1
أراد الناس الهروب من الخواء
فعمّروا المدن الكبيرة
وصاروا مسنناتٍ ومطارق وحقائب وقبّعات.
أراد أهل المدن أن يعودوا إلى الطبيعة
عندما تكسّرت عظامهم
فملأوا شرفاتهم بالورود والعرائش
وربّوا قططاً وكلاباً في البيوت.
جعلوا المدن حصينة ومسوّرة
يحوطها الجنود وتحرسها الطائرات.
حين تنشب الحروب
ستظل ورود الشرفات على قيد الحياة
وتشتعل المعارك في جبال القرى.
سيموت الفلاحون والحصادون وسائقو الشاحنات
لكن المحاصيل
ستظل تتدفق إلى رفوف المتاجر.
2
إن كان نهاراً في اسطنبول
وكنت على الشرفة
تشرب شاياً
قدام البحر
ترى شمساً كالكمّثرى.

تصعد عيناك على تلٍ وقصورٍ وتكيّات.
وأسرابٍ بيضاءَ
تحوم حوالي جسر الصيادين.

ترى في البحر مراكب تجنح
حين تمر الفرقاطات براداراتٍ
فوق عوارضَ من فولاذ...

إن نزلت شمس الظهر
على زرع الشرفة
حاذر أن تسقي الحبقة في تلك الأثناء.

لأن الحبقة
تحت الشمس
كما الرجل المطعون
إذا شربت
ستموت على أثر السُّقيا
ما بين يديك.

3
التل المقابل من البوسفور
على بُعد ثلاثة أميال.
في الفجر يحجبه الضباب
في الشتاء تخفيه الغيوم الماطرة
في الربيع تغشاه حبوب الطلع
وفي المغيب يحّيده غبار المدينة والعربات.
..
ملايين الحيوات المهدورة
-لحبوب الطلع التي سترتطم بالجدران-
تملأ الأفق ما بين التلال.
ملايين قطرات المطر
تهمي على المآذن والقبور وألواح الزجاج.
والمدينة
تكثّف غيماً أسودَ من آلاف العوادم
وترفعه مع الصلوات والأرواح.
..
سحابة رماديةٌ بطول ثلاثة أميال
تحول بين ضفاف البوسفور.
..
نحن
ما الذي يحول بيننا؟

4

كبرت مع الأشجار. كانت أمي تسقيها في باحة الدار عند المغيب. صارت طويلة كعمدان النور. البعوض يحوم حولها، ويكشفه الضوء في هدأة الليل.
حين أتعب أتحول إلى شجرة. أكف عن الحراك. في أرضٍ تُحرث بالمعاول والرفوش. أستسلم لرياح الصيف التي تأتي من سهبٍ بلا عارض. أستوطن حيث أوطّن. وتأوي إليّ الجوارح بصغارها.
كان هناك شجرة توت في حيّنا. وحيدةً في فلاةٍ حصيّة. خلف صفٍّ من المناشر. باديةً من آخر الكثيب. رجمناها بالحجارة في أيام العيد. وأسقطت توتاً، فصار الحصى أحمر اللون.
البقع حمراء على ثيابنا
وفوق مهد الحصى..
هكذا كانت تنزف الأشجار..
ربما كانت شجرة التوت رجلاً متعباً.
* كاتب سوري