فيليشه نيللا ميزيريا» أي «لا عذاب أفدح من أن نتذكر تلك الأوقات السعيدة ونحن في حال البؤس».
أو التبرير الذي جاء على لسان باولو وفرنشسكا لممارستهما الحب الحرام بعد قراءة كتاب عن الحب:
«غليوتو فو إل ليبرو اي كيه لو سكريزه/ كل جيورنو بيو نون في ليغغممو افانتي» أي «قوّاد ذاك الكتاب وقوّاد أيضاً مؤلفه! وفي ذاك اليوم لم نعد نقرأ». أو البيت الأخير من الكوميديا: «لامور كيه موفي إل سوله ايه لالتريه ستلله» أي «الحب الذي يحرك الشمس والنجوم الأخرى».

مكيافيللي وأقرانه العرب

ومن دانته إلى نيكولو مكيافيللي (ت. ١٥٢٧م.) وكتابه «الأمير» الذائع الصيت، الذي يراه العديدون أنّه بمثابة الدستور لما يُسمى اليوم سياسة الأمر الواقع. هو كتاب صغير الحجم لا تستغرق قراءته سوى ساعات قليلة، غير أنّه أحدث في زمانه ضجة كبرى سرعان ما حملت بعض معاصريه الأوروبيين على وصفه بأنّه من عمل الشيطان. في الأدب الإنكليزي المعاصر له، نجد على سبيل المثال أنّ لفظة «العجوز نك» (مختصر نيكولو) أضحت مرادفة للشيطان. يقع الكتاب في ستة وعشرين فصلاً قصيراً تتضمن مقدمته رسالةَ إهداءٍ إلى لورنزو دي مديتشي حاكم فلورنسا آنئذ‪،‬ يقول فيها مؤلفه إنّه توخى البساطة في الأسلوب بعدما اكتسب خبرة طويلة الأمد في الشؤون العامة وقرأ الكثير عن تاريخ اليونان والرومان.

اللحظات الهومرية في
الإلياذة، تجعل هوميروس شاعراً يلحظ أدق المشاعر الإنسانية وأصدقها وأكثرها عمقاً
وهو كتاب ينتمي إلى صنف أدبي عرفته العديد من الآداب في الشرق والغرب ويسمى في العادة «نصيحة الملوك» أو «مرايا الأمراء». ولدينا في التراث العربي والإسلامي أمثلة عديدة من هذا الصنف الأدبي، من أشهرها «‬الفخري في الآداب السلطانية» لابن طباطبا‪ت.٩٣٤ م.) و) ‬«سراج الملوك» للطرطوشي (ت. ١١٢٧م.)، ولعل أشبهها بكتاب «الأمير» هو كتاب «سياست نامه» بالفارسية للوزير السلجوقي الشهير نظام الملك (ت‪.‬ ١٠٩٢م.) . ولهذه الكتب، بما فيها «الأمير»، بنية متشابهة في الغالب، فهي تمزج بين الحكمة والشواهد التاريخية لتصوغ منها النصائح الملكية المختلفة والموزعة على فصول، لكل فصل منها موضوع خاص يتصل بشأن من شؤون الحكم والحاكم، وهذه المواضيع كثيراً ما نجدها متشابهة في تلك الكتب.
يقول مكيافيللي في الفصل الثاني إنّ الذي يرث الحكم من والده أو أجداده، لا يحتاج إلى النصح بقدر ما يحتاجه من يمارس الحكم لأول مرة، فكتابه يتوجه على الخصوص إلى الحاكم الجديد حين تكون مشاكل الحكم أكثر تعقيداً وصعوبة. وهذا الحاكم الجديد غالباً ما يحتاج إلى استعمال القسوة والعنف، فتأتي النصيحة بأن يستعملها الحاكم مرة واحدة وعلى نطاق واسع. أما جود الحاكم وكرمه، فقطرة بعد قطرة. ويوجز مكيافيللي العلاقة مع الشعب كما يلي: «هل من الأفضل أن يكون الحاكم مرهوب الجانب أم أن يكون محبوباً؟ الجواب أن يكون الاثنين معاً، لكن إذا كان لا بد من الاختيار، فالافضل أن يكون مرهوباً. لكن ينبغي أن لا يكون مكروهاً من الشعب، ومن السهل تفادي الكراهية إذا امتنع الحاكم عن انتهاك حُرُماتهم أو التعدي على أملاكهم. ويصف أخلاق البشر كما يأتي: «إنّهم في الغالب عاقّون ومتقلّبون وكذّابون وخادعون وجبناء وجشعون، فهم يمحضونك الولاء ما دمت تحسن معاملتهم، لكن ما إن يقترب منك الخطر، حتى ينقلبوا إلى أعداء. وقبل كل شيء، على الحاكم أن لا يعتدي على ممتلكات شعبه، إذ «سرعان ما ينسى الإنسان فقدان والده، لكنه لا ينسى أبداً فقدان ممتلكاته».
وهكذا نقترب بالتدريج إلى الفصل الثامن عشر، وهو الفصل الأعظم شهرةً في الكتاب الذي خلق للمؤلف سمعته السيئة في زمانه. يبدأ الفصل بوصفٍ مجازيٍ للحاكم الذي يصفه بأنّه يجب أن يكون نِصفُه بشرياً ونصفه الآخر وحشياً، كذلك ينبغي أن يتّعظ بالثعلب والأسد، فيكون كالثعلب في اكتشاف الفِخاخ والمكائد، وكالأسد في طرد الذئاب عنه. ونأتي إلى الفقرات الشهيرة وهي كما يأتي: «لذا، فإنّ الحاكم الحصيف لا يمكنه ولا ينبغي له أن يفي بوعوده حين تنتفي الأسباب التي جعلته يعطي الوعد في السابق. فلو كان البشر كلهم أخياراً، لما صحت هذه النصيحة، لكن بما أنّ البشر جديرون بالازدراء ولا يفون بوعودهم، لا ينبغي للحاكم أن يفي بوعوده لهم. وبما أنّ المظهر والشكل هو الأمر الأهم في العلاقات العامة، على الحاكم أن يظهر بمظهر الشخص الحنون الودود التقي الذي يفي بالوعد، لكن عليه أيضاً أن يعرف كيف يتصرف على العكس من ذلك تماماً حين تدعو الحاجة». من هنا، فإنّ «الحاكم الجديد لا ينبغي أن يلتزم ما يمنح الناس السمعة الطيبة، لأنّه إذا كان له أن يحافظ على سلطانه ودولته، فهو كثيراً ما يضطر إلى التصرف بما يتعارض مع النية الحسنة وعمل الخير واللطف وشعائر الدين».
ليست هذه الآراء بمجملها غريبة عما نجده في تراثنا السياسي، وخصوصاً في كتب «مرايا الأمراء»، فهذا الطرطوشي مثلاً يخبرنا أنّ عبد الملك ابن مروان حين وصل إلى سدة الخلافة، وضع المصحف في حُجْره وخاطبه قائلاً: «هذا فراق بيني وبينك». لكن الأقرب إلى آراء مكيافيللي، هو ما نجده في كتاب الوزير نظام الملك حيث يقول ما يأتي: «علـى السلطان أن يباشر الحرب ضد الأعداء، لكن بأسلوبٍ يترك مجالاً للصلح، كما عليه أن يعقد الصداقات والمعاهدات لكن بأسلوب يمكن له أن يفسخها، وأن يفسخها لكن بأسلوب يمكن له أن يعقدها من جديد». فمنطق الدولة كما نجده في هذه النصوص، يتقدم على كل ما عداه، بما في ذلك شعائر الدين وأحكامه إذا لزم الأمر. لا أدري لماذا سبّب كتاب مكيافيللي خلق تلك الموجة العاتية من الكراهية له. ألم يكن الناس في زمانه يعرفون حق المعرفة أنّ الحكّام يتبعون في سيرتهم ما نسميه اليوم منطق الدولة؟ أم هل كانت الكنيسة في ذلك الزمن، قد بدأت تشعر بفقدان سلطانها مع قيام دولٍ أوروبية جديدة عسكرية الطابع بالكامل ومصممةٍ على انتهاك كافة الأعراف وصولاً إلى غاياتها، فشنّت الكنيسة على الكتاب وصاحبه تلك الحملة الشعواء؟ أم هل كان التاريخ الإيطالي في عصره مزيجاً من البابوية والسياسة كما في أيام البابا اسكندر السادس بورجيا، فـأراد مكيافيللي أن يفصل بين الأمرين بوضوح وصراحة تامّين لم يكونا مألوفين من قبل؟ لن أحاول الإجابة عن هذه الأسئلة، بل أتركها لأصحاب الاختصاص، مع تأكيد أهمية هذه النصوص في الفكر السياسي الأوروبي والفكر العربي الإسلامي على حد سواء. فالتاريخ العربي كثيراً ما يشي بوجود توتر واضح بين الشريعة والسياسة، بين منطق الفقيه ومنطق السلطان.

دي مونتين الذي يذكّر بالجاحظ

ومن مكيافيللي إلى ميشيل دي مونتين (ت.١٥٩٢م.)، هذا العبقري الذي يخاطبنا عبر الزمن كأنه من معاصرينا من خلال أدب المقالات التي كتبها في شتى المواضيع، فيذكرنا في بعض الأحيان بذاك العبقري الآخر، أي الجاحظ. فكلاهما عنده فضول لا ينضب للمعرفة، معرفة الإنسان والمجتمع والطبيعة والأدب. كلاهما يستخدم أسلوب «الرسالة» أو «المقالة» لتلخيص مفاهيمه وإيجازها لجعلها على درجة عالية من التكثيف. كلاهما ينتقد طروحات عصره بشكل يمزج الجد بالهزل. سأعود في ما بعد إلى الجاحظ وألتفت الآن إلى مونتين.
لكلٍّ منا مقالته المفضّلة من مقالات مونتين، ومقالتي المفضلة هي التي بعنوان «حول آكلي لحوم البشر». يقول مونتين إنّه استجوب أحد الذين أبحروا إلى تلك القارة الجديدة (أميركا اللاتينية اليوم) ودرسوا عادات أهلها عن كثب، ويسرد مونتين ما قاله له هذا الرحّالة ليستنتج أنّ أولئك الذين يسميهم الناس آكلي لحوم البشر هم في الواقع أكثر اهتماماً بالطبيعة وأكثر عطفاً على بعضهم البعض، وأشد تمسّكاً بالتعقل في علاقاتهم الاجتماعية من معاصريه هو.

الأوذيسة ملحمة الحنين إلى الأوطان، أجد فيها إلى اليوم صورة ملحمية لمعاناة شعبي الفلسطيني وأملاً لا يخبو في العودة
وتنتهي المقالة بجملةٍ قد تكون من أكثر الجمل سخرية في الأدب الأوروبي «لا بأس في كل هذا الذي سبق، ولكن ما الفائدة؟ إنّهم لا يلبسون البنطلون»!! ولعل مونتين أوّل كاتب أوروبي وجد في المجتمعات المسماة «بدائية» أحوالاً وعادات جديرة بالاحترام، وذلك قبل العصر الأوروبي الإمبريالي الذي طرح غطاء العنصرية والتسلط على كل ما هو غير أوروبي. ومن أمثال تلك الجملة الساخرة ما يقوله حول علاقة الكلمات بالأشياء، ليبرهن أنّ الحياة الاجتماعية فيها الكثير من التكلّف. فالكلمات التي تدل على أمور طبيعية كالخراء والضراط والتبوّل والأعضاء التناسلية وممارسة الجنس وما شابه، تُعتبر كلمات غير مهذبة في التخاطب الاجتماعي. أما الكلمات الدالة على أمور غير طبيعية كالقتل والسرقة والاغتصاب والزنا وما شابه، فهي مقبولة تماماً في الكلام المهذب. وكمثال آخر لسخريته الذي ما زلت أذكره هو الآتي «عندما أُداعب قطتي، هل أنا الذي يداعبها أم هي التي تداعبني؟». ولعل في هذا المثال ما يتعدى السخرية إلى الفلسفة، لكنني لن أخوض في هذا البحث. هذا إذاً هو مونتين الذي أحببته والذي كان بالنسبة إلي من أكثر النصوص التي وجدتها قابلة للتعليم والشرح والاستحسان من جانب التلامذة: هذا ما أرجوه على كل حال.
في صيف العام ٢٠١٥، وجدت نفسي أنا وزوجتي في مدينة بوردو الفرنسية، فقررنا أن نزور قصر (شاتو) مونتين وبرجه الشهير القريب من بوردو الذي انعزل فيه ليكتب معظم مقالاته. وبعد مغامرة مشوّقة لا داعي لسردها، وصلنا أخيراً إلى المكان، فوجدنا أنفسنا وحيدين تماماً، ما أثار دهشتنا: مونتين وبرجه بدون أي زائر على الإطلاق؟ وفي عز الموسم السياحي؟ كان الأمر عجيباً حقاً، فهل تخلى الفرنسيون عن زيارة أحد أهم كتابهم وفلاسفتهم؟ أما عادت مقالاته من بين النصوص المقررة في مدارس فرنسا؟ لم أجد الجواب على هذه التساؤلات، لكن سُعدنا كثيراً على كل حال لأنّ البرج كله كان بتصرفنا. ووصلنا أخيراً إلى الغرفة العليا في البرج حيث مكتبه وحيث الكتابات الشهيرة باليونانية واللاتينية المرسومة على ألواح السقف الخشبية التي كان يستلهمها لكتابة مقالاته. هل كان مونتين يداعبنا أم نحن الذين نداعبه؟ وهنا أيضاً جرى اتصال روحي معه كذاك الذي جرى مع دانته.
وأنتقل إلى العصور الحديثة في المنهج الدراسي لدائرتنا. لم أجد في تلك النصوص الحديثة من المتعة ما وجدته في العصور القديمة والمتوسطة. ولعل السبب أنّ تلك النصوص، وخصوصاً النصوص المعاصرة كانت تخضع لنقاش مستمر من جانب زملائي في تدريس المنهج. فقد كان من الصعب، بل المستحيل، أن نحدد ما هو نص «كلاسيكي» حديث وما هو نص تخطاه الزمن، فلم يعد له قيمة كبيرة في عصرنا الحاضر. أذكر على سبيل المثال رواية توماس مان «الجبل السحري» وهي رواية طويلة جداً خصصنا لها أسابيع عدة في صفوفنا. هل تستأهل كل هذا الوقت؟ إنها صورة بانورامية للمجتمع الأوروبي في أوائل القرن العشرين، وفيها عدد كبير من الشخصيات التي تمثل شتى أنواع الأيديولوجيات في ذاك الزمن، وتتخللها نظرات ولحظات وإشارات ينبغي لفهمها اطلاع عميق على الميثولوجيا الأغريقية. استبدلنا بها في ما بعد رواية
أخرى للكاتب ذاته، هي أقصر بكثير، أي «موت في البندقية» الذي يمازج بين الموت والفن، لكن في السياق الأيديولوجي ذاته. وأذكر مثلاً رواية «الظلام في وضح النهار» للكاتب آرثر كستلر الذي «يفضح» النظام الستاليني من خلال قصة سجين آمن بالمبادئ الشيوعية «الديموقراطية» لكنه رفض تحولها إلى الديكتاتورية. كان النقاش في هذه النصوص حامياً في الكثير من الأحيان، خصوصاً عندما كنا نرى في البعض منها دعاية أوروبية/ أميركية واضحة ككتاب كستلر. فقد ازداد مع الزمن عدد الأساتذة العرب وازدادت مطالبتنا بإدخال التراث الشرقي والعربي إلى المناهج، ونجحنا في هذا المسعى إلى حد كبير. فقد أدخلنا إلى المنهج ملحمة غلغامش وأدخلنا إليه الجاحظ والغزالي وابن خلدون وغيرهم، وأدخلنا الطيب صالح وغيره إلى النصوص الحديثة، فبات المقرر ككل أقرب إلى الشمولية الحضارية من ذي قبل، إذ كان في السابق أوروبي الطابع بالكامل.
لم أذكر من النصوص إلا ما ورد الآن إلى الذهن، فعددها كان كبيراً. وكان هذا المقرر لا يُستحسن من قبل التلامذة لأنه كان من المواد المفروضة عليهم. غير أنّ الغريب في الأمر أنني صادفت الكثيرين من متخرجي الجامعة الذين اعترفوا أمامي بأنّ هذا المقرر كان من بين أكبر ما خلفته المواد الجامعية من أثر في حياتهم في ما بعد. وها نحن اليوم نجد أنّ هذا المقرر قد تقلص إلى حد كبير، ولم يعد مفروضاً، فقد حاربته الكليات الأخرى، وأضحى مصيره معلقاً مع مصير سائر العلوم الإنسانية في الجامعات في الشرق والغرب. عسى أن يأتي اليوم الذي تعي فيه كليات الهندسة والطب والتجارة، كما يعي أهل التلامذة، أنّ الفكر الناقد الذي هو في صلب وظائف العلوم الإنسانية، يعني أنّ وجود هذه العلوم ‪)‬الأدب، التاريخ، الفلسفة، العلوم الاجتماعية) في جامعاتنا العربية، بل وتدعيمها يؤدي حتماً إلى أطباء ومهندسين ورجال أعمال، ذكوراً وأناثاً، أكثر قدرة على التفكير النقدي والتحليل المنطقي والتخيّل الخلّاق، ما يؤدي إلى استنباطٍ أسلم وأسرع لحل المشاكل التي تواجههم في أعمالهم المختلفة.

الدكتوراه في جامعة شيكاغو

وفي العام ١٩٦٦، بدأت مرحلة جديدة من سيرتي مع الكتب. فقد آن الأوان للتفكير الجدي في المستقبل العلمي، أي الحصول على الدكتوراه. لم يكن لدي أدنى شك في أنّ مهنة التعليم قد أصبحت مهنتي، ولم يكن من الممكن أن أصعد السلم الأكاديمي من دون تلك الشهادة. وبعد مخاض، حصلت على منحة جامعية من جامعة شيكاغو في أميركا. وكنت أنا من بين فريق من الزملاء الذين سافروا إلى أوروبا وأميركا في طلب الدكتوراه، فتفرقنا في ربوعها. وكان عليّ أن أختار في مجال الدراسات العربية الإسلامية بين التاريخ الوسيط والحديث، فاخترت الوسيط بلا تردد يذكر، واتجهت نحو تاريخ الفكر، والفضل في هذا الاختيار للسنوات الست التي أمضيتها في دائرة الثقافة العامة، وللأعوام التي قضيتها في المدرسة البريطانية بصحبة اليونان والرومان. وبما أنني كنت منذ أيامي الجامعية في أكسفورد، أُبدي اهتماماً خاصاً بفلسفة التاريخ وكتابته، عقدت العزم على انتقاء موضوع يتصل بكتابة التاريخ عند العرب.
وفي تلك الأيام، كانت في جامعة شيكاغو كوكبة لامعة من الأساتذة في الدراسات العربية الإسلامية، منهم محسن مهدي العراقي، وويلفرد ماديلونج الألماني، وياروسلاف ستتكيفتش الأوكراني، والأستاذ العبقري مارشل هودجسن الأميركي صاحب كتاب «مسعى الإسلام». وكان محسن مهدي بسبب كتابه عن ابن خلدون هو الذي اخترته للإشراف على أطروحتي. اقترح علي في البدء أن أكتب عن ابن حيان القرطبي، ثم استقر الرأي على المسعودي (ت. ٩٥٦ م.) . وكان محسن مهدي من أتباع الفيلسوف ليو شتراوس وكتابه الشهير «الاضطهاد وفن الكتابة» الذي تنطّح لتحليل كتابة الفلسفة إبان العصور الوسطى الدينية التي اضطهدت الفلسفة. وكتاب مهدي عن ابن خلدون كما كتاباته اللاحقه عن الفارابي تنضح بالأفكار «الشتراوسية» أي كيفية كتابة الفلسفة في العصور الوسطى التي سادها الدين، ووجوب التنقيب الدقيق عن المضمر ضمن المصرح عنه في النصوص. وهكذا نجد أنّ ابن خلدون في رأي مهدي هو في الحقيقة فيلسوف مُقنّع. لم ترُقني تلك النظرية، إذ إنّ كل كتاب «كلاسيكي» يتضمن في الواقع كتباً عدة وليس ثمة «مفتاح» واحد يفك رموز مثل تلك الكتب. كذلك إنّ نظريات شتراوس لم تلاقِ قبولاً في ما بعد عند معظم مؤرخي الفكر.
وكان برنامج الدكتوراه في ذلك الزمن، يتضمن نحو سنة ونصف سنة، ويتطلب حضور ندوات دراسية عليا، أي ما يسمى «سمينار»، وذلك قبل البدء في كتابة الأطروحة، حيث على الطالب اختيار شريحة واسعة من مختلف المواضيع في الدراسات الإسلامية، كعلم الكلام والأدب والجغرافيا والتاريخ وعلم السياسة وإلى ما هنالك، وكانت معظمها بالنسبة إليّ مواضيع جديدة، لكنها ذات صلة مباشرة وغير مباشرة بالمسعودي وبكتابة التاريخ. وهكذا وجدت نفسي أمام بحر زاخر من النصوص التي عكفت على قراءتها بشغف كبير. فالسنوات الست التي كنت قد أمضيتها في دائرة الثقافة العامة، جعلتني أنظر إليها بنظرة التحليل المقارن، أي بنظرة تضع تلك النصوص في سياقها العالمي، ليس لرصد التأثير من هنا وهناك، فالتأثير الفكري ليس شيئاً ميكانيكياً ينتقل من مفكر إلى آخر، بل لأنّ تلك النصوص العربية كانت في الواقع تخاطب العالم بأسره، شرقاً وغرباً. فالمسعودي مثلاً يطمح إلى كتابة تاريخ العالم وليس فقط عالمه الإسلامي، وكذلك الأمر مع العديد من تلك النصوص التي تفترض أنّ القرآن الكريم هو دعوة لاكتشاف عالم المعرفة وليس دعوة إلى حصر العلم والانغلاق والاكتفاء بما جاء به التنزيل: القرآن بداية وليس نهاية. هذا على ما أظن هو الذي منح حضارتنا في تلك العصور حيويتها وزخمها العظيمين. بل وقد أُضيف أنّ من الممكن لنا أن نقسم مفكري الإسلام إلى فريقين: فريق يرى أنّ القرآن نهاية المعرفة، والآخر يرى أنه بدايتها.
وعالمية الحضارة العربية الإسلامية في عصور ما قبل الحداثة هي التي أرّخها مارشال هودجسن في كتابه بمجلداته الثلاثة، والمشار إليه أعلاه، والذي ما زلت إلى اليوم أرى أنّه أهمّ تاريخ لحضارتنا كتبه مؤلف غربي. كان هودجسن إنساناً غريب الأطوار، بل به مسّ من جنون العبقرية. كانت مسيحيته عميقة الجذور، وكان ينتمي إلى فرقة «الأصدقاء»، أي «الكويكرز». وكان من أول الذين نادوا بنبذ النظرة الأوروبية نحو تاريخ العالم، وبفهم الحضارة الإسلامية من منظار عالمي. شامل، فقد كان التاريخ العالمي أحد اهتماماته الرئيسية. وكان له اهتمام خاص بالتصوف الإسلامي لم أشاركه فيه. وانجذب إليه فريق من التلامذة، أصبحوا جزءاً من عائلته، وكان يمضي معهم الساعات الطوال في حلّ مشاكلهم، فكرية كانت أو عاطفية. ويستخدم هودجسن في كتابه عبارات واصطلاحات خاصه به، يرى أنّها ضرورية لفهم تاريخ الإسلام، فيفرق مثلاً بين الإسلامي والمؤسلم (Islamic; Islamicate)، أي بين ما هو ديني وما هو حضاري، فيجعل دائرة المفهوم الحضاري أوسع بكثير من دائرة الديني، الأمر الذي يتطلب نظرة وكتابة عالمية لتاريخ الإسلام.

الجاحظ الأوسع أفقاً من ابن رشد

الجاحظ (ت.٨٦٩م.) أولاً. لعلنا لا نخطئ إذا سمينا الجاحظ «ميكروكوزم» أي عالَم صغير. فالجاحظ أحدث شرخاً فكرياً عميقاً في الثقافة العربية، بل قد نقول إنّه صاغ لها مفاهيم تختلف جذرياً عما جاء من قبل. جال الجاحظ على مختلف العلوم في عصره، وجال أيضاً على معتقدات مجتمعه، فوضعها كلها تحت مجهر العقل والتجربة والبحث ونقلها من الانبهار بالماضي إلى الانبهار بالمستقبل، وما قد يأتي به العقل من اكتشافات لا تنتهي. وفي هذا الصدد، يقول: «لأنّ الإنسان وإن أُضيف إلى الكمال وعرف بالبراعة وغمر العلماء، فإنه لا يكمل أن يحيط علمه بكل ما في جناح بعوضه أيام الدنيا ولو استمد بقوة كل نظّار حكيم واستعار حفظ كل بحّاث واعٍ وكل نقّاب في البلاد ودرّاسة للكتب» جناح بعوضة؟! غريب حقاً هذا المثل، لكنه يعكس بدقة ذاك المزيج العجائبي من الخيال والتعقل عند الجاحظ. ومع أنّ معظم المتنورين العرب في يومنا هذا يجعلون من ابن رشد مثالهم الأعلى في التعقل، غير أنهم لم يلتفتوا بما يكفي لنورانية الجاحظ الذي أرى في مؤلفاته المختلفة آفاقاً علمية أوسع من آفاق ابن رشد. فقد كان للجاحظ اهتمام عميق بالحضارات العالمية، وكان يرى أنّ حضارته العربية الإسلامية وريثة الحضارات السابقة وموطن الحكمة الأخير. أما الأمم التي تُذكر باستمرار في كتاباته، فهي الهند واليونان وفارس، الذي انتقل تراثها الحضاري من لغة إلى أخرى، ومن جيل إلى آخر «حتى انتهت إلينا وكنا آخر من ورثها ونظر فيها». لكن تقدم العلوم والمعارف عند الجاحظ ليس بالأمر المحتوم، فالعقل البشري يبقى عرضةً لأمراضٍ، لعل أفدحها هو التقليد الذي يحجب التبصر والنظر. والدين الذي يؤخذ بالتقليد والتعصب لا بالعقل والنظر هو العامل الأبرز في خمول الحضارات وانحلالها، والجاحظ لا يستثني حضارته من هذا الخطر.
وأينما يمرّ الجاحظ، نلمح بصمات فكره المتألق النقدي الذي كثيراً ما يلجأ إلى السخرية لتفنيد الآراء البالية أو اللاعقلانية. إنه المثال الأبرز في تاريخنا الفكري لما نسميه اليوم «المثقف الملتزم»، أي المثقف الذي يجول بالنظر في مشاكل عصره من سياسية واجتماعية وفكرية وأدبية ليرسم لها حدودها ويفكك خطابها ويضعها في سياقها التاريخي، ولا يتركها إلا بعد أن يزيل ما علق بها من أوهام أو تزمت أو تقليد. فالجاحظ هو الباب الذي نلج منه إلى حضارتنا في أحد عصورها النيرة. ولم تزدني الأيام إلا إعجاباً بعبقريته. وفي إحدى محاورات أفلاطون التي يصف فيها أيام سقراط الأخيرة التي أمضاها في السجن ينتظر تنفيذ حكم الإعدام بتهمة إفساد أخلاق الناشئة، يعلل سقراط حكم الموت الصادر بحقه ويصوغ المثل الآتي: هناك ذبابة تحوم حول حصان كسول عظيم الحجم، فتلسعه هنا ثم تلسعه هناك إلى أن يأتي اليوم الذي ينفد فيه صبر الحصان فيضرب الذبابة بذيله ويسحقها. والذبابة هي طبعاً سقراط نفسه. أما الحصان فهو مدينة أثينا. وأنا كلما تأملت هذا المثال، وجدته يعبّر بدقة عن الدور الذي لعبه الجاحظ في عصره، فهو يلسع في كل مكان، يستنطق الخاصة والعامة، ويحاجج الناس في آرائهم، وإذا لم يجد من يناظره حقاً، فهو يخترع الخصم لكي يصل الجدال إلى خاتمته العقلية. ومن حسن الطالع أنّ حياته لم تنته كما انتهت حياة سقراط. وإذا أردنا أن نصف الجاحظ لإنسان غربي، فقد نقول إنّه مزيج من سقراط ومونتين مع نفحة من فولتير. لكن كل هذه التشبيهات لا تفيه حقه، فقد أرخى بظلاله على العصور اللاحقة ولم نتجاهله نحن العرب إلا في العصور الحديثة، رغم أنّنا نملك اليوم تحقيقات علمية لمؤلفاته لم تكن متوافرة من قبل.

الأطروحة عن المسعودي

كان الجاحظ إذاً هو الكاتب الذي أدخلني بالفعل إلى عالم المسعودي الذي اخترته موضوعاً لأطروحتي. فالجاحظ يخيّم على تاريخ المسعودي كما يخيم على ما لا يُحصى من الأعمال الفكرية في عصورنا المسماة «ذهبية»، وأنا أضع كلمة «ذهبية» بين علامتي اقتباس، لأنني لست متأكداً تماماً من صحتها، وأعني بها الفترة بين القرنين التاسع والسادس عشر للميلاد على وجه التقريب. على كل حال، من يقرأ المسعودي، يلاحظ فوراً أنّ آفاق مؤلفاته تتعدى السرد التاريخي البحت لتشمل ليس فقط تاريخ العالم كما عرفه معاصروه، بل أيضاً العديد من العلوم المتصلة بالتاريخ كالجغرافية وعلوم الطبيعة والمعرفة التاريخية وعلم الكلام وتواريخ الأمم، القديمة منها والمعاصرة. ونجد عنده كذلك تعريفات شتى للمصطلحات المستخدمة كالأمة مثلاً أو كالتجربة والنظر والعادة، الأمر الذي بعث ابن خلدون في ما بعد على وصفه «بإمام المؤرخين»، رغم انتقاده الظالم له في رأيي بأنّه ينقل «أخباراً مستحيلة». وعلى كل حال، إنّ الولوج إلى عالم المسعودي يعني الولوج إلى عالم شبيه بعالم الجاحظ بسبب انفتاحه الواسع على شتى أصناف المعرفة. لذا، فقد كان اختيار المسعودي موضوعاً لأطروحتي اختياراً ميموناً لأنّه فتح أمامي نافذة واسعة جداً على علوم الإسلام وحضارته في ذلك العصر.
وجدت نفسي إذاً أمام سيل جارف من المؤلفات التي كان عليّ أن أتفحصها، بالإضافة طبعاً إلى تفحص نص المسعودي حتى تكتمل الصورة أمامي. لم يكن الأمر بالسهل أبداً، وكثيراً ما انتابتني حالات من اليأس يعرفها جيداً كل من جاهد ويجاهد في كتابة أطروحة الدكتوراه. فلما حلّ زمن الكتابة، كنت كلما وضعتُ أمامي ورقة بيضاء لأبدأ بالكتابة، بدا بياض الصفحة كأنه انعكاس لبياض أفكاري، فتمضي الساعات بل الأيام الطوال في التأمل واستقبال شلال من الأفكار التي لا تمت بصلة إلى ما أنا فيه. لم أعد أذكر الآن ما الذي أنقذني في نهاية الأمر مما يُسمى في يومنا هذا «عائق الكاتب» أو «عقبته»، فلعله كان عدم انتظار الوحي، بل الشروع في الكتابة كيفما اتفق والعودة إليها لاحقاً وبعد صفاء الذهن لتصحيحها. وها هو الجاحظ يأتي من جديد ليسعفني في هذا الموقف، إذ يقول: «وينبغي لمن كتب كتاباً ألا يكتبه إلا على أنّ الناس كلهم له أعداء وكلهم عالم بالأمور وكلهم متفرغ له، ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غُفلاً ولا يرضى بالرأي الفطير فإن لابتداء الكتاب فتنة وعُجباً فإذا سكنت الطبيعة وهدأت الحركة وتراجعت الأخلاط وعادت النفس وافرة أعاد النظر فيه، فيتوقف عند فصوله توقّفَ من يكون وزن طمعه في السلامة أنقص من وزن خوفه من العيب». صدرت الأطروحة لاحقاً في كتاب بالإنكليزية، فكان أول كتاب لي، فحضنته عند صدوره بحرارة لا تقل إلا قليلاً عن حرارة احتضاني لأولادي. أراني لا أستطيع أن أُبعد عني شبح الجاحظ، فقد عقدنا مع بعض الزملاء مؤتمراً دولياً حول الجاحظ صدر لاحقاً في كتاب عام ٢٠٠٩ عن «المعهد الألماني للدراسات الشرقية» في بيروت، ونال قسطاً وافراً من التقدير النقدي، كذلك نال جائزة الكتاب العالمي من الجمهورية الإسلامية في إيران.

لم أجد في نص المسعودي ما يمكن أن نسميه بُعداً

«شتراوسياً»، أي نصاً آخر مستتراً أو مضمراً. كان المسعودي على ما بدا لي شيعياً في العقيدة، لكن شيعيته لم تكن مضمرة ولا مستترة، بل كانت واسعة الآفاق، ومنفتحة على علوم العصر بالكامل. فهو يختار الأفضل من النظريات والفلسفات والمذاهب الفكرية لتفسير الظواهر التاريخية والعلمية التي يتناولها في نصوصه. هذا الاستقلال الفكري هو الذي منح تواريخه ميزتها الكبرى لدى كافة المذاهب والفرق الإسلامية، رغم فقدان العديد من مؤلفاته. ويبدو لي أنّنا عندما نتناول تاريخنا الفكري في هذه الأيام، فإنّنا كثيراً ما نعمد إلى وضع المفكرين الكلاسيكيين في صناديق فكرية ضيقة، فهذا شيعي وهذا سني وهذا معتزلي وهذا اشعري وهذا حنفي وهذا شافعي وهذا صوفي وهذا متكلم وهذا فيلسوف وهذا فقيه وهذا أصولي وهذا إخباري وإلى ما هنالك من تصنيفات، ولا نأخذ في الاعتبار أنّ العديد منهم كانوا انتقائيين واصطفائيين في تفكيرهم، خصوصاً أنّ القسم الأعظم منهم كان قد نهل من معين الأدب ونظرته الموسوعية إلى العلوم.
وعندما أستعيد إلى الذهن ما قرأت من مؤلفات ذات صلة بأطروحتي عن المسعودي ـــ ولا بد من الفصل بين ما كان منها مهماً وما كان ثانوياً حتى لا أغرق في لجةٍ من الكتب ــ يحضرني اليوم من بين الكتاب البارزين ابن قتيبة (ت. ٨٨٩ م.) وكتاب «عيون الأخبار» الذي أعود إليه مرات عدة كل سنة، لما فيه من حكمة وأدب وشعر وظرف وسخرية. ولعل المقدمة التي خطها لكتابه من أجرأ ما كتب عن دور الأدب في تكوين الخلق القويم والابتعاد عن التدين المصطنع والرياء، إذ يقول فيها: «فإن هذا الكتاب وإن لم يكن في القرآن والسنة وشرائع الدين وعلم الحلال والحرام دالٌّ على معالي الأمور، زاجر عن الدناءة، ناهٍ عن القبيح، باعث على صواب التدبير... وليس الطريق إلى الله واحداً ولا كل الخير مجتمعاً في تهجد الليل وسرد الصيام… بل الطُّرق إليه كثيرة وأبواب الخير واسعة وصلاح الدين بصلاح الزمان... وإنما مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين، وإذا مر بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو فرج أو وصف فاحشة، فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تصعّر خدك وتعرض بوجهك، فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب وأكل لحوم الناس بالغيب».
ثم يستشهد ببعض الأقوال التي جاءت على لسان الرسول الكريم وأبي بكر وعلي، وفيها ذكر للعورة لكي يثبت أنّ هذا الأمر يجري «على عادة السلف الصالح في إرسال النفس على السجية والرغبة بها عن لِبسة الرياء والتصنع». هذا الدفاع عمّا قد نسميه «الأدب المتحرر من الأعراف»، مهّد الطريق أمام العديد من المجموعات الأدبية التي تبعته، وإن لم تكن جميعها على نفس المقدار من الجرأة والابتعاد عن التصنع. ولا ريب عندي أنّ طيف الجاحظ يحوم حول ابن قتيبة و«عيونه»، رغم انتقاده للجاحظ، فهو تلميذ الجاحظ، شاء أو أبى، ويدين له بالكثير، ولا سيما بالجرأة في التعبير والأسلوب وفي تحرر الفكر ومكانة الأدب المحورية بين العلوم.
تُرى ما الذي يجعل من هذه الأعمال الأدبية صروحاً تبقى وتدوم على مرّ الزمن؟ لماذا نعود إلى الجاحظ وابن قتيبة والمسعودي وابن خلدون وغيرهم مراراً وتكراراً، ونكتشف عند كل قراءة متجددة أموراً لم نلحظها من قبل؟ قد أعود إلى هذا الموضوع لاحقاً، وقد لا أعود، لكني أرى في هذه الأعمال الكلاسيكية ميزة مشتركة هي ميزة تخطي الحدود مع ما يواكب ذلك من نبذٍ للتقليد وتحدٍّ للتقاليد واستنطاقٍ للمحظورات بهدف الإبقاء على الأبواب مفتوحة أمام كافة الأسئلة، فلا يوجد سؤال له جواب نهائي. هذا هو المغزى من وراء مثال جناح البعوضة عند الجاحظ والطرق الكثيرة إلى الله عند ابن قتيبة، وهذه المزايا على ما اعتقد هي التي تميز تلك الأعمال الأدبية الخالدة ـ المعذرة من القارئ على هذا الاستطراد.

اليعقوبي، المقدسي، مسكويه والطبري

اليعقوبي (ت. حوالي ٨٩٧ م.)، المطهّر ابن طاهر المقدسي (كتب حوالي ٩٦٦ م.)، مسكويه (ت.١٠٣٠م.): ثلاثة من أبرز مؤرخي ذاك العصر اللامع. قرأت أعمالهم بتمعن في تلك الآونة، وأعود إليهم كلما سنحت الفرصة أو قادني إليه البحث. لم نعد نملك مقدمة اليعقوبي لتاريخه، فقد أطاحتها يد الزمان مع ما أطاحت من أعمال، لكنه كان أول من التفت من المؤرخين إلى تاريخ العالم الثقافي قبل مجيء الإسلام بشكل مفصل ودقيق. كذلك فإنّ لليعقوبي اهتماماً عميقاً بعلوم عصره الطبيعية، ومنها مثلاً علم أحكام النجوم والطب والجغرافيا (وله طبعاً كتاب شهير في الجغرافيا) وغيرها من العلوم نستبينها في ثنايا تاريخه. وله أيضاً رسالة موجزة بعنوان «مشاكلة الناس لزمانهم» يفصّل فيها بالأمثلة التاريخية المتعددة كيف أنّ المسلمين في كل عصر «تبع للخليفة يسلكون سبيله ويذهبون مذاهبه ويعملون على قدر ما يرون منه ولا يخرجون عن أخلاقه وأفعاله وأقواله»، وهو كأنّه يرمي إلى توضيح المثل السائر أنّ «الناس على دين ملوكهم».
يبدأ تاريخ اليعقوبي في الجنة مع آدم وحواء وينقل فيه ما جاء عن أهل الكتاب بشكل ينمّ عن معرفة حميمة بكتب العهد القديم والإسرائيليات عموماً، ومن ثم بكتب العهد الجديد والأناجيل الأربعة. وينتقل بعد ذلك ليسرد تواريخ الأمم الأخرى كملوك بابل والهند واليونان والفرس والصين ومصر القديمة واليمن، مع التركيز على ثقافاتهم وأحكامهم وشرائعهم وعلومهم المختلفة، كالجغرافيا والطب والنجوم وآراء مشاهير علمائهم، ويفصل ما جاء في كتبهم، فكأنه أرشيف كامل لعلوم ومقولات العالم القديم. ويأتي في نهاية الجزء الأول إلى عرب الجزيرة، فيفصّل دياناتهم وثقافتهم وشعراءهم كمقدمة لتاريخ الإسلام. وحين يصل اليعقوبي إلى فجر الإسلام ومولد الرسول وسيرته ثم سِيَر الخلفاء في ما بعد، نجد أنّه يعتمد أساساً على لائحة من المؤرخين يذكر أسماءهم في البدء كأنه مؤرخ أكاديمي معاصر، ويذكر أنّ غايته هي «جمع المقالات والروايات» في كتاب مختصر. ولعل ما يميز تاريخه هو الاستعانة المستمرة بالمنجمين كأمثال ما شاء الله والخوارزمي لتحديد الطوالع والقرانات عند حدوث الأمور العظام. كذلك إنّ ميوله الشيعية واضحة تماماً. من هنا، فإنّ اهتماماته الثقافية والعلمية كما وتشيّعه تجعله المؤرخ الأقرب فكراً وأسلوباً إلى المسعودي. كلاهما ينتمي إلى ما قد نسميه المدرسة الأدبية في كتابة التاريخ التي تتميز بحذف الأسانيد وبالاهتمام الواسع بالتاريخ الثقافي.
أما المطهّر ابن طاهر الذي لا نعرف عنه ولا عن حياته شيئاً، فكتابه بعنوان «البدء والتاريخ» هو من أعجب ما كُتب في القرن الرابع للهجرة (العاشر الميلادي)، بل من كل ما كُتب حول التاريخ، وصولاً إلى ابن خلدون. فهو تاريخٌ له برنامج فكري محدد يفصّله في مقدمة طويلة جداً لها منحى فلسفي وكلامي واضح وتنتمي بلا أدنى شك إلى الفكر المعتزلي. وهذا بحد ذاته أمر مثير للاستغراب، إذ نحن لا نعلم أنّ للمعتزلة كبير اهتمام بالتاريخ، بل إنّ البعض منهم كالنظّام كان يشكّك ببعض المبادئ الأساسية في علم الحديث كالتواتر مثلاً، أي الأخبار التي ينقلها الجمهور الغفير عبر الزمن، ويعتبرها أهل الحديث صحيحة بالضرورة. أما صديقنا الجاحظ، فهو يرى أنّ الأمم المتحضرة لا تنزلق نحو السخف إلا حين تعتنق الدين الذي هو التقليد بعينه وحين تُغلّب العصبية على التعقل، فهو يحذّر على الدوام من قبول الأخبار العجائبية أو المنافية للطبيعة. والمطهر يصوّب سهامه الفكرية في عدة اتجاهات معاً. فهو يرمي إلى إثبات أنّ العالم حادث وليس أزلياً (من هنا كلمة البدء في عنوانه) أي إنّ سهامه تصيب الفلاسفة الدهريين كأبي بكر الرازي وغيره، لكنه يحيل القارئ على كتب الرازي في الخواص الطبيعية إذا أراد ترسيخ علمه في الطبيعيات. ويصوب سهامه نحو الأشاعرة وأصحاب الحديث والقُصّاص وغيرهم ممن كانوا يتقبلون الحوادث الخارقة للطبيعة والمعجزات، إذ يرى أنّ ذلك من شأنه أن يفسح المجال للطاعنين في المعتقدات الدينية، فيضع حدوداً صارمة لتقبل المعجزات. من هنا، فإنّ واجب المؤرخ هو الدفاع عن الدين ضد الملحدين والفساق والباطنية، وعلم الكلام المعتزلي هو الدرع الواقية من هجمات الهراطقة. على المؤرخ إذاً أن يكتب التاريخ بدقة المتكلم ومنطقه. لم يحظ المقدسي بالاهتمام الذي يستحقه، لا في الماضي ولا في الحاضر. حتى إنّ كتابه الذي حققه مستشرق فرنسي في أوائل القرن العشرين مليء بالأخطاء. فقد أشار عليّ في الماضي الدكتور إحسان عباس رحمه الله أن أتصدى لتحقيقه من جديد استناداً إلى مخطوطة في إسطنبول. وحصلت على تلك المخطوطة وبدأت العمل، لكن الشواغل منعتني من إتمامه وأنا عازم اليوم على تقديم ما أملك من أوراق إلى أحد الباحثين الشباب لإكمال ما بدأت به. فالمقدسي حقاً من أعمق مؤرخي العرب والمسلمين، ولا يجوز أن يبقى كتابه من دون تحقيق علمي.
أما مسكويه، فحياته معروفة بتفاصيلها، إذ كان من كبار كُتّاب الدولة البويهية (القرنان العاشر والحادي عشر م.) وعاصر العديد من أحداثها، ما أضفى مزية عظمى على تاريخه. وكان أيضاً فيلسوفاً رغم أنّ الفلاسفة في عصره وفي اللاحق من الزمن، لم يعتبروه فيلسوفاً، بل متفلسفاً. لن أناقش هذا الأمر، رغم أنّ كتابه «تهذيب الأخلاق» فيه بعض الأفكار الأصيلة. ما يهمني هنا هو كتابه في التاريخ بعنوان «تجارب الأمم». لهذا الكتاب مزية بارزة لكونه تاريخاً مفصلاً لزمانه ولأحداث شاهدها بنفسه، وحاول جاهداً أن يستخلص عِبَرها خدمةً لأصحاب الدول وذوي السلطان. إنه تاريخ سياسي بامتياز يذكّرنا في مراميه العليا وإن لم يكن في مضمونه وأسلوبه بكتاب «الأمير» لمكيافيللي. المراد هو استصفاء العبر السياسية من التاريخ دون الالتفات إلى أي شيء آخر.
يزخر كتاب «تجارب الأمم» بوقائع تاريخية يُشار إليها بعناوين فرعية كالآتي: خدعة، دهاء، رأي سديد، حزم، حيلة، مكر، مكيدة، اتفاق حسن، وحشة، سياسة وغيرها. ويتبع كل حادثة تاريخية فصل بعنوان «السبب في ذلك»، أي التنبيه إلى سبب النجاح أو الفشل في عمل سياسي أو عسكري ما. وعماد الأمر في كل ذلك، على ما يسميه مسكويه، «التدبير»، أي تدبير أمور الدولة العامة والقدرة على استباق الأزمات وعلى استحضار ما يلزم من الموارد للتعامل معها. ومن أهم مكونات التدبير في رأيه القدرة على حسن إدارة الموارد المالية، إذ كثيراً ما يؤدي سوء تلك الإدارة إلى انهيار الدول. ومن أهم مكوناته أيضاً التدبير الحربي وأهمية الاستعداد للحروب، وما يتبع ذلك من نظام ينظّم عمل العيون والجواسيس، فالدهاء هو ضرورة قصوى في التصدي للعدو، والصبر والنفس الطويل ضروريان لإنهاك العدو. لذا، إن حسن التدبير يتطلب الاهتمام اليومي المستمر والإشراف الدائم على المصالح والموارد وسير الأمور العامة.
ولقارئ مسكويه أن يستنتج أنّ السياسة لا تجري في مجرى الأخلاق، وأنّ التاريخ لا يكشف عن فائدته إلا إذا عصرناه عصراً لكي نستبين منه كيف تُبنى الدول وكيف تنهار. هنا أيضاً نلمح ما يجمع مسكويه بمكيافيللي. فهو يقول لنا إنّه نبذ من كتابه كل ما له علاقة بتواريخ الأنبياء، إذ ليس فيها أي فائدة قد تفيد الزمن الحاضر، فتلك التواريخ تزخر بالمعجزات وبالنصر الإلهي، ولا تتضمن من التجارب ما قد يفيد الحاكم أو السلطان في يومه الراهن. وهذا بحد ذاته رأي جريء للغاية، إذ كيف يجرؤ مفكر من أهل الإسلام أن يقول لنا إنّ سيرة الرسول لا تتضمن أي فوائد دنيوية؟
تملكني الإعجاب بهذه النصوص التاريخية وغيرها الكثير كالطبري (ت. ٩٢٣ م.) مثلاً الذي يرى أنّ المعرفة التاريخية لا تأتي إلا من «أخبار المخبرين ونقل الناقلين دون الاستخراج بالعقول والاستنباط بفكر النفوس». فهو ينقل بأمانة تامة كل ما وصل إليه من أخبار، ويسمي الناقلين على اختلاف مشاربهم، ولا يتدخل في تمحيصها إلا في النادر، فنحن حينما نقرأ الطبري، كأنما نقرأ هوامش كتابٍ تاريخي ما وليس نصه. وحين أنجزت أطروحتي عن المسعودي، علمت في قرارة نفسي أنّ الكتابة التاريخية هي محور اهتماماتي العلمية وأنّ النهاية لا تتم إلا حين أنجز كتاباً شاملاً في هذا الموضوع. وحالفني الحظ، فنشرت ذاك الكتاب الشامل بعد كتاب المسعودي بعشرين عاماً وعنوانه في ترجمته العربية «فكرة التاريخ عند العرب: من الكتاب إلى المقدمة». ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، خمد اهتمامي بالموضوع وطفقت أجري في حقول جديدة وأدبية متعددة. فأصبحت كلما أنجزت كتاباً أو مقالاً، زال اهتمامي به على الفور ولسان حالي معه «رافقتك السلامة، يا عزيزي، ولا ردّك الله».