بعد عشرة أعوام من رحيل جان بودريار، ما زالت أزمة تصنيفه التقني قائمة. والتصنيف التقني ما هو إلا تلك العملية التي نتمكن من خلالها وضع شخصية ما في خانة محددة: كاتب صحافي، باحث في شؤون الأديان، باحث في شؤون الاقتصاد، إلى غيرها من التصنيفات التي لا تنتهي على امتداد خط تقسيم العمل.
لم يكن بودريار لا هذا ولا ذاك، لم يكن مثقفاً عضوياً كما تفهمه الأدبيات السياسية على عجالة، ولم يكن كلاسيكياً بالمعنى الرائج. يمكن القول إنه الرجل الذي لا خصال له على حد تعبير الأديب النمساوي روبرت موزيل. وهذا لا ينتقص من بودريار، فما هو إلا تعبير عن اللانهائي في اهتمامه وشبقه البحثي وليس محدوديته.
معنى أن يكون الفرد مفكراً شاملاً، هو أن تتجاوز أفكاره ـ بشموليتها- حدود الزمان والمكان لعصره، وهذا يختلف عن الدراسات المستقبلية واستقراء ملامح المراحل القادمة. كما يختلف عن النصوص القاسية والجامدة. هذا ما تمكن بودريار من فعله عبر العديد من الأفكار الجدلية، ومنها: سلطة الصورة، وروح الإرهاب.
تقاطع بودريار في عمله هذا مع إنتاجات المفكر الفرنسي الآخر، غي دوبور، صاحب المؤلف الشهير «مجتمع الفرجة». ولكن بودريار برشاقة لغته، ووضوحها ـ رغم السياقات الشائكة والمربكة للمعنى ـــ تمكن من دمج علم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد والسياسة في جسم واحد يعبر من خلاله عن الناتج النهائي والشامل.

اعتبر أن هذا النوع من
الذاكرة أو التذكر، هو استكمال لمشروع الإبادة

سلطة الصورة عند بودريار ممتدة على طول خط الزمن، من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل. الماضوية عنده أن يتم تسخين حدث في الماضي عبر الصورة. قد يكون حدثاً بارداً على المستوى الزمني، إلا أنه مأساوي، ومن ذلك على أي حال القضية الفلسطينية، حين يتم استبدال الغضب اليومي بذاكرة اصطناعية، ذاكرة فقط، لا تثير عواصف فعلية، ولا تسبب إزعاجاً كافياً، وتعيد النظرة إلى الحدث المأساوي بقشعريرة ردعية عن الحاضر. شيء مشابه لمهرجانات النخب الناعمة في ذكرى «النكسة» و«النكبة» من دون أي فعل مقاوم يذكر. هي آليات تذكّرنا بالفاجعة الماضية ببعد جمالي دون فعل شيء إزاء الفاجعة التي ما زالت مستمرة الآن وهنا. بودريار المطلع على التاريخ، كان مهووساً بعيش اللحظة، لذلك كان ساخطاً على سلطة الصورة التي تشتتها وتبعثرها وتحيلها على مجموعة صور ماضوية فقط. لم يكن الرجل كارهاً لمعنى الذكريات عند الإنسان، لكنه اعتبر أن هذا النوع من الذاكرة أوالتذكر، إنما هو استكمال لمشروع الإبادة، أن تتحول المأساة إلى حدث متلفز، نشعر إزاءها «بالذنب والكمون المخزي وعدم البوح»، وهنا تنتهي الرواية!
أما سلطة الصورة في الحاضر، فهي الخبر، الذي لم يعد ناقلاً للحدث، وإنما صانعاً له. لم تكن العائلة الأميركية الأولى التي تطوعت لاختبار وتجربة تلفزيون الواقع هي الوحيدة التي تفككت، بل كان أيضاً الإنسان المعاصر الذي تفكك من الداخل، وعجز عن التلقائية، والتزم بالشروط الصارمة للصورة، وتفرج على حياته أكثر من أن يعيشها. وللأمم والدول حصتها من قصف الصور، ونصيب من التفكيك. بودريار لا يبرئ الميديا من التحالف مع سلطة الصورة، فلم يعد وسيط الرسالة ناقلاً أميناً لها، بل بات مستحدثاً لها من الفراغ «المصطنع الذي يصبح في نهاية الأمر واقعاً». وهذا الوسيط يتمتع بقدرة تحميل عالية، إلى الحد الذي يتآكل معه المعنى بسبب تخمة الأحداث، ويتحول الإعلام عندها إلى حفرة امتصاصية للمعنى، ويتمكن من ابتكار معنى مستقل عابر وسريع النسيان لكل خبر منفرد. إن تزاحم الأحداث، وأزمة الناس في تصديقها، وأزمتهم في تكذيبها، ما هو إلا تعبير عن النمط السوريالي البائس الذي يعيشه المجتمع التكنولوجي الراهن. والأهم في بودريار أنه لم يعبر عن أفكاره هذه بسوريالية مفرطة كما حدث مع كثيرين من مفكري ما بعد الحداثة. كان الكاتب الأكثر جدية وعمقاً في التعبير عن بؤس السوريالية الراهنة والقادمة!
تتغذى سلطة الصورة أيضاً على المتخيل، على ما يمكن أن يكون. يصفها بودريار سلطة الردع التي تبتز الأمن الاجتماعي، وتمنعنا من النهوض وتحقيق طموحاتنا. يعتقد بودريار أن الحرب الذرية لن تقع، وهي ليست إلا الصورة المستقبلية لحرب طروادة التي لم تقع. يحيل بودريار بذلك المفاعلات النووية في العالم إلى صور في خدمة سلطة الصورة.
هذه هي سلطة الصورة، كما رسمها بودريار، تعتاش على الماضي لردعنا عن الحاضر، وعلى الحاضر كي تفقدنا المعنى عبر تخمة الأحداث «المستقلة»، وعلى المستقبل لردعنا عن طموحاتنا وأحلامنا. ومع أنه كان استثنائياً في تصوره هذا، إلا أنه كره لعبة الاستثناء في الإعلام، فكان يتمنى أن يخرج أميركي واحد ليقول: ووترغيت لم تكن حدثاً استثنائياً، «والت ديزني» موجودة خارج حدودها أيضاً، السجون موجودة خارج أسوارها كذلك!