لا يمكن في أي حال من الأحوال انتزاع الغارات الأميركية التي قصفت قبل أسابيع مواقع للجيش السوري في دير الزور ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى ومكّن «داعش» من السيطرة على جبل ثردة في محيط مطار المدينة، من سياق التواطؤ الأميركي السافر مع الإرهابيين من كافة الأطياف الذين اجتاحوا المنطقة العربية، بدءاً من مصر مروراً بليبيا واليمن وليس انتهاءً بسوريا. ما زالت فضائح إمداد الولايات المتحدة لميلشيات الدواعش وإسقاط الأسلحة إليهم في العراق وسوريا ماثلة في الأذهان، وما زال الشرق الأوسط يمر في عدد من المتناقضات العميقة التي تجعله إحدى أكثر المناطق غير المستقرة في العالم: حرب في سوريا، عنف في العراق، انتقال مؤلم للسلطة في مصر، واحتلال إسرائيلي مكثف للأراضي الفلسطينية، وتوتر يأبى مغادرة لبنان. تلك البلدان تعد أمثلة صارخة على حالة من العنف يتم تصديرها خارج النطاق الذي تدور فيه. انطلاقاً من عدد من الوثائق الهامة أبرزها مراسلات ومذكرات شخصيات صنعت التاريخ على غرار الدبلوماسي الإنكليزي السير مارك سايكس، والقنصل الفرنسي السابق في بيروت جورج بيكو، وكذلك مراسلات أخرى بين الشريف حسين أمير الحجاز، والسير هنري مكماهون الممثل الأعلى لملك بريطانيا في مصر، فضلاً عن مذكرات الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول، تأتي النسخة العربية من كتاب «عنف وسياسة في الشرق الأوسط... من سايكس بيكو إلى الربيع العربي» (2014) للفرنسيبن بيار بلان أستاذ العلوم الجيوسياسية في «مركز بوردو للعلوم السياسية»، وجان بول شانيولو أستاذ العلوم السياسية الزائر في جامعات فرنسية عدة. الطبعة العربية الصادرة أخيراً عن «دار روافد للنشر»، تولى نقلها إلى لغة الضاد محمد عبد الفتاح السباعي مراسل صحيفة «لو جورنال دي مانش» الفرنسية في القاهرة. ضمن منهج علمي، يستقصي الكاتبان الفرنسيان جذور العنف في منطقة الشرق الأوسط منذ بواكير القرن العشرين الأولى حتى «الربيع العربي». يخلص الكتاب الذي قسِّم إلى خمسة فصول، إلى أنّ ثلاث إيديولوجيات هي المسببة للعنف في المنطقة: القومية العربية، والصهيونية، وتيارات الإسلام السياسي. يرى الكاتبان أنّ جميع هذه الايديولوجيات ترفض الآخر وتنكره، ولا تترك له مساحة للحركة في الحياة السياسية، فضلاً عن ازدواجية المجتمع الدولي وكيله بمكيالين، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية التي خرقت كل المواثيق والقوانين والأعراف الدولية، حين غزت بجحافلها العراق عام ٢٠٠٣، مبررة جريمتها بالأكذوبة الكبرى التي روجت لها تحت مسمّى امتلاك بغداد أسلحة دمار شامل. يضاف إلى ذلك انحياز واشنطن الأعمى لإسرائيل، بما لا يجعلها راعياً في ما يسمّى عملية السلام، بل شريكاً رسمياً في جرائم الاحتلال وتوسعه الاستيطاني.
في هذا المبحث، يذهب الكتاب إلى أنّ منطقة الشرق الأوسط لم تعرف مفهوم الحدود إلا من خلال العثمانيين الذين مارسوا وصايتهم علي مناطق الشام من خلال شبكة إدارية سمِّيت بالولايات. وسرعان ما تم تفعيل المفهوم وترسيخه بواسطة الإنكليز والفرنسيين الذين أرادوا خدمة مصالحهم في المنطقة. ربح بعض لاعبي المنطقة من ترسيم الحدود كالصهاينة وأنصار لبنان الكبير، فيما كان على بعضهم الآخر التنازل عن حلم السيادة (الأكراد) أو عن طموحاتهم الإقليمية، وهم مناصرو سوريا الكبرى أو مؤيدو عالم عربي موحد. ذلك الأمر الواقع فرضه العنف والسخرية والاحتقار من قبل لندن وباريس. كما يرصد الكتاب البواكير الأولية للعنف أي الاستعمار، مستعرضاً شواهد تبرير مراجعة الحدود بتوسعة المجال الحيوي، سواء في منطقة الشام وميل دمشق إقليمياً نحو لبنان مع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 أو منطقة شبه الجزيرة العربية التي كانت مكاناً للحظة تكوين حدود في أعقاب الانتفاضة السعودية الوهابية التي سمحت بالتدريج في الفترة من ١٩٠٢ إلى ١٩٣٢بإنشاء أكبر دولة عربية بعد الجزائر. ويؤكد على أنّ النزاعات الحدودية ما زالت قائمة هنا وهناك بسبب عدم دقة العلامات الفاصلة، لكنها نزاعات ذات حدة خافتة رغم التوترات الحالية بين قطر والسعودية. الغريزة الإقليمية لدى الإنكليز والفرنسيين كانت قوية جداً في تلك اللحظة من تاريخ الشرق الأوسط. ما كان مجرد رسم إقليمي أثناء القتال، أضحى حقيقة بعدما وضعت الحرب أوزارها. هكذا، فإن تطبيق سايكس بيكو التي شابها الكذب والخداع، لم يتم كما كان متفقاً عليه بالضبط. تغيرت موازين القوى على الأرض من دون أن نشهد صراعاً مفتوحاً بين الفرنسيين والإنكليز. فقد تحملت باريس قانون الأرض الذي فرضته لندن. ويتناول المبحث قيام دولة الكيان الصهويني والعنف المنظم الذي مارسته ضد الفلسطينيين،‮ ‬ثم الحروب التي خاضتها الدول العربية ضد إسرائيل،‮ ‬واصفاً السياسة الإسرائيلية في المنطقة مستخدماً مصطلح «القتل السياسي» ‬الذي كان ولا يزال يهدف إلى إبادة الشعب الفلسطيني بطريقة ممنهجة ومستمرة‮.‬
يربط هذا المبحث بين العنف الإقليمي نتيجة ترسيم الحدود المصطنعة التي أرساها الاستعمار الأنغلوفرنسي، والعنف الايديولوجي الذي يمثل مأساة الشرق الأوسط. إذ تبنت معظم السلطات إيديولوجيات حصرية بعيدة عن الآخر الذي غالباً ما يكون منتمياً إلى أقلية عرقية أو دينية، بحيث يتم التعامل مع ملف التعددية بأكثر الطرق وحشية، ويصل الأمر إلى حد إنكار الهوية والتطهير العرقي. يذهب الكتاب إلى أنّه عادة ما يلتصق العنف الإيديولوجي بمسمّيات لم تؤسس له. عنف القومية العربية ملتصق بالعرب عموماً، وعنف تيارات الإسلام السياسي ملتصق بالإسلام، وعنف الصهيونية ملتصق باليهودية. وسائل كثيرة تم استخدامها، وما زالت تستخدم من أجل طمس ذلك الاختلاف الذي ينظر إليه على أنّه خطر تخريبي أكثر من كونه عاملاً قوياً للثراء الثقافي. استشهد الكتاب بسمير قصير حول ضلوع السعودية في تبنّي تيار الإسلام السياسي: «سمير قصير يذهب للتأكيد بوضوح ومن دون لف ودوران: المملكة العربية السعودية حققت هي نفسها تقدماً تقنياً كبيراً، ولكنها تساوت من الأسفل مع تركيبتها الأكثر انعزالاً وتخلفاً ثقافياً.
يصف السياسة الإسرائيلية في المنطقة بـ «القتل السياسي»
منطقة الحجاز غرب شبه الجزيرة العربية حيث ولد الإسلام، تلك المنطقة التي ظلت متماشية مع سوريا لعدة قرون، تساوت من الأسفل مع باقي العالم العربي ووجوه النساء اللواتي قامت بتصديرهن في كل مكان هي الأكثر الأدلة بؤساً على ذلك». كما يشير الكاتبان إلى ذروة تمدد الإسلام السياسي عقب ما سمّي بالربيع العربي، بخاصة الإخوان المسلمين في مصر، وحركة «حماس» في غزة. إلا أنه يذهب إلى أنّ حزب الله «ظل منخرطاً في المقاومة ضد إسرائيل التي اضطرت عام ٢٠٠٠ إلى إخلاء جنوب لبنان تحت وطأة ما كبدته إياها الميليشيا المسلحة. منذ ذلك الحين، يلعب «حزب الله» في اتجاهين: اتجاه المقاومة الخارجية والردع الداخلي، واتجاه حزب سياسي بوظيفة قيصرية في تحالف الثامن من آذار ٢٠٠٥. رغم ذلك، فمع اندلاع الثورة السورية، ومع كون مقاومة إسرائيل هي أولويته رقم ١، أصبح لـ «حزب الله» أجندة أخرى تتمثل في الانخراط عسكرياً إلى جوار قوات النظام السوري لمحاربة متشددين وتكفيريين». ويخلص المبحث إلى أنّ نزع فتيل العنف الإيديولوجي والخروج من دائرة العنف الإقليمي لن يكون إلا بعودة السياسة بتنوعاتها الدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية بما يمكن أن يمنح باباً للخروج لذلك الخليط من الإيديولوجيات الشرسة التي استمرت وقتاً طويلاً.
في الفصل الرابع، يستعرض الكتاب التطهير العرقي والتمييز الطائفي والديني في الشرق الأوسط، ومظاهر الاضطهاد السلطوي التمييزي الذي وصل إلى حدود التطهير العرقي والإبادة الجماعية كما في حالة المذابح الجماعية للأرمن، سواء في المجزرة الأولى حين أبادت الإمبراطورية العثمانية حوالى مليون أرمني بعد التخطيط بمعرفة حكومة تركيا الفتاة بين ١٨٩٤ و١٨٩٦. وكان ذلك بأوامر مباشرة من السلطان عبد الحميد الثاني، أو ما لاقاه الدروز والعلويون، والشيعة والمسيحيون من اضطهاد في مناطق تقع على الأطراف: مناطق جبلية في سوريا ولبنان (الدروز والمسيحيون)، مناطق ترع ومستنقعات في البصرة (شيعة العراق). ويصل المؤلفان إلى أنّ هذه الانقاسامات ليست دينية بقدر ما هي متوقفة على العلاقة مع السلطة والمكانة الاجتماعية. حتى عندما حاول الإمام موسى الصدر عام ١٩٧٠ إيجاد ظروف معيشية أفضل تعيد الكرامة للمواطنين الشيعة في لبنان، فإنّه أطلق على الجمعية التي أنشأها لهذا الغرض «حركة المحرومين». وهو إن دل على شيء، فعلى موقف الشيعة في لبنان كما في أماكن أخرى. يحاول الكتاب هنا التعرف إلى هوية كل الأنظمة المستبدة التي هي ثمرة ــ وغالباً فاعلة ــ في العنف، ومحتكرة للأيديولوجيات العنيفة من أجل تحليل آليات تشغيل وعناصر بقاء تلك الأنظمة التي تمارس جميعها الإنكار السياسي. وإذا كان يمكن استثناء إسرائيل من ذلك الإنكار داخل «حدودها»، فإنّ هناك الكثير مما يمكن قوله عن معاملتها لفلسطينيي الداخل بينما تتآكل الأراضي الفلسطينية بشكل متزايد وينتهك فيها العديد من الحقوق الأساسية. هذا الجانب يحيل إلى معركة ممتدة منذ قرون ساهم المجتمع الدولي في الإبقاء عليها داخل مزيج يجمع بين التدخل في شؤون داخلية والتهرب اللذين يعدان من الأمراض السياسية. انسحاب الدبلوماسيات التي يُفترض أن تؤدي دورها كوسيط سياسي يسهل الأمور، بل الحضور غير المتوازن لعدد من اللاعبين الأساسيين على رأسهم الولايات المتحدة، هما وجهان لمشكلة واحدة: غياب دبلوماسية عادلة وفعالة قادرة وحدها على إعادة ترتيب الأوراق بشكل إيجابي.
في المبحث الخامس والأخير من الكتاب، يذهب المؤلفان إلى تفضيل منظور القانون الدولي واستخدامه كأداة لتوضيح ما يقوم به اللاعبون. علماً بأنه في هذا العمل، لم تتم معاملة كل الكتل الفرعية في الشرق الأوسط بالكثافة نفسها. نجد العلاقة بالقانون الدولي تتسم بالتعقيد اللامتناهي، سواء من خلال النسبية الجوهرية للمعيار أو من خلال عدم تكافؤ القوي الذي لم يتوقف عن زعزعة استقرارها. في هذه اللعبة الكبرى، كان للولايات المتحدة دائماً الدور القيادي، إلى درجة أننا لا نستطيع تحليل مدى فاعلية القانون الدولي في الشرق الأوسط من دون الأخذ في الاعتبار نواياها الاستراتيجية وعلاقاتها الوثيقة بإسرائيل. في ظروف كهذه، ليس مستغرباً أن نرى الأمم المتحدة مهمشة واستخدام الاتفاقيات طبقاً للأهواء والمصالح، وطبعاً تجاهل العدالة الجنائية. يستعرض الكاتبان مظاهر تهميش الأمم المتحدة كحق الفيتو الذي يستخدم سلاحاً ضد القانون، أو قرار الأمم المتحدة ٢٤٢ (انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها عام 1967) الذي اعتبره الكتاب نصف قرن من المماطلة، أو القرار ٦٧٨ (صدر عام 1990 مجيزاً لمجلس الأمن الدولي استخدام كل الوسائل، بما فيها الحربية، ضد العراق ما لم يسحب قواته من الكويت) كمثال على ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، وصولاً إلى احتقار القانون الدولي من قبل الولايات المتحدة حين غزت العراق عام ٢٠٠٣.