من الممكن أنّ بودريار كان يعرف ما تحمل نصوص الوهابية والأدبيات المرجعية لـ «داعش» والقاعدة من جنون وإجرام وإرهاب، ومن المؤكد أنه كان قادراً على قراءتها وإجراء المقاربات السريعة مع باقي النصوص، وتقديم إثباتات متعلقة براهنية النص من عدمها. إلا أنه اختار أن يتحدث عن الإرهاب بوصفه ظاهرة للعولمة الرأسمالية، تسبب فيها الغرب في الأساس، وكان هؤلاء المقيمون في الجانب المطحون من العالم وقوداً لها، بعدما وقعوا في فخ النص الجامد والتأويل الذي أنتجته «مراكز القرار» في الدول التابعة للسياسة الأميركية. بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، في الوقت الذي تدافع فيه العرب والشرق للدفاع عن سمعتهم، كبشر لا يدمنون القتل، كان بودريار يتهم الغرب بإدمان القتل والتوحش، فنشر عدداً من المقالات تتناول ظاهرة الإرهاب، وتم تجميعها في كتاب «روح الإرهاب»، الذي أصبح لاحقاً جزءاً من كتاب أكبر هو «ذهنية الإرهاب، لماذا يقاتلون بموتهم؟»، ضُمِّنت فيه مواد لجاك دريدا، وأمبرتو إيكو.

يمكن القول إن بودريار كان «مفرطاً في شرقيته»، ومن مكانه في العاصمة الفرنسية، تحدث عن إرهاب الغرب.
لم تكن الدماء في عروقه (الغرب) قد بردت إبان تفجير برجي التجارة العالميين. ولأنه مسكون بتفكيك الصورة، ويعرف سطوتها، فضل التنبيش في رمزية الحدث ومعناه: «إن الإدانة الأخلاقية والاتحاد المقدس ضد الإرهاب، هما على مستوى الابتهاج الخارق أمام رؤية دمار هذه القوة العظمى، بل أفضل من ذلك، رؤيتها وهي تدمر نفسها بنفسها، وهي تنتحر على نحو رائع». بودريار أدان إجرام الفاعل (على عكس ما طرحته محاولات اليمين الثقافي الفرنسي في تأليب الرأي العام ضده)، ولم يته قلبه عن الضحية، ولكنه قدر حجم «التواطؤ المضمر» عالمياً ضد إرهاب الغرب، ضد رمزية البرجين في توأمتهما، رمزية الغرب المتوحش، الذي احتكر القوة كلها وركزها في مكان واحد، المال والمضاربات في البورصة والتقنيات المعلوماتية والشبكات الإعلامية. وفي مكان آخر، كان هناك أناس يبحثون عن موتهم ويريدونه. كانت الحادثة بنظره إرهاباً ضد إرهاب، معركة بلا سمات ايديولوجية بين طرفين، بل طرف واحد في نهاية المطاف، نظام العولمة الرأسمالية ونتائجه!
الغرب مسؤول عن نظام العولمة هذا، وهو بذلك مسؤول عن النتائج اللاحقة له، هذا ما يعتقده بودريار. فمع أن الحدث الإرهابي لا أخلاقي، إلا أن مركز التجارة العالمي لا أخلاقي كذلك. نيويورك صورة للنظام العالمي، فهذه البنايات الضخمة التي يقضي فيها الناس حياتهم، تثير الهلع من العيش فيها، تماماً كما تثير الهلع من الموت فيها. الغرب هو الذي علم العالم التعامل اليومي والاجتماعي حسب سعر الفائدة، وحول الحياة إلى طاولة بوكر، قبل أن يستفيد من ذلك أصحاب الوصفة السحرية في الانتقال السريع إلى الجنة. والغرب هو الذي خلط بين العام والعالمي، ففي الوقت الذي تتحول فيه القيم الأرقى تلقائياً إلى العام، فرض هو منظومته الخاصة كي تصبح عالمية، لكنها لم ترقَ للعام أبداً.
انتقد بودريار الغرب في قيادته للحرب العالمية الرابعة، التي يعتبرها الوحيدة التي تستحق هذا الوصف، كون العولمة هي موضوعها الأساس. عندما كبحت الأولى سيطرة أوروبا والعصر الاستعماري بنسخته الكلاسيكية، والثانية أنهت النازية، والثالثة محت الشيوعية، كان العالم يسير خطوة خطوة باتجاه النظام العالمي الوحيد، وباتجاه الحرب العالمية الرابعة داخله.
سمات هذه الحرب واضحة في رأس بودريار: هي أولاً الحرب التي تلازم كل نظام يفرض نفسه بشكل لانهائي على العالم، وكل سيطرة مهيمنة. وثانياً هي حرب تلازم نظام توهّم الوصول إلى حالة الكمال، وأوهم الناس أنه نظام الـ «صفر موتى»، فأي شرارة تصيبه تربكه وتظهر عيوبه الخفية. وثالثاً هي حرب ضد نظام يصل إلى أقصى الحدود المعاكسة لدعايته، فالعولمة الليبرالية تصل إلى العولمة البوليسية والرقابة الشاملة والرعب الأمني، والإرهاب «الوقائي» لا يأبه بمبادئ الديمقراطية والإنسانية. ورابعاً تمتلئ هذه الحرب بالأطراف الشبحية التي لا تعبر عن أطراف واقعية للنظام. لا الإسلام، ولا المواطنون الأميركيون كانوا أطرافاً حقيقيين لحادثة التفجير.
ليست صورة الانتحاريين الذين أسقطوا برجي التجارة سوى تعبير عن بؤس النظام العالمي وشح خيارات مقاومته وصورة للعميل المزدوج فيه. وليس البرجان في نظره سوى رمزية للغرب المتوحش، وليست الحادثة سوى انتحار النظام على أيدي الانتحاريين الذين أنتجهم بنفسه.
لم تنتج الحرب العالمية الرابعة خصماً كافياً، سليماً ومعافى، عندما كانت عينا بودريار ترى النور، فهل يتململ قريباً في قبره فرحاً؟