برهان شاوي


لكل كتاب سيرة وتأريخ حمل وولادة كالبشر تماماً.. لكن تأريخ الكتاب ليس بيولوجياً وعضوياً، وإنما حركة تتوغل بعيداً في أعماق الطفولة، وتجارب الصبا والشباب، والتحولات النفسية والفكرية والجمالية لصاحبها.. لا سيما إذا كان الكتاب أدباً، شعراً أو سرداً روائياً أو قصصياً أو حواراً مسرحياً. لأن في هذه الأجناس تتدفق الكلمات والأفكار والاستعارات والصور الفنية وتتطاير كالفراشات أو كأمواج الشاطئ أو تتفجر كالبراكين.. من الأعماق.. أعماق النفس الغامضة.
حين التفت الآن إلى الوراء بحنين وليس بغضب كما عنون الكاتب المسرحي الإنكليزي جون اوزبورن أحد نصوصه الشهيرة.. وذلك بعد إصدار 36 كتاباً في مختلف مجالات الأدب والفن والترجمة والدراسات الأكاديمية، أجد ذلك الفتى الذي كنته آنذاك.. أجد الفتى النحيل.. العاشق للعالم الروائي والفلسفي والحافظ للشعر.. متذكراً أول نص شعري كتبته ونشرته في صحيفة محلية.. وكنت حينها في مدينتي (الكوت) التي تبعد عن بغداد قليلاً.. حيث أذكر أنني حينها اشتريت أكثر من خمس نسخ من تلك الصحيفة.. وكنت أمشي في شوارع المدينة وكان الجميع يحتفون بي وينظرون لي بإعجاب، وأنهم جميعهم قد قرأوا قصيدتي وأنها أعجبتهم.. لكن اكتشفت أوهامي في ما بعد! ولم أضمّ هذه القصيدة لمجموعتي الشعرية لأني وجدتها قصيدة ساذجة.. بل ونسيتها تماماً.. والآن وأنا أخط هذه السطور لا أتذكر حرفاً منها.. لكنها شبح قصيدة مر في ذاكرتي!
عام 1983 صدرت مجموعتي الشعرية الأولى التي كانت بعنوان «مراثي الطوطم». وكانت الكتاب الأول الذي ينشر لي. لكن هذه المجموعة كانت تضم مجموعة من قصائدي التي كتبتها خلال عشر سنوات..أي أنها تضم قصائد كتبت عام 1973 وعام 1975 وما بعدها وصولاً إلى قصائد كتبت في بيروت عام 1979 حينما هربت من العراق مشياً على الأقدام إلى سوريا وصولاً إلى بيروت.
كان المشهد الثقافي في العراق في السبعينيات منقسماً وفق مقاسات المشهد السياسي. هناك شعراء ينتمون إلى الحزب الشيوعي ولهم صحيفة «طريق الشعب»، ومجلة «الثقافة الجديدة». وهناك الشعراء الذين ينتمون إلى حزب البعث والسلطة، ومَن يبتعد خطوة عن هذين الحزبين، سيضيع ويهمش ويلغى لما لهما من حضور. فللحزب الشيوعي هيمنة تاريخية على الثقافة العراقية التقدمية لحزب البعث المال والسلطة والمناصب والمكافآت السخية. وهكذا تصعلك بعض الشعراء الذين كانت لديهم مواقف تقف على يسار الحزب الشيوعي وترفض الجبهة الوطنية التي دخلها الشيوعيون مع قتلتهم في عام 1963 أصحاب الانقلاب الفاشي والقمصان السود! وقد كان لي بينهم أصدقاء التقيتهم في بيروت بعد وصولي إليها أمثال آدم حاتم، وحيدر صالح، وغيلان، والقاص سمير أنيس! وفي العراق نفسه، كان هناك بعض الشعراء الذين عانوا من احتضان الحزبين للشعراء وعددهم ليس قليلاً. والغريب بعد عقدين أو ثلاثة، نجد أن الكثير من الأصوات التي تم احتضانها والترويج لها سياسياً، قد صمتت وتألق المهمشون بإبداعتهم الأصيلة في المنافي.
والحقيقة أن هذه المرحلة لم يتقرب منها أحد باستثناء الشاعر والباحث شاكر لعيبي في كتاب له عن الثقافة الفاشية في العراق. وبدأت كتابات ودراسات تظهر في العقدين الأخيرين تقترب من هذا الأمر. وقد كنت قد تناولت ذلك في مجموعة مقالات لي صدرت تحت عنوان «أزمة الثقافة الفاشية في العراق».
ضمت موضوعات ذات نبرة وجودية تدور حول جدوى الحياة، إلى جانب الخيبة التي هي تحصيل للتجربة السياسية الدامية

قصائدي التي كنت قد كتبتها خلال عقد السبعينيات، لم أستطع أن أنشر سوى بعضها في العراق. نشرت منها في مجلة «الطليعة الأدبية» من خلال علاقات صديقي الشاعر الراحل رعد عبدالقادر. وكذا الأمر في مجلات أخرى. لكني أيضاً نشرت مجموعة من القصائد في المجلات العربية مثل «الآداب» اللبنانية، و«الموقف الأدبي» السورية، و«أدب ونقد» المصرية. وهكذا. وحينما وصلت بيروت، أخذت أنشر قصائدي القديمة في الصحف الفلسطينية واللبنانية!
غادرت بيروت إلى موسكو في منحة لدراسة السينما. وصادف أن التقيت في براغ صديقي الراحل الفنان رحمن الجابري، فأخذ على عاتقة خط ورسم مجموعة من قصائدي التي منحتها عنواناً هو «مراثي الطوطم»، وهو عنوان قصيدة في المجموعة، لأني منذ عام 1973 كنت أكتب «مراثي» غنائية. وفعلاً، صدرت مجموعتي الأولى عن «رابطة الكتاب والصحافيين والفنانين الديموقراطيين العراقين» في ألمانيا الاتحادية. طبعة متواضعة، جميلة، بخط يد الفنان الراحل رحمن الجابري مع مجموعة من تخطيطاته الرائعة.
حينها كنت في موسكو، والطباعة كانت فردية قام بكل مراحلها وتفاصيلها الفنان الراحل بنفسه. وتحمل تكاليفها أيضاً. ويمكن من خلال هذه التفاصيل، تصوّر صعوبة توزيعها وانتشارها. أتذكر الآن كيف أنه بعث لي عن طريق البريد ثلاثمائة نسخة من المجموعة، ووصلني إشعار بعد شهرين من قبل دائرة الجمارك. وهي دائرة تقع في الطرق البعيد النائي من موسكو حينها. ولم استطع أن أحصل عليها إلا بعد استجواب خفيف، حاولت إقناعهم بأن الكتب الموجودة في الطرد هي مجموعة شعرية، والروس يحبون الشعر، وقرأت للضابط مقاطع من قصيدة لبوشكين وأخرى لليرمنتوف كنت أحفظهما منذ فترة دراسة اللغة، فساعداني على إطلاق سراح مجموعتي الشعرية!
من الصعب الآن استعادة كل المشاعر التي راودتني وتأججت في أعماقي وأنا أفتح الكارتون وأتلمس أول نسخة لأول مجموعة شعرية لي، لأول كتاب صادر لي! فأنا الآن كمن ينظر إلى الثلج من النافذة، فيستشعر البرد! لكنه لا يستطيع أن يستعيد لسعة البرد الحقيقية نفسها.
«مراثي الطوطم» مجموعة شعرية غنائية تعتمد التفعيلة وتتوحد في لازمة المرثية لكن تتنوع موضوعاتها. وهي موضوعات ذات نبرة وجودية تدور حول جدوى الحياة، وانتظار السعادة، ومعنى الوجود الذي نتوحد معه، إلى جانب نبرة الأسى والخيبة التي هي تحصيل حاصل للتجربة السياسية الدامية.
بعد أربعين سنة من كتابة الشعر، وإصدار سبع مجموعات شعرية، وترجمة أربع مجموعات شعرية لشعراء روس كبار، والتوجه إلى الرواية وإصدار تسع روايات إلى الآن، إلى جانب انهماك مهني خلال هذه العقود بالصحافة والسينما والمسرح والصحافة والدراسات الأكاديمية في مجال الإعلام وعلوم الاتصال والتدريس الجامعي، أنظر الآن إلى تلك المجموعة بحنين خاص، وأجد فيها انطلاقة انحناء الأفق.
صحيح أنني ابتعدت عن تلك الغنائية الرومانسية التي كانت تهيمن على عالمي الشعري، حيث الإيقاعات تتداخل وتصطخب في أعماقي:
*مرثيــة الشــرفـة البغــداديــة
مـا بالــهُ هـذا البهــيُ الجمــيـل
لا يرشـقُ الشرفـةَ بالأزهـــــار
ولا يغـنـــي تحـــتَ شّــباكـنـــا
ولا يُفيـضُ الحـزنَ في القيـثار
...................................
مـا أوحـشَ الشرفة من دونــه
مـــا أوحـــــــشَ الأشـــــجار
بغـداد - 1975
لكن كنت في أشد حالات التوتر السياسي أحتفظ بتلك الغنائية الإيقاعية الظاهرة في تلك القصائد. مثلاً:
*هـامـــــــــش
يا أيها المبحرُ في الاحزانْ
ها هي ذي الراية..
الفرسانْ
قد سقط البعضُ..
وبعضُ..
عانقَ النسيانْ
لم يبقْ غير الفقراء..
والدم الطري
والسجان!!
بغداد - 1973
اليوم وأنا أعيد قراءة هذه القصائد استذكر مقولة ت . إس. إليوت عن الشاعر في العشرين، حيث أنه بما معناه سيقضي عمره يلتف ويدور ويطور ويحفر في النص الذي كتبه في العشرين من عمره! فموضوعات وأفكار حول الموت وحول ملل وتكرار ولا معنى الأشياء ستتكرر لاحقاً في معظم النصوص الشعرية التي كتبتها وكذلك ستكون البؤر الغامضة التي حولها تدور أعمالي الروائية. وهذا ما انتبهت إليه وهو أنني توجهت إلى الرواية بروح الشاعر.
لا أعرف القيمة الإبداعية لتلك المجموعة الشعرية الأولى، إذ أن سوء توزيعها في وقت صدورها حال دون أن يتم الانتباه إليها نقدياً، لا سيما أنها مجموعة قصائد غنائية تمضي بعيداً عن النمط السائد من الكتابات الشعرية في السبعينيات والثمانينيات، لا سيما بعد هيمنة الترجمات العديدة للشعر الفرنسي وإعادة استهلاك رامبو وسان جون بيرس وهيمنة القصيدة المتحررة من الوزن والتي يطلق عليها «قصيدة النثر»!
في عام 2010، أعدت طباعة تلك المجموعة في بغداد. وبعد أشهر غادرت العراق. وكنت قد أصدرت بعد تلك المجموعة ست مجموعات أخرى. لذا، بعد صدور الطبعة الثانية من «مراثي الطوطم»، كتب النقاد عن نصوصي الشعرية ككل، أي ما صدر منها حتى ذلك الوقت. وتم التوقف عند قصائد مجموعتي «مراثي الطوطم» باعتبارها تشكل بدايتي الشعرية الغنائية!
خلال السنة الأخيرة، نشرت العديد من قصائد تلك المجموعة على صفحتي في الفيسبوك، فاستغربت أنها لاقت استجابة طيبة وأحياناً تعليقات مبالغاً فيها كأنني كتبتها تواً، لكني لا أعول على ذلك.
وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عاماً على صدور مجموعتي الأولى «مراثي الطوطم» وأكثر من أربعين عاماً على أول قصيدة فيها، إلا أنني أنظر إليها بأنها أنا وأحن لها وأعتز بها جداً.