صنعاء | لا ينسى الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح (1937) مواعيده. ما زال محتفظاً بذاكرة مقاوِمة إلى درجة قدرته على تذكّر تاريخ اليوم الذي قرّر فيه التوقف عن تناول الشاي في منتصف سبعينيات القرن الماضي، خلال فترة إقامته المصرية للدراسة. خلال حديثنا، يأتي على ذِكر قصيدة كتبها في منتصف ستينيات القرن الماضي، يتردد في عنوانها. نذهب إلى مكتبته الضخمة لتقليب ديوان الأعمال الكاملة من أجل التأكد، فنجد العنوان نفسه الذي قاله لنا «الموت».
قصيدة سبقت صدور ديوانه الشعري الأول «لا بد من صنعاء» (1971) الذي فتح أبواب القصيدة أمام كاتبها ليدخل عالم النص التفعيلي لاحقاً عبر أعمال وضعت للشعر اليمني محلاً في مبنى القصيدة العربية الحديثة، ووضعت المقالح في واجهة التعريف بوجود كتابة جديدة في صنعاء إلى جانب الشاعر اليمني البارز عبدالله البردوني. على الرغم من كتابة البردوني للقصيدة الكلاسيكية شكلاً، إلا أنه نجح في إنتاجها بطريقة تجاوزت ذلك الشكل لتبدو حديثة تسابق عصرها. من جهته، واصل المقالح كتابة قصيدة التفعيلة وقبض عليها منشغلاً بتطويرها من داخلها ولم يقدم، كغيره، على نقلة نهائية باتجاه قصيدة النثر على الرغم من إيمانه بجواز المزاوجة بين الأشكال، بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، كما سيفعل في «كتاب الأصدقاء» (2002) «حيث المعيار في الشعر لا يأتي من شكله، بل من القيمة الفنية التي يحملها ذلك الشكل». وإلى جانب الشعر، التزم المقالح بالتدريس الجامعي أستاذاً للأدب الحديث، قبل أن يصبح الشاعر اليمني الوحيد الذي ترأس جامعة صنعاء من عام 1982 حتى 2001. خلال تلك الفترة، واصل إنتاج أعماله البحثية في الشعر والقصة والرواية اليمنية. كل هذا أتى عبر التزام مرتبط بشكل حياته التي اختار نمطها منذ سنوات طويلة واستمر عليها بعد كل هذا العُمر الطويل. للشعر وقته، وللعائلة وقتها وللأصدقاء وقتهم وللبحث العلمي وقته وللتدريس الجامعي كما لمهمات وظيفته كرئيس لـ«مركز الدراسات والبحوث» اليمني والمجمع اللغوي، إضافة إلى إشرافه على إصدار «غيمان»، المجلة الثقافية الوحيدة التي كانت لا تزال تصدر في البلاد، إلى أن أوقفتها الظروف الجارية التي أوقفت كل شيء تقريباً. هو التزام لم تنجح الظروف القاسية التي تمر بها البلاد في التأثير على انضباط سير عقارب ساعته وأشغاله وارتباطاته. لكنها مع ذلك، الظروف نفسها التي نجحت في بسط نبرة الحزن على كلامه وكتابته على حدّ سواء. إلى ذلك، يتابع أخبار رحيل أقرب الأصدقاء إلى حياته في مصر أو اليمن على حدّ سواء. حين دخلنا عليه، وجدناه يعيد ترتيب قصيدة جديدة كتبها راثياً آخر الراحلين من رفاق درب الحياة والأدب والنضال، الشاعر اليمني أحمد قاسم دمّاج. «لقد حدث ارتباك ونُشرت القصيدة ناقصة، وهذه النسخة التي معي الآن هي النص الكامل لها»، قال لنا شاعر «كتاب الأصدقاء». مسألة النشر هنا يقصد بها النشر على صفحته على فايسبوك، التي يديرها أحدهم، غيره. يكتفي فقط بالمتابعة. نخبره أن القصيدة «الناقصة» حازت أكثر من ستة آلاف إعجاب ومئات المشاركات. يبتسم مؤكداً ضرورة إعادة نشرها مكتملة


■ كيف تنظر إلى مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً «فايسبوك» الذي صار منبراً لنشر القصائد؟
- من المحزن للغاية أن يفاجئني بعضهم بالحديث عن قصائد ومقالات منشورة على فايسبوك ومنسوبة إليّ، تتناول الأوضاع الراهنة بأسلوب حاد وبلغة لا تتفق مع أسلوبي وقاموسي اللغوي ومعرفتي بالكتابة الشعرية أو النثرية، وبعض الذي يُنشر من السقم والرداءة إلى درجة كبيرة. الغريب أن هذا الذي يُنشر يأتي على حالتين متناقضتين تماماً، فبعضه يكون مع طرف والباقي مع الطرف الآخر من بين الأطراف المتصارعة».

■ تقصد أن كل طرف يستخدم اسمك على نحو يطابق رغبته وتوجّهه؟
- تماماً، وهذا أمر يؤذيني للغاية، ويؤلمني، ولا أعرف لمن أشكو. وكم حصل أن قلت جميل أن لا يكون الشعر حرفة، وأن لا يكون مصدر رزق، وأن يبقى كما أراده الله للطيور غناءً، وللزهور رائحة وألواناً، وللزمان فصولاً، وللطبيعة جبالاً وسهولاً وودياناً. والأجمل من ذلك أن يكون الشاعر حراً في حياته، وفي اختيار الشكل الذي يكتب به، وفي اختيار الكلمات التي يأنس إليها، والصور التي تعكس انطباعه هو لا ما رآه أو تخيّله الآخرون بالنيابة عنه؛ وحتى لا يكون الشعر صدى لحاجة الشاعر إلى البقاء ويكون الشاعر أسيراً لذاكرة تَراكمَ عليها غبار القرون.

الشعر هو المعافى الوحيد في هذا الوطن المبتلى بديناصورات الديكتاتورية الغاربة



■ لكن ما يحصل هو جزء من توابع هذا الفضاء الإلكتروني الذي أتاح بدائل حديثة لعملية النشر، خصوصاً لجماعة الأدباء الشبان الذين كانوا يجدون صعوبات بالغة في نشر أدبهم.
- هذا صحيح، لكن أتكلم عن هذا الفضاء المفتوح الذي يكتب عليه كلّ من هبّ ودبّ، وينسب كتابته لمن يشاء. مع ذلك كله، وعلى الرغم من كل شيء، تبقى ثقتي بقارئ مثقف حصيف يجيد التمييز بين النصوص ويفرّق ما بين النصّ الأصلي وما هو كيدي ومُنتحل.

■ مع ذلك أيضاً، لا يمكننا الآن تناسي الخدمة التي يقدمها لنا هذا الفضاء الإلكتروني، واليمن يعيش منذ نحو عامين كل هذه العزلة التي حجبت عنه أخبار ما يحدث في الخارج من أحداث ونشر.
- لا خلاف حول كونه اختراعاً حضارياً عظيماً وبالغ الأهمية ويمكن لمس ما يفعله لنا، ونحن نعيش هذه الأيام أقصى حالات العزلة، وتخفيفه مرارة الانقطاع عن العالم بفتح نافذة للتواصل اليومي مع مفردات جميلة يتم نشرها. لكن مشكلة هذا الفضاء المفتوح أنه بلا رقابة أخلاقية، ويفتح الباب لكل من هبّ ودّب، ما جعله فضاءً مثقلاً ويكاد يخنق الأنفاس. والسؤال: هل هناك وسيلة ما لصدّ هذا التسلل اللا فني واللا أخلاقي؟ وكيف يمكن ضبط ما ينشر كما يحدث في المجلات والصحف الجادة والرصينة؟

■ هناك أخبار تقول إنهم يدرسون تطوير أدوات للتثبّت من صحة ما يُنشر من عدمه.
- أتمنى ذلك سريعاً.

■ لو ربطنا هذا، كجزء من التفاصيل الحياتية الحاصلة اليوم، بنبرة الحزن المُسيطرة على ديوانك الجديد «الشمس تتناول القهوة في صنعاء القديمة» (دار الآداب) أو لأسباب أخرى، هل نكون مجاورين للصواب؟
- من سيقرأ الديوان سيجد أنه خال من كل ما يتعلّق بأوضاع صنعاء الراهنة؛ فقصائده كلّها تقريباً تعود إلى ما قبل التطورات الأخيرة التي بدأت بثورة الشباب المغدورة (فبراير 2011) وانتهت بالحرب التي تطحن البلاد كلها اليوم. ولهذه المرحلة العابسة قصائدها في ديوان اقترحت له اسماً أوّليّاً هو «كتاب الحرب»، وقد نشرت بعضاً من نصوصه في أكثر من جريدة عربية. وسيكون جاهزاً للنشر بعد أن يتوقف نزيف الدماء وتصمت أصوات المدافع والصواريخ.

■ يبدو سؤال الشعر هنا كضرورة.
- الشعر تجربة لا نهائية، وسؤال دائم الإنجاز والتجدد، تجربة مفتوحة لا تقبل التكرار والمحاكاة والانغلاق. والشعر بطبيعته ينفر من التعقيد، ويهوى الانطلاق في فضاءات لا نهائية. وإذا كان العلماء ــ منذ وقت طويل وإلى وقت قريب ــ يتحدثون عن بصمة الإبهام بوصفها العلامة التي تميّز الفرد ولا يمكن أن تتكرر، فإنهم، بعد تقدّم العلم خطوات أكبر، صاروا يتحدثون عن بصمة العين بوصفها الأكثر تميّزاً وتمثلاً لخصوصية كل إنسان عن الآخرين. أما القصيدة الجديدة، قصيدة اليوم والغد، فهي وحدها التي تشبه بصمة العين. تسعى في خصوصيتها إلى البحث عن النص الذي يغري روح الشاعر بالبحث عنه، ويغري روح القارئ بمتابعته وهو مغمور بالفرحة والدهشة والأسئلة.

■ لهذا يكتب عبد العزيز المقالح؟
- إن عالماً خالياً من الشعر هو عالم بائس شديد الجفاف. ومهما قيل عن مستوى منه عميق التعبير يخاطب النخبة الثقافية فقط، فإن أشكالاً أخرى منه ما زالت تخاطب الوجدان البشري في حدود مستوياته الدنيا. ولم يذهب أدونيس بعيداً حين قال: «على أن الشعر هو ــ في الثقافة ــ الأفق الأكثر رحابة، والهواء الأكثر نقاوة... وعلى أنه التعبير الأجمل والأكمل عن الهوية...».

■ حين أصدرتم مجلة «غيمان»، كنتم تبحثون وراء هذا المعنى؟
- لقد طمحت «غيمان» إلى أن تكون وعاءً إبداعياً يقدم للقارئ أحدث نتاجات المشهد الإبداعي العربي شعراً ونقداً، مؤكدة ما يذهب إليه نقاد كثر ــ عرباً وغير عرب ــ من أن الشعر هو المعافى الوحيد في هذا الوطن المبتلى بديناصورات الديكتاتورية الغاربة، ووحوش الهيمنة الكاسرة، وعتمات الجهل الموروث. وتمنينا أن تكون بشارة حلم بالمحبة والألفة، وعلامة تتلاشى عندها الخصومات الأدبية المجانية بوصفها بضاعة مغشوشة فاسدة لا تحتضن سوى الإفلاس ولا تطرح سوى الكراهية. وبديلاً من ذلك، فتحت المجلة صدرها لحوار حر ونقاش علمي ورأي مغاير لا يلغي الآخر أو يصادره. وتبقى الإشارة الأهم، أن كل كتابة لا تستمد وجودها من ذلك الكنـز النقي الهاجع في أعماق الروح، ولا تتفجر من حنين دائم إلى غدٍ إنساني حرٍّ جميل، لا تستحق ثمن الحبر الذي أهدرته ولا الورق الذي مسخت شفافيته. ومن هذه المنطلقات جميعاً، حرصت «غيمان» ــ بهيئتها ومحرريها وكتاّبها ــ على أن تكون أبيات أبي تمام في المحبة والإخاء الإنساني والأدبي شعاراً لا تحيد عنه أو تخرج عن دلالاته: «إن يُكدِ مطّرفُ الإخاءِ فإننا/ نغدو ونسري في إخاءٍ تالدِ/ أو يختلفْ ماءُ الوصال فماؤنا/ عَذْبٌ تحدّرَ من غَمامٍ واحدِ/ أو يفترقْ نسبٌ يؤلّفْ بيننا/ أدبٌ أقمناهُ مقام الوالدِ».

■ أين «غيمان» من الحالة الروائية العربية واليمنية على وجه الخصوص؟
- ما من شك في أن الرواية الجديدة عمل فني وكتابة إبداعية لا تبتعد عن الواقع كثيراً، بل تستحضر صوره ووقائعه بطريقة تختلف عن الكتابة التقليدية المباشرة. والسؤال المهم هو: أين الرواية في بلادنا من هذه التطورات، من الجديد الروائي بمكوناته الجمالية، وتحليقه في آفاق رحبة من التجريب والتحديث؟ يبدو لي أن الوقت لا يزال مبكراً بالنسبة لنا للانخراط في المنجز الروائي الأحدث. ومع ذلك، فهناك بواكير تبشّر بها أعمال عدد لا بأس به من الروائيين اليمنيين، وفيها جميعاً ما يتلاءم مع أساليب الكتابة الروائية الحديثة. لقد كان الروائي القديم والتقليدي يهتم بإيصال الحدث، ويحرص على التعايش مع أبطاله، يتابع مسيرهم ونتائج أعمالهم. وكانت الرواية قريبة في دلالاتها الواقعية، في حين لم تعتمد الرواية الأحدث أو الأجد على الواقع وإشكالياته، بل انطلقت في فضاءات رمزية ولغوية أوسع وأشمل. وسيمضي وقت قبل أن يبدأ الروائي في بلادنا كتابة الرواية في ضوء هذا المنظور الجديد؛ تقديراً لمستوى المتلقي ولأسباب أخرى.

■ كثر لا يعرفون بأنك لست من مواليد صنعاء. من فرط ما تكتب عنها يعتقدون ذلك، من أول ديوان «لا بد من صنعاء»، مروراً بـ «كتاب صنعاء»، ووصولاً إلى ديوانك الصادر حديثاً.
- لستُ من مواليد صنعاء بالفعل. انتقلت إليها من قريتي التي تبعد عنها مسافة طويلة كنت أقطعها في تلك الأزمنة الماضية في خمسة أيام على الجمال والبغال. كذلك فإن مسألة الولادة في مكان ما شرط، ودليل على الانتماء إلى ذلك المكان.

■ متى كانت أول مرة ترى فيها صنعاء؟
- كانت المرة الأولى التي أضع فيها قدمي على تراب صنعاء وعُمري ست سنوات، بعدما أمضيت في القرية ما يكفي لاستيعاب عناصرها الأولية وحكاياتها ومرائيها، وما كان يرافق الفصول من تغيّرات وترقّب أوقات البذر والحصاد...

■ «كتاب القرية» يروي الكثير منها.
- بالضبط، إضافة إلى طبيعة العلاقات الإنسانية هناك والفضاء الذي يسمح بخلق روابط بعيدة عن الماديات والشروط المُسبقة.


لم يذهب أدونيس بعيداً حين قال إنّ الشعر هو التعبير الأجمل والأكمل عن الهوية

■ لكن صنعاء مختلفة عن هذا السياق.
- تستحق صنعاء أكثر من قصيدة. وهي مدينة توحي بأكثر من مسار لا يتسع لها سوى كتاب.
■ «كتاب صنعاء» تقصد؟
- تماماً. لقد كان هذا الديوان مستوحى من خاطرة عابرة عنها وتوالدت الخواطر والسطور لتبلغ ديواناً، ومن هنا من «كتاب صنعاء» جاءت فكرة سلسلة الإصدارات الحاملة لاسم «كتاب»، كـ«كتاب القرية»، و«كتاب المدن»، و«كتاب الأصدقاء»، و«كتاب الأم»، و«كتاب الحب».

■ لكن من الواضح تنوّع موضوعات ديوانك الأخير «الشمس تتناول القهوة في صنعاء القديمة»، ولا موضوع واحداً يجمع بينها، على العكس من فكرة الموضوع الواحد التي جمعت بين أعمالك المتقدمة.
- نعم هي مجموعة قصائد متعددة، والإشارة إلى صنعاء في العنوان أتت من قصيدة أخذت العنوان نفسه، وكان بعض الأصدقاء قد اختار للديوان عنواناً آخر، لكني فضّلت أن يكون العنوان الذي ظهر.

■ نجد حضور الأصدقاء بارزاً في حياتك، وليس «كتاب الأصدقاء» (2007) غير إشارة متحققة على نحو عملي تدلّ على عمق تلك العلاقة.
- منذ البدايات، وبعيداً عن مسار الحياة الذي يشكل الأصدقاء ركناً أساسياً فيه، وأنا حريص على أن لا أنشر قصيدة إلا بعدما أقرأ منها على زملائي لأستطلع آراءهم وأتلمس صدى ما كتبت في نفوسهم. زادني تمسكاً بهذا المسار بعد تعرّفي على الشاعر والصديق الكبير صلاح عبد الصبور. فقد كان رحمه الله يحرص على عدم نشر قصيدة أو كتاب إلا بعد أن يقرأه على مجموعته من أصدقائه الخُلّص، وكان فيهم مبدعون ونقاد كبار.

■ صرت مثله تقرأ على الأصدقاء قصائدك؟
- نعم، ألقيها عليهم وأنتبه لمدى بلوغها أسماعهم وهم مجموعة من المثقفين النوعيين، ويحصل أن أعيد النظر فيها بحسب ما ألقاه من صدى من جهتهم وطريقة استقبالهم لها.

■ هل حصل وتراجعت عن نشر بعضها في حال لم تجد للقصيدة انطباعاً جيداً؟
- حدث الأمر مرات كثيرة، أن أطوي بعض تلك القصائد تماماً ولا ترى طريقها إلى النشر.

■ يبدو الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور ممراً هنا للحديث عن القاهرة، وقد كانت لك فيها سنوات حاسمة في حياتك الأدبية والأكاديمية.
- هي سنوات طويلة أقمت فيها هناك وارتبطت بها على كافة الأصعدة، وكان لي فيها وما زال جسور من الصداقة والمحبّة. لقد أفرغت علاقتي بها من خلال قصيدة «القاهرة» الواردة في «كتاب المدن». كذلك كتبت عنها نثراً كثيراً بوصفها واحدة من المدن التي أثّرت في حياتي، وهي المدينة الصاخبة. لكن لا أخفي سراً أن الاسكندرية كانت الأقرب إلى قلبي من القاهرة. اسكندرية الشتاء خاصة وشمسها المتوسطية وشواطئها وشوارعها المغسولة بالأمطار، وبما يفرضه الهدوء المُسيطر عليها من شعرية وحنين إلى الأقاصي.

■ هذه العلاقات المفتوحة مع مختلف البلدان العربية، والغربية أيضاً، وقد قرأنا عنها في «كتاب المدن» نفسه، تعيدنا إلى موضوع الأسفار الكثيرة التي قام بها عبد العزيز المقالح، وتتعارض مع فكرة خوفك من الطيران المُشاعة عنك.
- بعضهم ينطلق متحدثاً من معلومة خاطئة ولا يسعى للتأكد منها، وخصوصاً إذا كان أحد المشتغلين في حرفة الصحافة. لقد حالفتني فرص كثيرة للسفر في وقت سابق من حياتي، وعبرها ذهبت بعيداً من أقرب عاصمة عربية وصولاً إلى أقاصي أوروبا الغربية. اكتسبت كثيراً من تلك الرحلات وشاهدت الكثير. لكن يأتي الوقت على الواحد ليستقر في مكان واحد وفي بلده، كي يتفرغ لأشياء كثيرة. والسفر يأخذ من الوقت والجهد الكثير، وهناك العديد من الالتزامات العائلية والأدبية والكتابية والأكاديمية. هناك أشياء لا يدركها سوى من أفرط في السفر والتنقلات.

■ في سياق الحديث عن السفر وعن تلك العواصم الكثيرة التي ذهبت إليها، هناك بيروت. إضافة إلى الحديث عن ديوانك الجديد، لاحظت أن الأسماء الأدبية الثلاثة التي كتبت على غلافه الأخير هي شخصيات لبنانية، مثل الشاعرين جودت فخر الدين وشوقي بزيع والناقدة الكبيرة يمنى العيد.
- بيروت من المدن الأقرب إلى القلب والوجدان وزرتها أكثر من مرة. وليس هذا الديوان الأخير وحده ما نُشر لي فيها. لقد ربطتني علاقة وثيقة بأدباء لبنان وبـ«دار الآداب» منذ بدايات الستينيات، عندما بدأت النشر فيها، وعبر مجلة «الآداب»، قصائدي الأولى وتوثقت صلتي بصاحبها الدكتور الراحل سهيل إدريس، وفي الدار نشرت عدداً من أعمالي الشعرية وبعضاً من كتبي النقدية.
■ أول لقاء بينكما كان في القاهرة.
- كانت معرفتي الأولى به عن طريق المراسلة، ثم التقينا في القاهرة. وبعدها تطورت الصداقة لنلتقي لمرات في صنعاء. واستمرت العلاقة بعد رحيله عبر نجله سماح إدريس وابنته الإدارية الناجحة رنا إدريس. وبالمناسبة هنا، أذكر موضوعاً لا يغادر ذاكرتي عبر أول قصيدة نشرتها في مجلة «الآداب»، كان عنوانها «الموت». هي قصيدة حزينة للغاية، تقوم على مجموعة من مفردات الموت والحزن، وقد انتبه لها ناقد مهذب ورقيق هو الراحل الكبير رئيف خوري، وكان نقداً لا يخلو من قسوة لها ما يبررها عندما أشار إلى أنه كيف يأتي هذا الصوت الحزين المتشائم من قلب اليمن السعيد الخارج من العزلة والمنفتح على العالم. ولم يكن، رحمه الله، يدري بمستجدات الأوضاع (1965) وما كان فيها من تناقضات وصراعات بدأت بعد قيام ثورة الجمهورية مباشرة (1962) وما كانت تتركه من ألم كثير ومشاعر صادمة للجيل الجديد الذي كان يتصوّر أن الثورة كفيلة بأن توحد كل اليمنيين، وتجعلهم صفاً واحداً في مواجهة التخلّف الشنيع أولاً، ثم في مواجهة أعداء الثورة في الداخل والخارج.

■ بالمرور على اسم الناقدة يمنى العيد، نجد كتابتها على الغلاف الأخير لديوانك الجديد حيث كتبت عنه «بلغةٍ هي الأكثرُ شفافيّةً يحاور الشاعر ذاته لينقل قضيّةَ الإنسان إلى سؤالها الأعمق. يضع عالياً معاني الحبّ والإخلاص والعطاء، يحتضن جروحاً لم تندمل، يعانق وطنَه ليرى في مرآته العالَم. يحاور الطبيعةَ ويصوغ لغةً للوردِ والغيم… للصمت ولبياضِ الورق». هل هي كتابة تخصّ الديوان أم كتابة عن عالمك الشعري بصفة عامة؟
- لا. الدكتورة يمنى ممن قرأوا الديوان قبل نشره. ولها من صنعاء نصيب، إذ أقامت لفترة غير قصيرة أستاذة للأدب في جامعة صنعاء، في وقت كانت فيه بيروت ولبنان يمران بتلك المرحلة القاسية.

■ يمنى العيد نفسها كانت تمر بفترة صعبة في حياتها، وقد دوّنت هذا في الجزء الثاني من سيرتها الذاتية «زمن المتاهة»، إذ كتبت: «ركبت الطائرة باتجاه اليمن، البلد الذي استضافني ليحميني من القتل».
- هذا من الوفاء والإخلاص الذي تتمتع به الدكتورة يمنى العيد. ومثلما كانت صنعاء وقتها مفتوحة لكل العرب، تبقى بيروت اليوم الباب الوحيد المفتوح لكل اليمنيين، ويدخلونها من دون تأشيرة مسبقة دوناً عن سائر البلدان العربية.