لؤي حمزة عباس


يرتسم الكتاب الأول خارج التاريخ الشخصي لكاتبه، إنه يدوّن تاريخه الخاص، عبر بناء تاريخ العلاقة بين الكاتب وأفعال الكتابة والتأليف، محققاً حضوراً حلمياً أكثر منه حقيقة ورقية ناجزة، وفعل تفكير وإبداع.
ينفلت الكتاب الأول، كلما تقدّمت رحلة الكتابة بالكاتب، عن زمانه المعلوم ليضيء في زمان خاص ذي معنى مؤجل. إذ مثلما يكون الكاتب، مع توالي مهمات التأليف وتواتر مشاريعه، قد دار دورته وتغيّر، كذلك يكون بمستطاع الكتاب الأول أن يدور ليُنجز على نحو ما شعريته في حقل الكتابة، مؤدياً دوره الأهم في صياغة العلاقة بين مؤلفه وعوالم التأليف.
صدر الكتاب في عمّان، متخفّفاً من عبء الداخل العراقي وهيمنة الرقيب
إنه الوعد المتحقق والمسؤولية الناجزة، فما يكون مجزوءاً ومتفرقاً في الكتابة قبل الكتاب الأول ينتظم معه وعداً ينتسب لمستقبل الكتابة أكثر من انتسابه لماضيها، فعبره يمكن أن تترقب ملامح الكاتب القادمة وهي تعد بالكثير من الأفكار والأحلام في تأسيسه مشروعه الكتابي كتاباً بعد كتاب، ليكتشف في لحظة ما من لحظات التأليف أن كتبه جميعاً تشكلت في رحم كتابه الأول، وأن فيض عوالمه لم يكن غير كلمة منحوتة في ذلك الكتاب.
يقلب الكتاب الأول على الدوام المعادلة الزمنية، ليبدو الماضي معه مستقبلاً، والحاضر الكتابي زمناً متجدداً لا ينقضي إلا مع تمام الحقل وتجلي كلماته القصوى وأحلامه البعيدة.
مع عقد التسعينيات تشكلت حركة ثقافة عراقية خارج الحضور الرسمي، معبرة عن نفسها عبر كتاب الاستنساخ، نشراً وتداولاً، متعدية المركز البغدادي، على الرغم من أهميته، لتحقق أثرها الأهم في المدن العراقية البعيدة كالبصرة والموصل، عبر تجمعات وجماعات، في الشعر مثلما في السرد والنقد. وعبر أحلام وطموحات خارج السرب داخل المؤسسة الأكاديمية وخارجها، كانت روح الثقافة العراقية ما زالت فتيةً سافرة، لم تنهكها سنوات حرب الثمانينيات الحالكة. في مثل هذه السنوات، في النصف الثاني من عقد التسعينيات، صدر كتابي القصصي الأول «على دراجة في الليل»، عن «دار أزمنة» في العاصمة الأردنية عمّان، جزءاً من رهان صاحب الدار القاص والروائي الياس فركوح على الكتابة العربية الجديدة بوصفها «تباشير» تراهن على مستقبل كتابها.
مع الأناشيد التي بدا الإنسان فيها كائناً خرافياً لا يموت، كان ثمة عراقي آخر من لحم ودم يتألم في المناطق المعتمة
الكتاب الذي أذكر له فضل تأشير أهم ملامح القصصي الشاب التي توطدت في ما بعد عبر مجموعات وروايات، وهي السير في منطقة شبه العتمة والتقاط خفي القصص للتعبير عن كوامن الحياة وشواغلها. الكتاب الذي صدر في عمّان، متخففاً من عبء الداخل العراقي وهيمنة الرقيب، عبّر بطريقة مبتكرة عن جسامة الواقعة العراقية، فالحرب التي توقفت منذ سنوات فحسب كانت ما تزال تعتمل في دواخل الفتى التي لم تستنفد طاقتها في التعبير عما عاش من مرارة التجارب وقسوة تفاصيلها. كان للمجموعة أن تعبر عن الوجه الآخر للحرب، وجهها الصموت الذي أقصته آلة الإعلام الرسمية الجبارة مقدمة قراءتها ومحكمة تأويلها للحرب وبشاعاتها. في تلك السنوات، كان ثمة عراق يتنفس في النصوص البعيدة ويعد بالتعبير عن هواجس خارج مقولات البطولة والانتصار، ثمة روح إنسانية أعدّت للتعبير عن المخاوف التي ضربت عميقاً في النفس العراقية فانكسرت كما ينكسر الزجاج. ستعيد بعض قصص الكتاب بما حملته من ظلال مشاعر مثل صرخات مكبوتة. كان على الكاتب الفتى أن يحدّق عميقاً في بئره الشخصية ليلتقط أصداءها، «عدّ الموتى»، «العاري في الظل»، «البازدار»، «خطط مسائية لحرب غير منتهية»، «على دراجة في الليل»، وسواها من قصص كانت تمضي كأنما على طريق مستقيم رسمه الخيال من محطة قطار يحمل قطارها موتى الجبهات إلى مستشفى أمراض عقلية وإلى مقبرة يتنقل موتاها على دراجات هوائية في الليل ويصطادون العابرين ليحكوا حكايات موتهم الغريبة.
في مقابل من المروية الرسمية للحياة العراقية، كانت مروية أخرى تتشكل في خفاء لتقديم رؤيتها لما وقع. مع أناشيد المعارك التي بدا الإنسان فيها كائناً خرافياً لا يتعب ولا ينكسر ولا يموت، كان ثمة عراقي آخر من لحم ودم يتألم ويموت في المناطق المعتمة والملاجئ العميقة، يحلم أحلامه المستحيلة التي يحاول فيها أن يحكي حكايته في ليل مقبرة. لم يكن الكتاب الأول، بالنسبة إلى أجيال الحروب العراقية، محض مؤلف يفتح الباب من بعده لمؤلفات، كان أقرب الى رسالة وضعت في قنينة ورميت في بحر هادر الموج، لعل أحداً يلتقطها على ساحل بعيد ويفضّ ختم الحكاية التي لم ترو من قبل.