العناصر الواردة في رصف الكلمات تحيل القارئ إلى زمنٍ كتابي جميل مضى
يحملُ الديوان نفَسَاً رثائيَّاً بأسلوبيَّةٍ ممزوجة بين محاولة تمرّدٍ على الأطر التنظيميَّة للنصّ وبين امتثالٍ للأصول، ليعبر القارئ بممرّاتِ الفوضى الكتابيَّة، ومن ثمّ رويداً رويداً تنتظمُ الصور والتشابيه مكوّنةً اللذة المرتجاة من كلّ نصّ. في نصه الأوّل من الكتاب «رنين»، تتجمهر الرثائية وعناصر غياب الأحبَّة كمسحةٍ رقيقة من يد أمّ رؤوم وأحياناً بطريقة فجّة تعزِّزُ الفقدَ كثيمة متأصِّلة لما يُكتب في الرّاهن من الأيَّام: «سأنامُ ليومين من سهو العالم/ أنظّفُ منفضتي/ أنظّفُ منفضة الرأس
أباعدُ أشباحاً وأغسل بماءٍ بارد أصابعي من لسعات سجائر/ محتفياً بثلاثة كوابيس لا أكثر، أشجُّ صلعة العالم وأنام فيها».
النصّ حمّالُ أوجه، والتعابيرُ تخونُ الشرحَ أغلب الأحيان، فالكتابةُ الذاتيَّة هي التي تمنح تقنيّة التأويل المتعدِّد مدىً أوسع وأشمل، النصّ الذاتيّ ضامناً المتعة للآخر الذي يرى النص تشبيهاً بليغاً لحالته الذاتية. كذلك إن إهداء النصوص إلى أسماءٍ في ذاكرة الشاعر، تهب المكتوبَ شخصنةً أشدّ تمحوراً حول الذات.
في العزلة، تغدو الكلماتُ والذاكرة وأشباح الأحبَّة، عناصرَ لتنظيم الحياة الداخليَّة، تلك الحياة المعقّدة بالنسبة إلى كائنٍ هو غير الشاعر، عير أنّها الحياة الاعتياديَّة المنطقية للشاعر ذاته، حيث تغدو الصور المباشرة للكائنات البشريَّة مجرّد أطيافٍ وعناصر للكتابة: «من الشرفةِ أتابع أصواتَ المارَّة، حركاتهم، تجاعيد حول عيون مفتوحة/ أتابع همهمات بلغات لا أعرفها/ يصل منها ما يُضحكني/
من الشرفة للمطر حديث/ مثل دموعٍ تطبع أصابعها على زجاج».
جاهداً يحاول ناجي في مختلف النصوص أن يرتق روحه التي بدأت تثقب مع غياب الأحبَّة واشتداد الفقد والعزلة التي تضيّق الخناق حول روحه. عبثاً، يحاول الكحولَ كي يبقيَ العالم على مبعدةٍ منه، العالم الذي يبتلع الأصدقاء. ببساطة ودونما كرنفاليَّة مزيَّفة مضخّمة، يكتب عن نفسه، عنّا نحن القرّاء في زمن الحروب والخراب (عالم تحت جلدي يزحف مثل حلزون وأنا أتلوّى من الذكريات).
«لستُ ممتعضاً من دفق السّرد» مجموعة نثريَّة بتميّز. العناصر الواردة في رصف الكلمات تحيل القارئ إلى زمنٍ كتابي جميل مضى، فالخلط الحاصل الآن بين الأنواع سبّب أرقاً للقراءة وفنونها، الخلط الذي يؤخِّر فرز الجيّد ويسيِّدُ الرديء: «القبلةُ قصيدة نثر، العناقُ قصيدة نثر، المضاجعةُ حتّى نثر، وحده الشوق وجفاف الروح شعر موزون يمدّ روحه إلى مصافّ العناق كي يكتمل.. ويُكمل دورة حبّ أولها القبلة ثم العناق».
السرديَّة النثريَّة التي يتبعها ناجي في النصوص على اختلافِ دلالاتها تحويلٌ لليوميّ المعيش داخليّاً في ذات الشاعر. ثمّة دراما متوافرة بأدقّ التفاصيل وبنثرٍ ضاجّ بحيوية من يمتلك ملاحظةً قويَّة لمحيطه الداخلي والخارجي بالسويَّةِ ذاتها... الحياةُ الناقصة التي توهِم من حولها أنّها كاملة، التي ترقصُ أمام الشاعر لا تفيد بشيء، فقط ينهمكُ الشاعر برتق روحه المثقوبةِ بفعل الذكرى عن طريق الكتابة.