وجدي الأهدل


أشعلت أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001 شرارة العداء بين العالم الإسلامي والغرب. فجأة، تلوّث الجو بالضغينة في الولايات المتحدة وأوروبا ضد المسلمين. لذلك، تداعى المثقفون من كلتا الضفتين إلى عقد مؤتمرات توضح الحقائق، وتبدد الأوهام التي أسهم الإعلام في صناعتها عن الإسلام، كديانة تحضّ على العنف والدمار.
واحد من هذه المؤتمرات عقد في صنعاء أواخر عام 2002، بترتيب من «مركز الدراسات والبحوث» الذي يرأسه الشاعر اليمني الكبير عبد العزيز المقالح، وأطلق على المؤتمر مسمى «في البدء كان الحوار» الذي استمر لمدة ثمانية أيام متصلة.
الروائي الألماني الحائز جائزة نوبل غونتر غراس، أيد بشدة فكرة الحوار بين الأدباء العرب ونظرائهم الأوروبيين الناطقين باللغة الألمانية. لذا، فقد لبّى الدعوة للحضور من دون تردد، وحل ضيفاً على اليمن وبصحبته ثلاثون كاتباً وكاتبة، من ألمانيا والنمسا وسويسرا، بالإضافة إلى صحافيين يمثلون وسائل الإعلام من تلك الدول. ومن الجانب العربي، حضر المؤتمر عدد موازٍ من الأدباء العرب، وفي مقدمتهم الشاعران أدونيس ومحمود درويش.
وشاء القدر أن توضع أطروحات المؤتمر حول الحرية والرقابة على نار الاختبار، ومبادئ المتحاورين عن التسامح على المحك، وذلك عندما استقبل الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح الجميع في قصره، وأراد أن يمنح غونتر غراس وسام الاستحقاق. امتنع الأخير عن قبول الوسام حتى يُلبّى مطلبه. سأله المترجم عن مطلبه، فقال غونتر غراس إنه يطالب بإسقاط القضية المرفوعة من الدولة على الكاتب اليمني وجدي الأهدل، والسماح له بالعودة إلى بلاده، وضمان حمايته من أي ملاحقات قضائية بسبب روايته «قوارب جبلية». فجأة تكهرب الجو الودي، وتوترت الأعصاب، نتيجةً لتمسك كل طرف بموقفه. حاول «البعض» ثني غونتر غراس عن طلبه، ولكنه لم يتزحزح أو يلن، وقال لهم: «لو كنت محامياً وأتقن العربية لدافعت عن هذا الروائي من دون شك». طلب الرئيس السابق علي عبد الله صالح منحة مهلة من الوقت للتشاور، ثم خرج تاركاً الجميع في حالة من الاضطراب. وبعد عشر دقائق، عاد وأعلن موافقته على عودة الكاتب إلى بلاده مع ضمان حمايته من أي ملاحقات قضائية. وهكذا مرت العاصفة بسلام، وقَبِلَ غونتر غراس الوسام الرفيع الذي منح له. رغم الغموض الذي أحاط بالدقائق العشر التي قضاها الرئيس السابق علي عبد الله صالح بعيداً عن ضيوفه للتشاور، فإن الألمان اعتبروا هذا التصرف دليلاً على حنكة الرئيس وحكمته.
غونتر غراس أنقذ حياتي من الضياع والتشرد في المنافي بعدما اتهمت بكتابة «تنتهك العادات والتقاليد»

في عام 2004، نُظِّمَت الجولة الثانية من الحوار العربي – الألماني، تحت مسمى «وليستمر الحوار». والتقيتُ للمرة الأولى وجهاً لوجه بالروائي غونتر غراس الذي أنقذ حياتي من الضياع والتشرد في المنافي. بعد انتهاء الجلسة الافتتاحية، كان غونتر غراس يتمشى في القاعة لترييض قدميه وهو يدخن الغليون متجهماً. دنوتُ منه وبرفقتي الشاعر اليمني أحمد ضيف الله العواضي الذي يتحدث الإنكليزية بطلاقة. عندما عرّفته بنفسي، احتضنني بحرارة صادقة كصديق قديم، وبدا عليه السرور والمرح كأن روحه خرجت من قفص، وتبادلت معه حواراً قصيراً:
- شكراً لك أيها العظيم على ما قدمته من أجلي.
- (ضحك) أنا حينما أذهب إلى أي مكان في العالم أهتم دائماً بالدفاع عن الناس المظلومين، لذا كان من الطبيعي أن أهتم بالدفاع عنك، لقد أراد الرئيس أن يقلدني وساماً، ولكنني فاجأته ورفضتُ قبول الوسام حتى يأذن بعودتك ويضمن حمايتك.
- الموقف الملتزم بقضية الحرية الذي اتخذته من أجل الكف عن ملاحقتي وضمان عودتي إلى بلدي آمناً علمني درساً مهماً.
- لا تنعزل عن الاهتمام بقضايا الناس. أتمنى أن تنشط في هذا الجانب.
- نعم.
- أنا حينما كنت في مثل سنك، أي في الثلاثينيات، أصبحتُ أديباً مشهوراً، ولكنني شعرتُ بالضجر والملل من الشهرة، ولم تفدني من ناحية الكتابة، ولم تساعدني على مزيد من الإبداع، ولكنني سخّرتُ الشهرة لمساندة المضطهدين أينما وجدوا.
ربما لاحظ الروائي غونتر غراس بعينه الثاقبة وخبرته العريضة في خبايا النفوس البشرية أن قدراً من الغرور قد داخل الأديب الشاب الغرّ الذي يقف أمامه. كان الرجل بحكمته الراسخة ومن خلال تجربته الشخصية العميقة، يحاول إرشاد شاب من دول العالم الثالث يحاول كتابة الأدب إلى الطريق الصحيح الذي ينبغي للمبدع الصادق المخلص للمبادئ الأخلاقية السامية أن يسلكه. تابع قائلاً:
- لا أريدك أن تعتقد أن الشهرة ستفيدك في التألق على مستوى الكتابة، بل هي ستحاصرك وتقيدك، وكل ما هنالك أن عليك استغلال هذه الشهرة في خدمة المغلوبين على أمرهم.
- رسالتك وصلت، سوف أُسخّرُ قلمي للكتابة عن الضعفاء والمظلومين.
ابتسم (غونتر غراس) راضياً. ثم غيّر فجأة اتجاه الحوار وسألني:
- كيف هي أوضاعك الآن؟
- وضعي جيد، ليست هناك أية مضايقات تذكر.
- أين تقيم؟
- أنا مقيم في صنعاء.
- هل تعمل؟
- أعمل موظفاً في دار الكتب.
وامتدّ الحوار إلى أن تمت دعوتنا عبر الميكروفون للعودة إلى أماكننا لاستئناف الجلسات، أردتُ أن أشكره مرة أخرى قبل أن نفترق فقلت: «شكراً لك أيها الكاتب الشجاع». قال بتواضع: «أنا لست شجاعاً، وما قمت به هو واجبي». وذهب وهو يلوّح لنا بيده.
في اللقاء الذي جمع غونتر غراس بالرئيس اليمني، قال الأخير إن مؤلف رواية «قوارب جبلية» مطلوب للمحاكمة لأنه كتب أموراً تنتهك العادات والتقاليد. قيل إن غونتر غراس غضب وقال للرئيس إن هذا الكلام يؤذيه شخصياً، لأنه سبق أن اتهم بهذه التهمة الظالمة قبل نحو خمسين عاماً في ألمانيا، وتعرض للمحاكمة والتحقيق معه.
في المرتين اللتين حضر فيهما غونتر غراس إلى صنعاء، لمحاورة أنداده من الأدباء العرب، ظل يؤكد أن مهمة الأديب في الحياة العامة هي أن يقول الحقيقة، مهما كان الثمن غالياً والخطر عالياً. وقال: «إن الأدب مهنة شديدة الخطورة، وعلى من لا يستطيع قول كلمة الحق أن يختار مهنة أخرى، فليعمل حلاقاً مثلاً».
ونعلم اليوم أن غونتر غراس هو واحد من قلة من كبار كتّاب الغرب الذين أدانوا إسرائيل علناً في مناسبات عديدة. ولقد تجرأ على قول الحق، غير هياب من سطوة الإعلام الموالي لإسرائيل، ونشر في عام 2012 قصيدته الشهيرة «ما ينبغي أن يقال» التي قال فيها إن إسرائيل تمثل تهديداً للسلام العالمي، فجلبت عليه هجوماً شرساً من المسؤولين الإسرائيليين والموالين لهم في الولايات المتحدة وأوروبا. وهم الذين انقضوا عليه، مطالبين بسحب جائزة نوبل منه، عندما اعترف في مذكراته بأنه كان في شبابه الغض جندياً في الوحدة الوقائية المكلفة حماية هتلر "s.s".
في حضرته، لم أشعر مطلقاً بذاك الشعور الذي ينتاب المغمورين في حضرة المشاهير، ولم أحسّ للحظة بأنني أدنى منه، أو أنه توجد فوارق بيننا – مع أن هذه الفوارق فلكية في واقع الحال – ولقد أذاب بلطفه وطيبته غير المفتعلة الفوارق جميعها، واستأنست نفسي بحديثه الصريح التلقائي، حيث يقول مباشرة ما يجول بخاطره غير مبالٍ بأي حسابات سخيفة تتعلق بمكانته أو بمكانة الآخر. إنه ببساطة وعفوية يُلغي الحواجز، حواجز السن واللغة والثقافة والتراتبية الأدبية إذا جاز التعبير، ويغمرك بمشاعره الدافئة، ويأخذ راحته في الضحك والمزاح دون تحفظ. إنه إنسان لم تنجح الحضارة المعاصرة في تحويله إلى آلة باردة المشاعر.
اليوم، وبعد مرور سنوات طويلة على صدور روايتي الأولى «قوارب جبلية» أدرك أنني تجاوزتها فنياً، ولكنني مدين لها بالحدث الأدبي الأهم في حياتي، ألا وهو أن يتقاطع قدري مع قدر واحد من أعظم كتّاب الرواية في عصرنا.