حكي الكثير عن الشتات الفلسطيني، ربما ليس بمقدار ذلك الذي حكي عن الشتات الصهيوني. يأتي كتاب «في الممر الأخير: سردية الشتات الفلسطيني ـــ منظور ما بعد كولونيالي» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) واحداً من الكتب القليلة الحديثة التي تتناول الشتات كبعد حضاري ثقافي متلازم ومتلائم مع الوجود الحالي للشعب الفلسطيني. يبدأ الكتاب بصدمةٍ مباشرة: «في 15 أيار/ مايو عام 1948: انتهى الشتات اليهودي، وبدأ الشتات الفلسطيني حيث أصبح يعيش أكثر من نصف الشعب الفلسطيني خارج فلسطين التاريخية، في حين يقبع النصف الآخر في سجنٍ كبير. يقيم الفلسطينيون في الطارئ، أو في الممر، في الوجود أو اللاوجود، متى ينتهي هذا الممر؟».
الناقد والمختص في النقد الأدبي وخطاب ما بعد الكولونيالية الفلسطيني رامي أبو شهاب جعل كتابه بعيداً عن بعض الأدبيات المتناثرة هنا وهناك. إنّه بحث أكاديمي منهجي ومنطقي ضمن الفكرة الرئيسية: الشتات. هل هو ممرٌ للوصول إلى مكانٍ آخر، أم أنه وجود منطقي بحدّ ذاته يجعل «المشتتين» أنفسهم ضمن «فلك» أو «فخ» لا يمكن الفكاك منه؟ هذه الضرورات المنهجية يتناولها الباحث الفائز بـ «جائزة الشيخ زايد للكتاب» عام 2014 (عن كتابه «الرسيس والمخاتلة: خطاب ما بعد الكولونيالية في النقد العربي المعاصر»).
ينقسم الكتاب إلى أربعة فصولٍ رئيسية. يبدأ الفصل الأول بتناول الشتات كفكرة تحتاج إلى تعريف. يقاربها في إطارها المعرفي ككلمة بدايةً، ثم كمفهوم خصوصاً مع التركيز على الكلمة من حيث بعدها «التاريخي/ الجغرافي» كما الاستعمالي: إذ إنها فطرياً ترمز إلى شتات الشعب اليهودي، وليس إلى الفلسطيني مثالاً. يتحدث في قسم متخصص عن الشتات اليهودي وصولاً إلى الشتات الفلسطيني، مركّزاً على أن التعبير الذي استعمل عادةً، كان يرمز إلى أناسٍ معينين هجّروا من أرضهم وارتحلوا لأسبابٍ متعددة لكنّها بجميعها «إجبارية». يقدّم الكاتب نماذج «ثقافية/ أدبية» عدة، حكت عن التجربة بحد ذاتها.

يقارب روايات جبرا إبراهيم جبرا، وغسان كنفاني، وإميل حبيبي

يورد رواياتٍ صهيونية/ يهودية تتناول مغادرة اليهود للعديد من البلدان، ولعل أبرزها كتاب Exodus أو «الخروج» للكاتب ليون أوريس (leon Uris) التي استمرت في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لسنوات طوال في الغرب. هنا يتحوّل الشتات إلى عملية «تذكر» و«تذكير» دائمة للمأساة التي أحاقت بهذا الشعب (والمعني بها الشعب اليهودي) من خلال أعمال فنية قام بها خبراء من طراز المخرج ستيفن سبيلبيرغ لتكريس اليهودي كـ «ضحية» في الوعي البشري العالمي. من جهةٍ أخرى، يتناول الكتاب فكرة مهمة هي أنّ الشتات مرتبط حصراً اليوم بالشعبين اليهودي والفلسطيني، إذ لا يمكن اعتبار الغجر مثلاً ــ بحسب الكتاب- مشتتين أو مروا بتجربة شتات. هم لم ينتموا إلى وطنٍ معين، كما أنّه «ليست هنالك عوائق سياسية، تحول دون استقرارهم، ولهذا، فلا وجود لما يسمى مسألة الغجر، في حين أن هنالك المسألة اليهودية أو المسألة الفلسطينية».
يناقش الكتاب في الفصل الثاني مسألة الشتات الفلسطيني شارحاً المفهوم والنشأة، ثم لاحقاً التمظهرات النصية لخطاب الشتات من خلال الوعي به ثم الهوية التي منحها لحامليه: «إذ تتضح إشكالية الهوية لدى الشتات الفلسطيني باعتبارها مظهراً بارزاً في تغذية الخطاب الفلسطيني السردي، بيد أن مفهوم الهوية ينطوي على أبعاد كثيرة تؤهله لأن يتصدر هذا المشهد، فالصراع العربي الفلسطيني في جانب منه ينهض على الهوية ورغبة الفلسطيني في مقاومة كل المساعي التي تهدف إلى تذويب الهوية الفلسطينية وتصفيتها». بعد ذلك، ينتقل الباحث إلى الأبعاد التي تشكّل هذا الشتات: الجغرافيا من خلال مفاهيم الإزاحة في صورتها الأولى، الذاكرة والتذكّر واللغة. لا ينسى الكتاب أيضاً نقاش «علاقة الفلسطيني مع الدول المضيفة من منظور الاندماج والقدرة على بناء تواصل صحي». ويكمل: «وهكذا، يبدو الشتات الفلسطيني من أشد أشكال الشتات تعقيداً وألماً، كونه معيشاً ومكروراً، فالفلسطيني ينتقل ويختبر الشتات مراراً وتكراراً، فالمجاميع البشرية ترتحل في المكان والزمان، لا تعرف الاستقرار كون الدول المضيفة في معظم الأحيان، لا تعدّ، أو لا تمثّل للفلسطيني نموذجاً مثالياً للاستقرار وتحديداً في دول الطوق، أو الدول المحيطة، مما يفرض على الفلسطيني حالةً من الاستعداد لتجارب أخرى من التهجير والبحث عن أوطان جديدة».
في الفصل الثالث، يتناول الكاتب التجارب التي تناولت الشتات من الناحية الثقافية والأدبية، فيتحدث عن الأنساق الخطابية لكتابة الشتات. يبدأ مع كتابة الأسلاف، فيوضح «يمثل أدب الشتات مفهوماً محورياً في سياقات ما بعد الكولونيالية، فالشتات نمط من التداعي ينتج تبعاً لعوامل عدة، ولكن أهم ما يميزه فعل الارتحال، أو الانتقال الذي يطال تشكيلات من المجاميع البشرية». ينتقل بعد ذلك إلى نماذج روائية محلية للكتّاب الأوائل الذين صنعوا الروايات الأولى للشتات الفلسطيني. يتحدث عن كتابات جبرا إبراهيم جبرا، غسان كنفاني، إميل حبيبي، بوصفها أعمالاً «لامست الشتات لا بوصفها ظاهرة وجودية، إنما بوصفها حالة تستند إلى أبجديات المقاومة، ولهذا آثرت أن أقارب بعض هذه الأعمال في سياق قراءة مسحية تهدف إلى اكتناه الشتات من منظورة الكتابة المبكرة الخاصة بالأسلاف». من جهةٍ أخرى، يضيف: «يمكن القول بأنّ الأدب الفلسطيني، وتحديداً، الرواية، بدأت وعيها بالشتات من اللحظة التي عايش فيها الإنسان الفلسطيني النكبة التي تطلبت فعل الارتحال الذي كان في طابعه جمعياً». في البداية، يتناول غسان كنفاني لأنّ أدبه «يدرك ما للشتات من تداعيات خطيرة على القضية الفلسطينية، والنضال»، فيما نجد أنّ اميل حبيبي (وتحديداً في رواية «سعيد أبي النحس المتشائل») «قد انطلقت رواياته من الصدمة من جراء سقوط فلسطين.. إن حدثاً كضياع وطن سوف يدفع إلى هذيان محموم، كما الجنون والسخيرة اللذين صاغا مظهره».
في الفصل الرابع والأخير، يتناول الباحث النماذج الكتابية الفلسطينية التي بحثت في الفكرة نفسها، وإن بشكلٍ أوسع وأكبر. يقارب المسألة لناحية ما هو موجود وما هو ممكن أن يكون موجوداً (بين فكرة الأرض الغائبة، والأرض الحلم)، ضمن مسائل أخرى يحاول البقاء ضمن إطارها العام.
بشكل عام، الكتاب بحثٌ يستحق القراءة، وهو أقرب إلى الأبحاث المنهجية المعروفة في الغرب، وقد بتنا نفتقدها بشدة في عالمنا العربي.