عزيزي علي الوردي... لو تدري ماذا حلّ بـ «الشخصية العراقية»! | تعدّ لحظة علي الوردي علامة فارقة في تاريخ الأنتليجنسيا العراقية المعاصر. فقد تمكن بنظره الثاقب من أن يحقق مسارين متلازمين في آن واحد: الأول هو السمو على الانتماء الطائفي والقومي والعصبوي من جهة، والثاني هو وضع تلك الانتماءات ما قبل الدولة للتحليل السوسيولوجي المعمق، مستعيناً بمناهج ونظريات كيّفها لتتلاءم مع البيئة العراقية المحلية.
وهذا الحياد العلمي المبهر طالما تعارض مع استحقاقات مسايرة أيديولوجيا السلطة السياسية بتوجهاتها القومية أو اليسارية التي درجت عليها في الخمسينيات والستينيات.
كان الوردي مُصرّاً على تجاوز مسطرة العقل الجمعي، وعدم التقيد أيضاً بمنهجيات العلم وفقاً لمنطلقات غربية كان يراها منقطعة عن واقع المجتمع العراقي.
كما أنّه كان دؤوباً على المشاركة في المجال العام وقضاياه من خلال النشر في الصحف، والجلسات التي كان يحرص على حضورها في النوادي الاجتماعية والتجمعات الثقافية المتنوعة.
ولم يكن الوردي مهموماً بممارسة السياسة، أو الخوض المباشر في موضوعاتها. وهذا ما أنقذه من مصير الأنتليجنسيا العراقية في ذلك العهد التي كان مقتلها بالانسياق وراء الشعارات السياسية والتوجهات المتقلبة، إذ دفعت ثمنها الثقافة العراقية غالياً بعدم التأسيس لتراكم معرفي، أو عمل جماعي.

كان يرى منهجيات العلم وفقاً لمنطلقات غربية منقطعة عن واقع مجتمعه

وسعى الوردي في المقابل إلى الإسهام في بناء هوية عراقية مميزة، وعاؤها حدود الوطن، وشعبه المتنوع، حاثّاً على عدم ربط الجماعات العراقية القومية والطائفية والدينية بما يمكن أن تشكل امتدادات لها خارج الحدود. وتلك العراقوية المميزة ظهرت في أبرز دراساته السوسيولوجية تحت عنوان «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي» (1965). الدراسة التي أسس فيها لعلم اجتماع عراقي خالص يدرس ويفهم ويشرّح ظواهر اجتماعية عراقية، يبدو أنه صالح حتى اليوم.
ومن أبرز القضايا التي أسّس لها هي فكرة نظرية مستوحاة من أعمال ابن خلدون دعاها «ازدواج الشخصية العراقية». وكان يقصد بها تلك الثنائية الثقافية التي تتنازع الشخصية العراقية فيها من دون وعي، بين البداوة والحضارة. وقد تعرضت هذه الفكرة النظرية لنقاشات حادة لم تهدأ حتى اليوم، جلّها سوء فهم لها ليس إلا! فازدواجية الشخصية لا تعني النفاق الاجتماعي، إذ إن النفاق الاجتماعي يمارس عن وعي من قبل الأفراد، في حين يشير ازدواج الشخصية إلى تناقض ثقافتين يتشرَّبهما العراقي منذ نعومة أظفاره: ثقافة تدعوه إلى ممارسة العيش وفقاً لاستحقاقات البادية، وأخرى تشدّه ليكون حضرياً مدنياً متمدناً.
وعلى الرغم من أن الوردي لم يكن يريد من ازدواج الشخصية أن تحلل شيئاً سوى تضارب الصحراء والمدينة، إلا أن هذه الفكرة تحديداً بإمكانها أن تفسر جانباً تجنّبه الوردي بذكاء، وهو طبيعة الظاهرة الطائفية في المجتمع العراقي، لضرورات القيود السياسية والمجتمعية آنذاك.
ووفقاً لهذه الرؤية (أي ازدواج الشخصية) فإن العراقي بإمكانه أن يكون «طائفياً» حتى النخاع ضمن ما يمكن أن ندعوه بالمجال الخاص للجماعة الطائفية، إلا أنه يكون مواطناً محايداً شديد التقبل للآخر الطائفي في المجال العام. وتمارس الشخصية العراقية هذا الأمر بتلقائية شديدة يمكن ملاحظتها في المجتمع، من دون أن تخضع لمعادلات السوسيولوجيين المتكلسة بتناقض المواطنة مع الطائفية! كأن العراقي طيلة قرون طوّر نمطاً من الشخصية تعيش واقعين متضاربين: طائفي منغلق من جهة، ومتسامح يؤمن بالتنوع من جهة ثانية من دون أن يعيش بالضرورة حرباً ضروساً تنتهي بنهاية آخر، أو ذوباناً تاماً بروح المواطنة وفقاً لاستحقاقات الدولة الحديثة.
لم يكن الوردي حاضراً في أشد الصراعات الطائفية في عراق ما بعد 2003، ولم يكن حاضراً ليرى تعايش الطوائف في المجال العام اقتصاداً، ومؤسسات إدارية وأكاديمية وغيرها، لكنه لو قدّر للراحل أن يتحدث اليوم لقال: «ألم أقل لكم إنه ازدواج الشخصية»؟!
* أستاذ علم الاجتماع السياسي - كلية الآداب - جامعة بغداد