كتب أوسكار وايلد في تصديره لروايته «صورة دوريان غراي» عبارةً باتت اليوم إحدى أشهر العبارات النقديّة إثارةً للجدل: «لا نفع للفنّ بأسره على الإطلاق». وباتت، بالتالي، شعاراً لكلّ ما هو «يميني، رجعي، متخاذل» في مواجهة نظريّة أخرى تقول بوجوب الزجّ بالفنّ في المعركة بحيث يصبح وسيلةً لغايةٍ تتغيّر بتغيّر الأزمنة، فتصبح الثورة حيناً، وديكتاتورية البروليتاريا حيناً، ومقارعة الاستبداد حيناً، والجوائز الأدبية دوماً. ويُعيد وايلد تأكيده على معنى العبارة الحرفي في رسالةٍ إلى قارئ استفسر عن معناها، فيقول: «لا نفع للفنّ لأنّ هدفه ببساطةٍ هو خلق مزاج. ولا يهدف إلى الإرشاد، أو التحريض على الفعل بأيّة حال من الأحوال. إنّه عقيم على نحوٍ رائع، والسّمة المميِّزة للذّته هي عقمه». وانطلاقاً من وجهة النظر هذه ربما، يقدّم لنا الكاتب البرتغاليّ أفونسو كروش روايته القصيرة «هيا نشتر شاعراً» (دار «مسكلياني»، ترجمة عبد الجليل العربي) التي تشدّد بسخريةٍ شفيفة على معنى الجمال في عصر الاستهلاك، على معنى الفن لا على مغزاه، على جوهر الشعر في زمن التواصل الافتراضيّ.
لا تنبع غرابة النوڤيلا من العنوان أو إيحاءاته، فشراء ذمم الشعراء موجود منذ ظهور الشعر ربما، لكنّ الفارق هنا أنّنا نشتري الشعراء بحدّ ذاتهم. تذهب إلى محل لبيع الفنانين وتنتقي منه ما تريد: نحّاتاً، رساماً، شاعراً، وإن كان الشعراء أفضلهم لأنّهم لا يخلّفون أوساخاً وراءهم. كلّ ما يحتاجون إليه هو ورقة وقلم وشرود. لا نتحدث هنا عن تسليع الفن، بل عن أمرٍ أكثر رعباً. فعلاقتنا بالسلعة، أيّ سلعة، تنتهي بانتهاء انتفاعنا منها. أما هنا فلا يقتصر الأمر على رمي الفنان وطرده، بل على نفيه إلى حديقة/ سجن/ مصحّ، بحيث لا نكترث إن استمرّ إنتاجه أم لا، أو مات أم لا (وإن كان الموت لدى كروش خياراً غير وارد، فما نجده هنا هو جحيم الأبديّة)، طالما أنّه خارج حدود جمهوريّتنا (غير) الفاضلة. أما إنْ أصابتك جرثومة الحنين وأردت زيارة أحد هؤلاء المنبوذين، فنجد أنّ الأمر يصبح بمثابة رحلة إلى الذكريات، إلى عالم حُلُميّ غامض له مفرداته الخاصة التي لا تشبه مفردات العالم الواقعي كما عرفناها على امتداد النوڤيلا.

يشدد على معنى الفن لا على مغزاه، وعلى جوهر الشعر في زمن التواصل الافتراضي

وما يميّز «هيا نشتر شاعراً» عن معظم النّتاج الأدبيّ الجديد هو وجود طبقاتٍ متعدّدة للنص، تتنوّع فيه الدلالات بتعدّد القراءات، إضافةً إلى اللغة والنّبرة التي تأرجحت ببراعة بين الشاعريّة والسخرية والسخط، وربما كانت هذه أهم سمات الأدب المكتوب بالبرتغاليّة على تنوّع ترجماته. نجد تفجيراً غامضاً في المفردات، ربما ذلك إحدى سمات اللغة البرتغاليّة بذاتها، إذ نجد الطاقة ذاتها بتنويعاتٍ مختلفةٍ في أعمال جوزيه ساراماغو ورضوان نصّار، وبالطبع فرناندو بيسوا. اللغة عند كروش حاملٌ جوهريٌّ للنص الذي يتغيّر إيقاعه بتغيّر الشّخوص وتنوّع دفقة السخرية اللاذعة. لا تغيب السخرية أبداً حتى في الأسطر الشعريّة التي يردّدها الشاعر في الرواية. وتكاد تكون هذه السخرية هي الڤيروس الذي انتقل من كروش كخالقٍ للنص إلى الشاعر كحاملٍ لراية الجمال إلى الشخوص كمُستقبِلات للشعر/ الفن. هذا الڤيروس هنا هو «الوعي» الذي تبدّى بمظاهر مختلفة، فهو الذاكرة لدى البنت، والتمرّد النسويّ لدى الأم، وشرارة إعادة تنظيم الحياة الماليّة لدى الأب، والحب (أو الجنس فعلياً) لدى الابن.
في الفصل الأخير «ما يشبه الخاتمة»، نجد تشريحاً نظرياً لماهيّة الفن والشعر من دون أن يبدو ناتئاً عن عالم الرواية، ومن دون أن يكون مجرّد استعراضٍ للمعلومات. من الواضح أن كروش قارئ نهم قبل أن يكون كاتباً بارعاً. وهو، بهذا المزج القويّ بين النظريّ والإبداعيّ، يذكّرنا بإبداع جورج إليوت، في روايتها «مدل مارتش» على الأخص، ومعنى تدخّل الكاتب في النص. فالأرقام والنسب المئوية المتناثرة على أرجاء الرواية التي كانت تبدو مُرهقة للقارئ في الفصول الأولى لأول وهلة، ستبدو الآن طبيعية تماماً وفي محلها، بل يمكن القول إنّ فهمها لا يمكن أن يكتمل من دون هذا الجسر النظريّ التوثيقيّ عن معنى الفن وأهميّته.
هنا، لا يؤسّس كروش لرواية جديدة بقدر ما يعيد إحياء تراثٍ روائيّ منسي كان للقوّة المعرفيّة فيه نسبةٌ تكاد توازي الجمال الإبداعيّ. رواية تكتسب أهمية متضاعفة لأنها قادمة من بلاد تشبهنا بقدر ما هي بعيدة عنا، ثقافة تماثل ثقافتنا بقدر ما نجهلها. وتومئ لنا «هيا نشتر شاعراً» بأنّ الجمهوريّة الفاضلة ليست تلك التي تُقصي شعراءها أو تسلّعهم، بل هي التي تُعيد إليهم موقعهم كمحرّك للحياة بمجرّد وجودهم. لا يهمّ مغزى الفنّ هنا، أو مدى انتفاعنا منه، فهذا أمر يخصّ كلّ فردٍ منا ولا علاقة لجوهر الفنّ به، «فالزهرة تُزهر من أجل سعادتها هي. أما نحن فنكتسب لحظة سعادة عبر النظر إليها. هذا كلّ ما يمكن قوله عن علاقتنا بالأزهار»، كما يذكّرنا وايلد. أو، بحسب شاعر كروش، «عليّ أن أقطع أميالاً قبل أن أنام»، فيما تقتصر مهمّتنا على «ألّا نترك الشعراء في الحدائق».