لم تكن بدايتي مع الشعر مثل البدايات الغريبة أو غير المتوقعة، إنما كانت نتيجة وسيراً مع نسق ما كنت أعيشه في بيت يمتلئ بالشعر في كل زواياه. كان والدي عبدالحميد السنيد شاعراً وخطيباً، وخالي حسون البحراني شاعراً أيضاً، وكانت أمي حافظة للقصص والأحداث التأريخية وللشعر الفصيح والشعبي، أحفظ منها حتى الآن الكثير من الشعر الذي غذت به طفولتنا.
لا يمكنني الحديث عن كتابي الأول من دون التوقف عند شخصية أبي التي بهرتني، وما حبي للشعر وكتابتي له في البداية إلا وفاء لما أراده أبي الذي علّمنا بحور الشعر، فحفظنا مفاتيحه بطريقة الألحان، ولا أدري هل كانت ألحانها تلك معروفة سابقاً أم أن تلك الألحان من إبداعه. وكان ديوان أبي «ألحان الروح» أناشيدنا التي نرددها في البيت غالباً.
في سن السادسة، كنت أرافق والدي إلى المقهى لأعتلي الطاولة، فأنشد أمام أصدقائه ما حفظّني إياه من قصائد. ولصغري، كنت أرى طاولة المقهى مسرحاً، والجلّاس جمهوراً غفيراً يدعونني بالشاعرة. كنت واثقة من نفسي وأنا أرى كبار السن من الرجال يلتفون حولي للاستماع والتصفيق وتقديم العصائر والحلوى لي.

نكبر بالشعر في ذلك البيت، فيستحوذ على أمسياتنا أكثر فأكثر، حيث نتحلق حول المدفأة نتهيأ، كلٌ يحمل ورقة وقلماً، ينظم أبي الصدر وكل واحد منا يكمل البيت، وهو يحكم فيما بين الأخوة، ومن سيكون الرابح له جائزة.
«يا بيت أهلي في العراق/ في البال أيام الشتاء/ والأيادي والقلوب/ تمتد من بردٍ لمدفأة صغيرة/ ثلجٌ وقر مدافئ الدنيا خلاها/ دفؤها عيد وشمس/ حولها يُحكى لنا شيء من الأسفار/ يمضيها المغامر سندباد/ بترقب أو بانتظار نصغي/ وندّخر الحروف مع الخيال/ نلوّن الأحداث كلٌ في هواه/ حتى يحوم طيفَ النعاس على العيون/ يا بيت أهلي في العراق/ ورفيف أجنحة الحمام على الفراتْ/ يا فراشات السواقي، يا فسائل، يا نخيلْ/ ياكل أعمار/ الكبار توقفي حتى نعود/ ونزيل أوجاع الرحيل/ فالعمر قد قال التحية/ واستدار الى الغروب / خلفَ الحدودْ/ فمتى نشمُّ شذا الرجاء/ ظمأَ الرجاء/ بَعُدَ الرجاء/ فيا سنين توقفي حتى نعود».
في المدرسة الابتدائية، كنت ألقي قصيدة حينما يُرفع علم العراق كل اسبوع أمام طالبات المدرسة جميعاً. وفي مراهقتي، جمعت داخل دفتر جميل الغلاف ما كتبته من محاولات شعرية. لكنني حينما طبعت كتابي الأول «اغتراب الطائر» استبعدت كل ما كتبته سابقاً، ولم أعتد بكل قصائدي التي كتبتها حينما كنت طالبة.
كانت روح أبي تلحّ علي أن أكتب وأنشر أشعاري لأحقق له كتاباً يضاف إلى هذه المخلوقات القريبة منه أكثر من أي شيء في العالم. فلم أتخيل أبي من دون كتاب، حتى غدت رائحة الكتب ورائحة أبي واحدة. كنت وأنا صغيرة أحب رائحة الكتب وأشمها... ففيها أبي.

اضطررت لمغادرة العراق بعد مطاردتي ومنعي من السفر لأخرج هرباً عام 1979 بلا وثائق إلى لبنان عبر سوريا


كتبت ما تعلمته أولاً وهو الشعر العمودي، وما كنت تعلمت شعر التفعيلة بعد. وحينما أكتب قصيدة تفعيلة، كنت أكتبها عمودية ثم أفككها وأطيل التفعيلة هنا، وأنقصها هناك. لكنني بعد فترة صرت أكتبها دونما العمود ووقعت في عشق التفعيلة أكثر من كل شيء، فجاءت مجموعتي الأولى أغلبها شعر تفعيلة وشعر حديث. واستبعدت كل قصائدي العمودية، لكن العمود جاء في أربعة أبيات بقصيدة منه:
أودع قلبا بالفرات ولا أدري بأن الفرات اليوم ودّعه الدهرُ
وأجمعُ بعضي من همومي وأنني إذا لمتُ أيامي يكون لي العذرُ
فلا خبرٌ يأتي ولا الريح تُرتجى وقيديَ صمتٌ من دمائي يقطرُ
أراهنُ والبلوى خسارة راهنٍ رمى سهمهُ بالنارٍ والنار تسعرُ
بقي الشعر هاجسي الذي ترافق مع همومي في الوطن والناس، وكان عندي يقين ثابت أنني سأطبع كتاباً بل كتباً في الشعر. فرغم تأخري في نشر الكتاب الأول بسبب ظروف سياسية واجتماعية، إلا أنني كنت واثقة أن الحلم سيتحقق.
نشرت أول قصيدة لي عام 1975 في صحيفة «الراصد» العراقية ولما أزل في المرحلة المتوسطة، وهي قصيدة تدافع عن المرأة والوطن.
تمردت على السلطة الجائرة منذ صباي الأول لأحتمل معارضة أهلي على أفكاري وما تبعه من عذابات كثيرة حتى اضطررت للإضراب عن الطعام لعدة أيام في بيت أهلي تعبيراً عن احتجاجي ورفضي لضغوطاتهم من خشيتهم عليّ، أنا البنت الصغرى للعائلة، بسبب قسوة النظام والخوف من وقوعي بين براثنه.
«مردوخ» كفَّ عن العراق
زادت عطايانا إليك فما تريد؟
جفّت شواطئنا
فلا نبع يفيض ولا غلال
وطقوسنا اندثرت
سوى طقس البكاء..
يستشرس النظام العراقي، فأضطر لمغادرة العراق بعد مطاردتي ومنعي من السفر لأخرج هرباً عام 1979 بلا وثائق إلى لبنان عبر سوريا، وأعيش الحرب هناك مع الشعبين اللبناني والفلسطيني حتى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 حيث انتقلت إلى سوريا التي أكملت فيها البكالوريا ودرست في كلية الحقوق، لتأتي هولندا بمثابة الحلقة الأخيرة في مسلسل المنافي عام 1994.
صدرت مجموعتي الأول «اغتراب الطائر» عام 1996 الذي جاءت أغلب قصائدها حنيناً إلى الوطن. طبعته على آلة كاتبة ولم يكن لدي يومها جهاز كومبيوتر بعد. أرسلته لدار نشر مبتدئة في سوريا، واستغربت حينما تسلمت نسخاً منه مطلع عام 1997 بأن المجموعة مليئة بالأخطاء المطبعية التي ظن القراء أنني وقعت فيها. وحينما استفسرت، عرفت بأن الشابة البسيطة التي طبعته في تلك الدار هي التي وقعت في أخطاء نقل ما طبعته أنا على الورق. وقد حملني الآخرون وزر تلك الأخطاء، وكم تألمت وأنا أقرأ لناقد مصري في إحدى الصحف يقول: «صحيح أن شعرها مؤثر وحامل لمعاني عميقة، لكنها تتعامل مع اللغة بجهل».
مثلما نرسم نخلة
أو نردد دار دور
بقراءات الطفولة...
مرة نضحكُ أو نعشقُ يوماً
أو نئنُّ
إنما في القلب قفلٌ
ظلّ موصوداً ولا يفتحُ إلا
عند أبواب العراق.
بكيت واستفاق جرح والدي في روحي، وأحسست نفس الوجع الذي رآه وهو يرى ديوانه الأول ويتمنى لو أنه كان أفضل.
الغريب في الأمر أن كتابي جاء نفس لون وحجم كتاب والدي دونما أطلب ذلك أو أحدده. ويبدو أن عقلي الباطني احتفظ لي بتلك الصورة، فذقت ذات المعاناة، وزاد وجعي أكثر حين علمت بأن الدار لم تطبع من الكتاب سوى النسخ التي تسلمتها منها ووزعتها أنا شخصياً على الأصدقاء. ولم تأخذ الدار موافقة وزارة الإعلام على نشره. لذلك فهو لا يباع في المكتبات، أي كأنني ما نشرت. صدمت وكانت خيبة أملي كبيرة كمن يصدم بطفله الأول ليكون خديجاً بعدما انتظر الشهور وفي خياله طفل جميل يدخل الفرح لكل من رأى.
في هولندا، هناك من أعجب بالمجموعة، فترجمت إلى اللغة الهولندية كأول كتاب لشاعرة عربية يصدر بلغتين: بالعربية من الجهة اليمنى، والهولندية من الجهة الأخرى، وقد نال إعجاب الهولنديين بشكل كبير، ونفد من الأسواق في أقل من عام، وحقق لي دعوات وأمسيات قاربت المائة، إذ قرأتُ أشعاري في المسارح والإذاعات والتلفزيون والكنائس والمكتبات والبلديات ومنظمات المرأة وحقوق الإنسان...
الترجمة عوضت لي خيبة أملي، نهضتُ من كبوتي لأستمر في إصدار مجموعات أخرى فأصدرت خمساً ورواية، إلى جانب مخطوطات لم تطبع بعد.