عبد العزيز المقالح: «كتاب الحرب» بعد كل هذه الدماء
-1-

لكَ أنْ تشربَ قهوتَكَ الليليةَ
في أيِّ مكانٍ،
في روما أو باريسَ،
وأن تشربها بالقرفةِ
أو بالهالِ
وباللَّبنِ الطازجِ
أو بالعسلِ الجبلي
لكَ أن تختارَ مكانَك
في مقهىً مغمورٍ بالضوء الباذخ
أو مطليٍّ بالعتمة
لكنك لن تتذوَّق فنجاناً
أشهى من فنجانٍ صنعانيٍّ
يأخذُ شكلَ بخارِ الغيمةِ
وهي تبلِّل جفنَ صباحٍ
يفتح عينيهِ الخضراوين
على جبلٍ تكسو عري حجارتهِ
أشجارُ البنّ.

-2-

لك أن تقرأ ما قال الفنجانُ
هناك على مقهى يسبح
فوقَ مياهِ النيل
وإن شئتَ على مقهىً خشبيٍّ في «تومبكتو» (1)
لكنك لن تقرأَ فنجاناً أحلى
من فنجانٍ ترشفهُ
في شرفة دارٍ باذخةِ الأفياء
قبالة غيمٍ يرسم
بالأبيض والأزرق مقهىً
تتوقف فيه الشمسُ
لتشربَ قهوتَها كل صباحٍ
وتداعب شرفاتِ بيوتٍ نائمةٍ
وشوارعَ تصحو
من ليلٍ
يتعلَّق في سقف الأرضْ.

-3-

لكأني بك
تطوي الأرضَ على متنِ بساطٍ
من شوقكْ
وأراكَ تدقُّ جدارَ البهجةِ
كي تدخلَ ساحةَ يومٍ
لم يسبقْ لك أن بلَّلتَ
حروفَ يديكَ
ببهجةِ قهوتهِ
أو رضعتْ شفتاك اليابستانِ
هدايا قُبلتهِ...
يا هذا اصعدْ
واستحضر معك التاريخ المتدلّي
من ذروة أزمنةٍ غابرةٍ
وأساطيرَ شفاهٍ ونهودٍ
أيقظها اللهبُ الحارق
تحت أباريق القهوةْ .

- 4-

في الساحة
عند بيوتٍ متآكلةِ الآجرْ،
وبقايا أكواخٍ باهتة
سوف ترى أطفالاً خرجوا
من ضوء أساطير مدينتهم
ليُعدُّوا لضيوفهمُ القهوةَ
والكعك
وسوف ترى «غيمان» (2)
وقد جاع إلى الخبز المغموس
بزيتِ النعناع
وفي يدهِ زهرةُ بنٍّ
يرتقها في عُروة سيدةٍ
تمسح وجهَ الصبح
بمنديلِ براءتها
وهي تغني لفتى أحلامٍ
قادمْ.

-5-

لك أن تشربَ قهوتَك
المرّةَ
أو يختار لك النادل أخرى
حلاَّها ضوءُ «القمريات» (3 ) الدافئ
أو صوتُ عصافير الحارة
أو ضِحكةُ سيدةٍ يرتعش الشارع
إن غنَّتْ أو ضحكتْ
ويطير إذا هي سارتْ
حافيةَ القدمينِ.
وسوف تغادر وحشَتَك الموروثةَ
لحظةَ تمسك بالفنجان
وتغمر وجهَك رائحةُ البنِّ «المطري» (4 )
أعرفتَ حقول البنِّ الجبلية؟
هل أصغيت إلى أشجار القهوة
حين تغنِّي أو تتكلم؟!

-6-

لا يأتي الثلجُ إلى صنعاءْ...
لا يهطل في ساحتها البرد
ولا الأمطارُ الشتويَّةُ
تزاورها الشمسُ
وتشربُ معها القهوة
حتى منتصف الليل!
إلامَ تـخـبّئُ أحزانَك
في خلجان الروحْ؟
هذا مفتاحُ سرور لا يصدأ
هذا رجلٌ يتلبَّسه ليلٌ ذهبيُّ الألوان
وهذي امرأةٌ مفعمة بصباحٍ
لا يغشاه الحزنْ.

- 7 -

في صنعاءْ...
لك أن تختار القهوةَ والمقهى
أن تختارَ رفاقَك
من بشرٍ
أو حجرٍ
لكن الشمس الفاتنةَ الإشراقِ
وقد نشرتْ أضواءَ جدائلِها
في الأفق الصنعاني
المغسول بضوءٍ شفافٍ
ترغب في أن تجلسَ بين يديك
وأن تشربَ قهوتَها من كفَّيك،
وحين يجيء الليل
سترعاك نجومٌ لا تعرف نوماً
أو تترك حفلة أنسٍ
لا تغشاها.

(1) مدينة في شمال مالي كانت أهم حاضرة إسلامية في شمال أفريقيا.
(2) اسم جبل يطل على صنعاء.
(3) نوافذ رخامية.
(4) من أشهر مواطن البنّ في اليمن.


* قصائد أخرى

الملاك يرحل عن بيتنا
إلى روح أمي التي رحلت في مثل هذه الأيام
من شتاء 2006 م

وما زالت الشمسُ تُلقي
تحيتَها كل يومٍ
على شجرِ تستظل عناقيدُه
تحتَ شباكِ أمي.

■ ■ ■

الظهيرةُ
ذاتُ الضياءِ البهي
التي تحملُ الشمسَ في كفِها
وتدورُ بها في الشوارع
تمضي بها للحدائق،
حينَ تمر على حَـيِّنا
تسألُ الناسَ عن وجهِ سيدةٍ
تعشق الضوء، تهوى الظهيرة
من يا ترى سيكونُ
سوى وجه أمي؟!

■ ■ ■

والغروب الذي كان
يأنس حين تحدِّق في وجههِ
ما يزال يمر بشباكِها وهي غائبةٌ
مثلما كان يفعل وهي تراه
يلملم ضوءَ النهار
ويمضي به للمكان البعيد
فيورق حزناً على الضوء
شباكُ أمي.

■ ■ ■

ولونُ المساء الذي لا يراه
كثيرٌ من الناس
حين يمر على القرب من دارها
يتمهل،
ماذا يقول وقد رحلت
في الصباح الحزين
قناديلُ أمي؟

■ ■ ■

العصافير تلك التي ولدت
ونمت عند شباكها
ما تزال تغنِّي
وتقرأ فاتحة اليوم
وهي تحدِّق باحثةً
عبر ماءِ الزجاج الخريفي
عن وجه أمي.

■ ■ ■

تمرُ الشهورُ
وتمضي الجنائزُ إثرَ الجنائز
والشمسُ في دأبها ما تزال تمر
على الأرض حافيةَ القدمين
وتلقي تحيتَها
كل يومٍ على قبر أمي.

■ ■ ■


تمر الوجوه
وتمضي
وصبحٌ يجيءُ ويمضي
وليلٌ يجيء ويمضي
ومازال حزني يركض
بين الضلوع
ويقرأ في كل آجرّةٍ
صوت أمي.



صباح القهوة

-1-

هل شَجرُ القهوةِ
في قريتِنا
لا يخشى البردَ
ولا يبحث عن أوراقٍ دافئةٍ
حين يجيءُ الليل؟
سألتُ الفلاح:
لماذا شجر القهوةِ
في قريتنا
لا يخشى البرد؟
أجاب:
لأن القهوةَ ساخنةٌ
تتصاعد من فنجانِ الأرض
بخاراً شفّافاً
يغمرنا بالدفء
ويرسم في دمنا
شجراً مسكوناً
بالنشوةِ والدهشه!

-2-

شَجرُ القهوةِ
لا يُثْمر في الصيف
ولا تتدلى عبر الأسوار
عناقيدُ خصوبتهِ
إلاَّ في زمن البرد
سألتُ الفلاح:
وهل قريتُنا
لا تخشى البرد كما شجر القهوة؟
أطرق،
ومضى يتأمل أحجارَ منازلها
يستنهض ذاكرةَ الجدران
يداعبها بأصابعهِ
وكأنَّ يديه تقولان:
عصافيرُ القريةِ
تتوارى خلف ضبابٍ ورديٍ
تطلقه كل شتاءٍ أشجارُ القهوةْ!

-3-

المجدُ لهُ
شجرُ القهوة
يخرج في الضوءِ الشاحب
ليحدِّق في مرآة صباحٍ
يشتاق إلى المقهى
في عالمِه لا ترتعش الأبواب
ولا جدران الحُجْرَةْ.
هذا الغيم الساطع في الفنجان الأبيضْ
تتملقه حدقاتُ نهارٍ لا ضوءَ بهِ
تتمرغ في العبق النشوان
وتشطف غفوتَها بين يديه
لَكَمْ أشْعُر حين يكون معي
أني لست غريباً!
لست وحيداً!
أن لا بأسَ إذا ما أخذتني قدماي
إلى الشارع كي أتسكع
وأرى غيماتٍ تتشكَّل
فوق الجبل الداكن
غزلاناً
وفراشاتٍ في حجم الشمس.

-4-

ذات صباحٍ شتويٍ
مكسوٍ بالعتمة
مبتلٍ برذاذٍ لا صوتَ لهَ
كان المقهى مكتظاً،
والقهوةُ دائرةٌ،
وأغاني «فيروز»
تدثرنا بمعاطف
تشعل في الأجساد اليابسةِ
المكسورةِ
نيرانَ العشق
وأطيافاً من شجن غافٍ
قولوا للنادل:
من غير حليب...
وليكن العسل البري
وحبات الهيل تميمةَ
قهوتِنا.

-5-

يمنيٌّ هذا الفنجان
الطيني.
وذاك الوجهُ الطالع
من خلفِ الشباك
يواري بسمتَه من غضب الريح
ومن تحديق الغاوين
إلى الشرفات.
جميلٌ هذا اللون الشاحب
يا جسدي
يا أقرب أصحابي
مني،
إن لم تدرك ضوء نهارك مبتَّلاً
في فانوس الشمس
تعال لندركه
مشتعلاً في فنجان القهوةْ.

* الليل... وأنا

-1-

مازلتُ أخاف الليل
ويمنعني خوفي
من أن تستمتعَ روحي بلذيذ النوم
ومن أن تأخذني رائحةُ الحلمِ بعيداً
عن هذا الكابوس
الضارب خيمتَـهُ
الدكناءَ على صدر الإنسان
وفوق فضاءِ الكونِ
الصامتْ.

-2-

كنتُ صغيراً،
طفلاً في الأعوام الأولى
حين رأيت الليل بعيْنيْ قلبي
كان يلفُّ الوديان
ويطوي طرقات القرية،
والناسُ كباراً وصغاراً
كانوا يطوون مخاوفهم
في جدران منازلهم
وعلى عجلٍ
يأوون سراعاً صوب مضاجعهم.


-3-

كانت أمي تبكي
حين يجيء الليل
ولا تُخْفي رعباً
يتسلل من عينيها
كانت تطوينا:
أختي، وأخي، وأنا
تحت غطاءٍ من صوف الماعز.
ثم تمد ذراعيها نحو الله
وتغسلنا بدموعٍ ساخنةٍ
وفؤادٍ راجفْ.


-4-

كانت كل عصافير الحارة
تسبقني
تتوضأ بالنور الخافت
ثم تصلي عند حوافي نافذتي
تتهجد خلف ظلال
الأشجار
فتوقظ في قلبي أسئلةً غافيةً.
لا ساعةَ في كف العصفور!
فكيف تعلّمَ أن يصحوَ
بعد رحيل الليلْ؟


-5-

كنتُ إذا ذهبَ الليل
وجاء الصبحُ يمد ملاءتَهُ البيضاءَ على القريةِ
أخرجُ من دفء فراشي
وأصلي شكراً لله
وأمسك أولَ خيطٍ
من ضوء الشمس
أداعبهُ
وأقبِّله وأنامْ.

-6-

يا ريحَ الليل
ويا صوتَ الأيامِ الدكناءِ
تمهلْ
كي أدرك كيف يمرُّ العمرُ
فلم يبق سوى قطراتٍ شاحبةٍ
يذرفها الجسدُ الذاوي
فوق حطامِ الزمن الأسود
لكني مازلتُ أخاف الليل
وتكره عيني أن تلقاه
وقد غيَّبَ تحت عباءتهِ
كل الآمادْ.

-7-

أحلمُ،
يحلمُ كل الناس
بليلٍ أبيض
شفافِ الأنجم
يسرح فيه الإنسان وحيداً
من غير دليلٍ
أو عكّازٍ
إلاَّ من رائحة الورد
وموسيقى الحب
فهل يأتي الليل الأبيض
يخرج من رحم العتمةْ؟!

-8-

انكسرتْ أحلامٌ صغرى
وانكسرتْ أحلامٌ كبرى
انكسر القلب مراراً
وتوارى الحبُ مراراً
وتلوَّث وجهُ العالم
صار قبيحاً
يشبه وجهَ الشيطان
ووجهَ الليل،
ولكني مازلت أضيء قناديل الأمل الحلو
بأنفاسي
وبأحلام عصافير الشمس.


-9-

أقسم بالروح البيضاء
وماءِ الفجر
وضوءِ مصابيح الله الحسنى
أني أحببت الوردَ
وأدمنت الموسيقى
وعشقت الشعرَ
الموزونَ وغيرَ الموزون
بكيتُ على قَدرِ الإنسان العاثر
سامحتُ رجالاً كادوني بالسوء
وباعوا أحلامي في السوق السوداء.




* من يوميات الضجر

-1-

في استطاعته صاحبي
أن يقاومَ في نفسهِ
رغبةَ الموت
أن تتغلب روحُ الحياة
على الرغبات المميتةِ
في أن يكون نقياً،
قوياً،
وفي أن يكون إذا استيقنتْ نفسُهُ
واحداً من جموع البشرْ.

-2-

في استطاعته صاحبي
أن يعود إلى واقع الناس
أن يكتب الشعر والنثر
أن يتغنى بما في الطبيعةِ
من ألقٍ آسرٍ،
وهوىً،
لا تراه العيون الكليلة،
أن يتغزل في الشمس
إن شاء أو في القمرْ.

-3-
في استطاعته صاحبي
أن يكون إماماً،
وداعيةً،
وزعيماً،
وأن يدَّعي أنه المهدي المنتظرْ.
أن يغير مجرى الحياة البليدةِ
في نفسهِ،
أن يغادر هذي البلاد إذا شاء
أو ينتظرْ.

-4-
في استطاعته صاحبي
أن يكون مَلاكاً إذا شاء
أو واحداً من شياطين هذا الزمان
فلا شيءَ يمنعهُ
أن يكون كما يشتهي
أو يكون كما يشتهي الآخرون
أن يميلَ إلى الحق
أو أن يميلَ عن الحق
يحلمُ في جنةٍ تحتوي روحَهُ
أو سقرْ.

-5-
في استطاعته صاحبي
أن ينام متى شاء
يصحو متى شاء
أن يسافر في الأرض
بحثاً عن الحب،
بحثاً عن المال
أو أن يسافر في نفسه
باحثاً عن سماءٍ وأرضٍ
وعن وطنٍ لا شقاءَ بهِ
أو ضجرْ.

-6-
في استطاعته صاحبي
أن يخونَ البلاد التي حملته
جنيناً،
وطفلاً،
وتلك التي أرضعتْ صدرَهُ
لبناً
أن يخون صباحاتِها
ومساءاتِها
أن يخون الشجرْ.

-7-

في استطاعته صاحبي
أن يحب ويكره
أن يتذكر ما يشتهيه
وينسى الذي لا يريد ولا يشتهي
أن يكون طهوراً
كماءِ السماءِ
شهيداً إذا شاء
أو قاتلاً يتحدى القدرْ.