تبتعد رواية «فور ستبس داون» (دار الآداب) لمازن حيدر عن الأحداث الصاخبة والسريعة. في الباكورة الروائية للمهندس المعماري، يتمدد السرد على طبقات عدّة من الذاكرة الشخصية الملتبسة مع ذاكرة بيروت. والحق أن الالتباس متجذّر في العمل بمجمله؛ بين حاضر المدينة وماضيها، الذي يولد ضباباً محتماً للمستقبل. هناك التباس بين ذاكرة الأشخاص أنفسهم، فتصبح للذاكرة الواحدة قدرة على التنقل بخفة بين رؤوس عدّة ينتمي أصحابها إلى حقبات زمنية مختلفة. بالرغم من العلاقة المشحونة معه، يبدو بطل الرواية عالقاً في ماض ليس ماضيه الشخصي فحسب. كان راجي، يجد سبلاً كثيرة إلى الماضي، يعبره عبر بطاقات بريدية تركها أصحاب منزل بيت شارع ليون، وعبر تلك التي كان يبتاعها من مكتبة «فور ستبس داون» في رحلاته الكثيرة مع صديقه الفرهود إلى شارع الحمرا، ثم من خلال روايات والده وذكرياته عن المدينة ووسطها الزائل. وهو بذلك يعبر عن جيل الحرب الذي اعتاش على مرويات الآباء المثقلة بنوستالجيا ضاعفت من حدّتها القطيعة التي أحدثتها الحرب.

نوستالجيا صارت بشكل أو بآخر تعرقل علاقة جيل الحرب وما بعده بواقع مدينته، فلا تعود له القدرة على الرجوع إلى الماضي ولا الرغبة في رؤية الحاضر. المدينة: بيروت التي يعود راجي إليها. يقرر ذلك بعد إقامة طويلة في فرنسا. العودة إلى المدينة، بعد قضاء وقت طويل من الحرب فيها، تستدعي اللجوء إلى طبيب نفسي، خصوصاً مع وفاة والده. تتزامن رحلة العلاج عند الطبيب روكز مع الإيغال في ذاكرة راجي الشخصية، التي تفرج معها عن ذاكرة العاصمة اللبنانية. يختار حيدر بدقّة محطّات أساسية من السيرة المعمارية والاجتماعية والسياسية للمدينة المرتبطة بفترات وأحداث مختلفة.
ولعلّ هذا الانغماس الروائي في الذاكرة، آت من تخصص المهندس المعماري مازن حيدر في ترميم الأبنية لا في تسلم مشاريع عشوائية من تلك التي تملأ العاصمة. يستفيض حيدر في سرد سير الأمكنة عبر علاقة راجي بها. العمارة ليست هيكلاً اسمنتياً. رغم توقفه عند بعض التوصيفات الشكلية لأبنية بيروت وبلاطها وألوان طلائها، فإن حيدر يدخل إلى العمارة عبر الأشخاص والعائلات التي تقطنها في بيروت الغربية وتحديداً منطقة رأس بيروت. يثقل حيدر عمارته الروائية ببعض التفاصيل الداخلية وبالعلاقات البشرية التي تظهر كلمحات على هامش قصة راجي، معيداً إلى العمارة بعدها الحميمي المشبع بحيوات سكّانها.

محطّات أساسية من السيرة المعمارية والاجتماعية والسياسية للمدينة

هذا لا يعفي الرواية من الجانب التوثيقي. يستحضر حيدر الغنى الديموغرافي في بيروت، وسكانها الأرمن والآخرين الآتين من البقاع وجبيل، ومناطق لبنانية أخرى. يحمّل هذه الحيوات بخلفياتها الثقافية والهوياتية وبقضايا اجتماعية كقضية المستأجرين القدامى. هناك وفرة من المرويات الشفوية التي تلتصق بأرواح هؤلاء الشخوص: راجي ووالده جليل وأمه ساريه وأخوه فراس، نورا الخازن، داني الكك، روكز، ومانويل وغيرهم. لا تنفصل قصص هؤلاء عن العمارة البيروتية، الذي سيكون التعريف الأقرب لها مستمدّاً حتماً من قدرة هذه العمارة على احتواء الناس بتنوّعهم، ومن قدرتها، بالطريقة نفسها، على لفظهم خارجاً. من منزل بيت السد في بيروت الشرقية، انتقل راجي مع عائلته إلى منزل مانويل آحو في شارع ليون، ثم إلى منزل سيزار في منطقة الظريف. في موازاة هذه الهجرات البيروتية، هناك أزمنة عدّة تستحضر تحوّلات العاصمة نفسها؛ قبل الحرب وخلالها وما بعدها. وإذ يفتت راجي ذاكرته وذاكرته المتوارثة عند طبيبه روكز، فإنه يفعل ذلك ليقطع الأوصال مع الماضي ويتقبل المدينة، بتحولاتها السريعة، بعد قدومه إليها. تظهر هذه العلاقة المتضاربة مع الماضي منذ بداية الرواية. يقرّر راجي، بثقل، محو رسائله الهاتفية من داني الكك، الذي تبقى العلاقة معه مبتورة الملامح طوال الرواية. هنا، يتماهى ميل راجي في التخلي عن ذاكرته، مع تخلي المدينة عن ذاكرتها بالمدافع، بآلات الهدم/ الإعمار.
الكاتب الآتي من خلفية معمارية، يولي اهتماماً للجانب البصري في روايته المتخمة بالخطوط والأشكال وصور البطاقات البريدية، وبمشهديات للمدينة، وبالجانب الفوتوغرافي الذي يظهر من خلال قصة مانويل آحو، صاحب منزل ليون. عبر خطين روائيين مختلفين، واحد بصيغة المتكلم وآخر بصيغة الغائب، تتقاطع سيرة مانويل مع سيرة راجي في نهاية الرواية، التي تبدو كسؤال طويل عن معنى الانتماء المكاني، من خلال مدينة بيروت وتحوّلاتها.