هذا مؤلف جديد في موضوعه، وملخصه أن جغرافية بلد ما أو دولة ما، هي التي تحدد سياساتها! تِيم مارشال هو صحافي متخصّص في السياسات الدولية، عمل كمحرر قسم السياسة في قناة «سكاي نيوز»، إضافة إلى مجموعة أخرى من الفضائيات منها هيئة الإذاعة البريطانية، كما نشر تقاريره وأبحاثه في مجموعة من الصحف البريطانية والأميركية التي تعبر عن آراء الإدارات الحاكمة مثل «غارديان» و«نيويورك تايمز»، وألف بعض الكتب في مجال عمله.موضوع هذا المؤلف هو سياسات دولة ما عالمياً، وتأثير تضاريس وجغرافية بعض الدول ومواقعها فيها، وهو طرح جديد ومقاربة نوعية. بالتالي، فإن الكاتب أثرى مؤلفه ببعض الخرائط (أكثر من عشر كما يرد في عنوان المؤلف الجانبيِ)، كان يجب أن تكون من نوعية أفضل، تشرح تضاريس البلاد التي تناولها بالبحث والتحليل.
قسم الكاتب مؤلفه إلى عشرة أجزاء أو فصول، خصص كل واحد لدولة أو لإقليم وهي: روسيا، الصين، الولايات المتحدة، أوروبا الغربية، أفريقيا، جنوبي المتوسط (الشرق الأوسط)، الهند وباكستان، كوريا واليابان، أميركا اللاتينية والقطب الشمالي. لنأخذ بعض الأمثلة التي توضح رسالة المؤلَّف ونبدأ بروسيا، ودوماً بحسب الكاتب. بالنظر إلى تضاريس روسيا، نجد أن غربيها، سهل منبسط أفسح المجال للدول الطامعة فيها للهجوم عليها واحتلال تلك المنطقة الشاسعة. المرة الأولى كانت بقيادة نابليون والثانية الغزو الألماني النازي في مطلع أربعينيات القرن الماضي. فرض على الروس/ السوفيات ضرورة إقامة دول عازلة بينها وبين جيرانها الغربيين الطامعين في ثرواتها وخيراتها، آخذين في الاعتبار كون القسم الأكبر من شعوبها سلافيين وجذور حضارتهم وديانتهم إغريقية/ أرثوذكس. ولا ننسى أن روسيا القيصرية عانت الغزو البولوني عام 1605، ما فرض عليها اتباع سياسة إقامة دول عازلة بينها وبين جيرانها في الغرب.
العنصر الآخر الواجب أخذه في الاعتبار هو افتقار روسيا/ الاتحاد السوفياتي إلى إطلالة على المياه الدافئة في المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط. هذا ما دفع بروسيا القيصرية إلى التمدد جنوباً في أوراسيا، حتى وصلت إلى تخوم الهند، أو ما يعرف حالياً بأفغانستان، وهي دولة عازلة أقامتها الإمبراطورية البريطانية في القرن الثامن عشر لتكون منطقة تفصل بينها في مستعمرتها في شبه جزيرة الهند وبين قوات روسيا القيصرية ومنعها من التمدد جنوباً باتجاه بحر العرب/ المحيط الهندي.
يشير العمل إلى أنّ مستقبل أفريقيا وأميركا اللاتينية ليس براقاً

أما عودة روسيا الاتحادية إلى شبه جزيرة القرم وإلى مرفأ سفستبول تحديداً، التي كانت قد أهدتها روسيا السوفياتية إلى أوكرانيا السوفياتية كبادرة حسن نية تجاه الجار الذي لم تكن علاقته معها جيدة طوال عقود قبل الثورة البلشفية، مع أن أغلبية سكان القرم هم من الروس، فتعبر، طبعاً بحسب الكاتب، عن تطلع روسيا إلى منفذ يساعدها في الوصول إلى مياه البحر المتوسط الدافئة. وهنا نضيف أن موقفها من الصراع في سوريا وعليها، ذو أبعاد جغرافية سياسية استراتيجية، وهو الأمر الذي يوضح ضراوة الاشتباك عليها.
ننتقل الآن إلى مثال ثان هو الصين الدولة الأكثف سكاناً في العالم وحاجتها إلى تغذية نحو ألف وخمسمئة مليون من البشر، دائمي الزيادة، وفي الوقت نفسه تتضاءل مساحات الأرض الصالحة للزارعة. الصين، كما روسيا، عانت كثيراً من اعتداءات جيرانها (وهل ننسى وظيفة سور الصين العظيم!) ما شجعها في نهاية المطاف على ضم إقليم كسنجيانغ، إضافة إلى إقليم التِبِت (عام 1951)، مع أنها لم تتمكن من فرض لغتها (المندرين) على الأقاليم الأخرى، وهذا أمر قد يكون له تداعيات خطرة في المستقبل.
المعروف الآن أن الصين تعمل على بناء جزر اصطناعية في بحر جنوب الصين، ومضاعفة قدرات قواتها البحرية على نحو غير مسبوق، إضافة إلى تطوير أسلحتها المضادة للقوات البحرية، آخذين في الاعتبار أن منفذها البحري الوحيد نحو الغرب لا بد أن يكون من خلال مضيقي سنغافورة، وهي تجد نفسها في الواقع بين كل من إندونيسيا وسنغافورة وماليزيا، وهي دول متحالفة مع واشنطن. لعل هذا يشرح قيام الاستعمار البريطاني بتقسيم المنطقة اعتباطياً وخلق مدينة دولة في المضيق.
ولا ننسى قيام الصين بتأسيس قواعد عسكرية في بعض البلاد البعيدة كان آخرها في جيبوتي. كما أنها تستثمر قسماً كبيراً من ثرواتها من العملة الصعبة في معظم آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، إضافة إلى ابتياعها مجموعة من المرافئ البحرية، كما فعلت أخيراً في اليونان. والهدف طبعاً هو تسهيل وصول ما تحتاج إليه من معادن وموارد طاقة.
المثال الثالث والأخير في هذا العرض هو الولايات المتحدة الأميركية التي تتميز جغرافياً بأن حدودها الأربعة محمية إما على نحو طبيعي، بالمحيطين الأطلسي والهادي، أو بجيران ليسوا عدوانيين أو ليسوا بمقدراتها في مختلف المجالات، إضافة إلى كونها الدولة الأكثر تقدماً علمياً والأقوى اقتصادياً إلى الآن. كما أن واشنطن أضحت قادرة على إمداد نفسها بمختلف مصادر الطاقة. هذا يشرح سياساتها تجاه مختلف بقاع العالم وانتشار قواتها وقواعدها العسكرية، بما يخدم تطلعاتها للسيطرة على العالم، أي على ثورات العالم وإخضاع كافة القوى التي ترى أنها قد تشكل مصدر تهديد لها.
أما قارتا أفريقيا وأميركا اللاتينية، فلا يبدو مستقبلهما براقاً، وفق رأي الكاتب، بسبب أمور عديدة أولها تضاريسهما الجبلية وانعدام الأنهر التي لا تسمح بروابط داخلية دائمة وحيوية، إضافة إلى الحروب الأهلية المشتعلة فيهما، لكن من الخطأ تجاهل دور الاستعمار في التقسيم الاعتباطي لدول أفريقيا.
ثمة نقاط كثيرة أخرى طرحها الكاتب، ونقاط ضعف عديدة في المؤلف أشار إليها بعض أهل الاختصاص عند عرضهم هذا المؤلف الجديد في طرحه والمفيد للصحافيين والسياسيين الاطلاع عليها، وإن من منظور نقدي.