هناك ما هو ملغّز في أشعار بيار باولو بازوليني (1922 ــ 1975)، كأنه يخاطب ذاته في المقام الأول، غير عابئ بتفسير أو تبرير تلك الصور المباغتة التي تأتي كضربة من خارج السياق كمحصلة لروح قلقة ومتمرّدة وعزلاء. في «جسد وسماء ــ قصائد للشباب» (دار نينوى ــ ترجمة آمارجي) ينبغي أن نبذل جهداً مضاعفاً كي نلتقط تلك الذبذبات الغامضة، وأن نلهث وراء تلك اللغة المركّبة في رسم مشهدياته. هكذا تحضر في الخلفية صورة السينمائي والرسّام والروائي، من دون أن نهمل طريقة حياته العاصفة والمشبعة بالتناقضات، فهو بقدر ما يبدو شفّافاً في بعض نصوصه، سيباغتنا عند منعطفٍ آخر بجرعة صريحة من الشهوانية. شاعر ترحال لا إقامة. مراياه مهتزّة ومغبّشة، لكنه سيترك أثراً خاطفاً في الظلال باعتباره جوهر الفكرة المرتحلة.
تتحوّل اللقطة في سينماه إلى تكوينات تشكيلية بعنف غير مرئي يشعل الحواس
كأن شعره يكمن في تلك النتوءات والتصدعات التي تتناسل بخصوبة وسيولة غنائية، لكن تجاربه اللاحقة ستذهب بعيداً في المغامرة اللغوية والاحتجاج والتحريض، إذ لطالما كانت حياته فضيحة متنقّلة لا تخلو من صفاقة ولذة في انتهاك ما هو محرّم ومتجانس. ليست مثليته وحدها من وضعته في هذه المنطقة الملعونة، إنما انتهاكاته البلاغية العنيفة التي أتت كنوع من تصحيح مسار ونبذ لكاثوليكيته الصارمة في مطلع شبابه في نزهات لغوية وبصرية سعى خلالها إلى نسف المشهديات الراسخة رأساً على عقب، ومحاولاته في نفض الغبار عن «الجمال المشعِّ» وإزاحة «قمامة العالم» كي تولد شرائع جديدة. قد لا تعبّر هذه النصوص عن الصورة المكتملة لفلسفته، لكننا سنرممها بكتابٍ آخر أكثر شمولية سبقها إلى لغة الضاد هو «زريبة الخنازير» وبقصائده المتأخرة التي سنجد بعضاً منها في «جسد وسماء»، بالالتفات إلى تلك الانحرافات والتمزّقات المتتالية والصادمة في حيرته وسيرته. حيرته بين ما هو دنيوي من جهة وما هو قدسي من جهةٍ ثانية، بين كاثوليكيته المبكرة وماركسيته اللاحقة، إلى أن يحطّم أيقوناته جميعاً ليجد نفسه في عراء العزلة وسط الحشود، مؤسساً نسقه المعماري بوحشية تدميرية تنهض على «الأمل في انعدام الأمل» في ابتهالات دنيوية تفصح عن قلقه الوجودي، واضمحلال الزمن وتلاشيه وتوهّج الجرح وانحسار الطمأنينة. العالم بالنسبة إليه هو «أنين بلا توقّف»، و«طيش أعمى»، وخطيئة ينبغي محوها لمصلحة «الواقع المحجوز للمُغاير الذي لا خيار له إلا الوقوع في حبِّ من يُحب». في تقديمه للكتاب، يشير فالريو ماغرللي إلى عملية الهتك الوحشية التي مارسها بازوليني على اللغة كشاعر «ملعون ولكن مُمَجَّد، مجدِّفُ ولكن موقَّر»، وإذا به يجسّد «صورة الذبيحة القربانية». لكن «شاعر الرماد» سيجد في الشعر مدخلاً إلى السينما، مؤسساً لنبرة بصرية خاصة به ضمن تيار «الواقعية الايطالية الجديدة» في رسم صورة روما القديمة وتحطيم ثبات أسطوريتها بنظرة ذاتية مواربة، وميتافيزيقية متخيّلة، وتمجيد للخيال بجرعة مستلة من روحه الشعرية في المقام الأول.
هكذا تتحوّل اللقطة في سينماه إلى تكوينات تشكيلية مشبعة باللون، وعنف غير مرئي يشعل الحواس ويوقظ جمال الجسد وتلاشيه لاحقاً في الموت. «ألف ليلة وليلة» وفقاً لتصوراته احتفاء بالجسد والشهوة والخواء النهائي في حركات متتالية ومتناوبة ما بين الاشتعال والتوهج واليقظة والانطفاء، وبمعنى آخر تمجيد الجمال وهجاء الموت، كما لو أنه يعيد كتابة شعره بالعدسة. عدسة تلتهم بشراهة كل ما ماهو منبوذ ومستتر وإعلانه على الملأ. في موازاة ذلك، سيعمل على فضح الفاشية بالمبضع نفسه، ففاشية السلطة كما تشي بها أفلامه هي الوجه المقابل للفاشية الدينية ضد الجسد وشهواته. هكذا سيغسل شوارع روما من خطاياها ببصيرة مضادة، أو كما يقول الناقد الأميركي ستيفن سنايدر «بازوليني رجل ذو نفاذ بصيرة وإدراك روحيين من دون كنيسة، ماركسي من دون حزب. يشاطر الماركسية في أن درجة الحريَة في مجتمعٍ ما هي علي نحوٍ كبير مقياس لحرية نسائه». على هذا المنوال، سيترك لنا ميراثاً فريداً من فزع الجمال واللذّة «لذّة المشي بلا نهاية في دروب مُرمِلة، حيث يلزم أن نكون ملعونين وأقوياء». كأن سيرته سواء أكان شاعراً أم سينمائياً هي الاشتغال على تعرية ما يحيط به ومجابهته بلا مواربة. بالنسبة إلى شخص استثنائي مثل بازوليني، ستبقى سيرته مثار جدل ونقاشات وأسئلة، من دون أن تتمكّن السرديات اللاحقة من تفكيك غموض اغتياله. في فيلم «بازوليني... موت شاعر» (1995) يتتبع مواطنه الإيطالي ماركو تليو جيوردانا وقائع محاكمة قاتله طوال أربع سنوات تلت حادثة الاغتيال من دون أن يوضح غموض موته التراجيدي تلك الليلة من تشرين الثاني (نوفمبر) 1975. فيلم «بازوليني» (2015) للمخرج أبيل فيرارا، سيواكب بدوره اليوم الأخير من حياته سارداً تفاصيل وانشغالات بازوليني قبل ذهابه إلى الشاطئ. قراءة الصحف وكتابة رسائل، والانتهاء من ترميم مخطوط رواية «بيتر وليو»، ومتابعة مشاهد من سيناريو فيلمه الذي لن يكتمل «سالو»، ولقاءات أصدقاء، وإشارة إلى ديوانه «رماد غرامشي». يوم طويل سينتهي به جثةً على الشاطئ، من دون أن نكتشف لغز موته، هل كان نتيجة عراك مع أحد المثليين أم أنه اغتيل على يد شبيبة الفاشية الإيطالية، وفقاً لوقائع أخرى مضادة؟