محمد خضير


حافظتُ على درجة الحرارة التي كتبتُ بها قصص مجموعتي الأولى «المملكة السوداء» كي توافق تفاصيل نشرها في صيف عام 1972. أتذكر جيداً كيف خرجت المجموعة من سباتها كما تخرج عظاءة من شقها في جدار متهدم. أما درجة الحرارة التي تناسب كتابتي فقد ثبتت عند الدرجة 45 مئوية رغم تغير الفصول. وقد نصصتُ على الدرجة عينها في مقدمة مجموعة قصصي الثانية، الصادرة بعد سبع سنوات من صدور «المملكة».
صدرت لي أربع مجموعات أخرى من القصص خلال أربعين عاماً، وفي أي منها كنت أبدأ النص الجديد وأنهيه ثم أنشره بالاستعداد نفسه الذي كتبت به «المئذنة» أول نصوص «المملكة السوداء». استبعدتُ عشر قصص مبكرة من النشر في المجموعة الأولى، واستبقيت ثلاثة عشر نصاً كتبتها بين الأعوام 1966-1972 مثّلت خطواتي الحارة الصحيحة التي رسمت مساري السردي بثبات. ومن موطن إقامتي في البصرة اعتبرتُ اعام 1966 سن الرشد الذي منحني وأقراني من سكان المحافظات حق الانتظام في مملكة الساردين. كان ذلك العام مفصل التحول الستيني في القصة العراقية (مثلما كان العام الذي تلاه 1967 قلب التحول في القصة العربية). إلا أن عالم "المملكة" نأى بنفسه عن الهوس الستيني بالاستعراض الذاتي، وتشريح الكآبة النفسية، وانهيار المد الأيديولوجي التاريخي؛ وولد بعيداً عن مواقع الاصطخاب والعلاقات المفككة في قلب العاصمة بغداد. ولم يهدأ فوران العقد الستيني إلا في نهاية العقد السبعيني (1978 ـــ1979) عندما اصطدم الجيل الضائع بحاجز العنف السلطوي، وابتدأت حينذاك بوادر الهجرة خارج العراق. ومن أجل سداد ديون الأدباء عليها، نشطت وزارة الثقافة والاعلام بنشر آخر مجموعات قصص الجيل السابق، وأفضلها قاطبة صدر قبل اندلاع الحرب مع إيران.
خلال هذه الفترة (خمسة عشر عاماً من عمر الحقبة الستينية) كنت مثل ذئب وحيد لم يقترب من حدود المدن الجريحة التي لم يُدوَّن تاريخها إلا في نهاية القرن العشرين، وأعلنت حقائقها في كتب المذكرات والسير الذاتية لقادة الأحزاب وساسة المرحلة الذين مارسوا أدواراً شتى في أوساط الثقافة والصحافة خلال تلك الفترة المغدورة من تاريخ العراق السياسي.
كتبتُ قصص «المملكة السوداء» في أثناء خدمتي التعليمية في محافظتي الناصرية والديوانية ثم في أرياف البصرة، ولم يستقر مقامي في مدينة "الجاحظ" حتى الربع الأخير من القرن الماضي، الذي سرعان ما دهمته حروب الخليج الثلاث. ولا يعني هذا الاحتياط في وصف علاقتي بالوسط الثقافي والسياسي، أني لم أتلق حصتي من الأذى السلطوي الذي شمل معظم الأدباء والمثقفين اليساريين في العراق. لقد أوذيت في وقت مبكر من السنوات الستينية الغاربة، بعد تخرجي من الدراسة الثانوية، فاعتقلت في سنوات حكم البعث الأول، ثم عشت الرعب في مهب سلسلة حروب آخر القرن.
كتبتُ قصص «المملكة السوداء» أثناء خدمتي التعليمية في محافظتي الناصرية والديوانية ثم في أرياف البصرة

بعد ذلك الأذى المبكر للأجساد والمشاعر فصمتُ علاقتي برفاق المرحلة الأوفياء، لكني احتفظتُ بحرارة السنوات الثابتة تحت جوانحي، مثل أغنية في صَدَفة بحرية، لم تتغير درجة وفائي لها حتى اليوم. ما زلت أقدّس الصداقة، لكني بعد فوات ذلك التاريخ لم أعد صديقاً وفياً إلا لأولئك الأغراب الذين جمعتني بهم عربات القطار ومحطاتها وحافلات السفر، أولئك المسافرون المتعبون الذين تقاذفتهم مواطنهم الأصلية مثل كائنات ملعونة لا تستقر في مكان. هؤلاء جميعاً دخلوا قصصي منذ عام 1962، تاريخ نشري أول قصصي عن «النيسانيين» وهم الفلاحون الأجراء في المزارع وقت حصاد القمح. وبعد انقراضهم واقتلاعهم من حياتي المتنقلة كانتقالهم، صاروا ينتظرون دخولهم قصصي الأخيرة كما دخلوها أول مرة. إنهم أصدقائي الوحيدون، اللامسمَّون، ولم أعترف بغيرهم أبطالاً أفتخر بصداقتهم. ولقد عزمت مع نفسي ألا أنشر قصة لصيقة بوجداني المطارد بهواجس الصداقة والوفاء، بعد تلك القصة المبكرة، تسيء إلى ظلالهم المنتظرة على حافة الواقع المديني المضطرب. ولا أعرف كيف خنت عقدي التضامني معهم حين قررت نشر قصص «المملكة» بعد عشر سنوات كاملة، مستبعداً تلك القصة "النيسانية" منها.
أتذكر موقفين، أو لحظتين، سحبتاني من هواجس تلك المرحلة، سبقت إحداهما نشر «المملكة السوداء» ولحقت الأخرى تاريخ نشرها. التقيتُ في عام 1971 الناقدين الدكتور علي جواد الطاهر والدكتور عبد الإله أحمد، في فندق بالبصرة، عند وفودهما مع ضيوف مهرجان المربد الشعري الأول. في تلك الليلة الربيعية تحدثت إليهما حتى وقت متأخر، وكان تهذيبهما الراقي يمنعهما من مقاطعتي فتدفقتُ كشلال. كنت أمامهما كاتباً غرّاً يسفح مكبوتاته دونما احتساب وتفكّر. امتلأت أحداقهما بتقاطيع حديثي وصراحته، واقتنعا على مضض بأسباب ترددي في نشر قصصي في كتاب. قلت لهما إني أشعر بالانكماش والعزوف عن احتفاء الوسط الادبي في العاصمة بنشر كتب أقراني والترويج لها بأي ثمن، وإني أفضّل الانحياز الى أبطال قصصي في إخفاء أصولهم، أكثر من الانتماء الى اللغط النقدي الذي يدور حولهم. وكنت أردّ بذلك على تشجيعهما لي وإنهاء ترددي في النشر. أخيراً استحسنا كلامي، وربما تعجبا من فرط تحسسي تجاه النشر الذي قالا إنه فرصة سانحة للظهور على جيلي بسمات سردية جديدة، وحرّكا في داخلي وتراً مشدوداً حتى أقصى توتره.
هاجرت قصصي وظهرت متفرقة في مجلات عربية (الآداب) إلى جانب اقتحامها مجلات عراقية طليعية (الكلمة) لكني اعتززت بنشر أول قصة من مرحلة «المملكة» في مجلة بصرية، تلك هي مجلة «الفكر الحي». كنت أتعزّل هوس الطلائع الأدبية التي تزعمت الصحف الكبيرة والمقاهي الأدبية، وألقت بنفاياتها الكثيرة إلى ساحل الجيل المتمرد على واقعه الاجتماعي وسلطته الأيديولوجية. عندما عاد «الطاهر» إلى بغداد كتب كلمة نشرتها جريدة الجمهورية تحت عنوان «محمد خضير وحده» وكانت سبقتها كلمة له عن الجواهري بعنوان «الجواهري وحده». ذكرني «الطاهر» كثيراً في مجالسه وحواراته الصحافية، إلا أنه تجاهل «المملكة» في مقالاته. ومثله الناقد عبد الاله أحمد الذي تحول إعجابه بقصصي الأولى الى إعراض وجفاء تجاه قصصي الأخيرة. لم يطيقا مواكبة خطواتي العجلى، وهي تبتعد عن الينبوع «الخمسيني» الذي جفّت مياهه وخفّت ريادته، وكان الاثنان يفضلان أن تستظل قصصي بصرح الماضي الجميل الذي عايشاه وارتادا حقله الواقعي الأليف طويلاً. وحذا حذوهما نقاد نظروا الى نصوصي ونصوص قصاصين آخرين (مثل محمود جنداري) على أنها مثال لتعطيل المهارة التي بدأنا بها قصصنا الواقعية المختلفة عن قصص جيلنا المتمرد. كان هناك نقاد في كل مرحلة، يفتقرون الى النظرة المتفحصة لمصادر التنوع السردي لكل قاص تتراءى أخيلته سارحة وراء بيادر القش الموسمية، ويصمّون السمع عن النبرة السردية الخافتة في هارموني القطائع التاريخية العنيفة. وأعتقد أن الصمم النقدي وعشوّه يرجعان أساساً إلى اختلال العلاقة البنيوية بين النص الأدبي والتلقي القاصر لتجنيساته العابرة حساسية المراحل الموسمية.
ترددتُ في نشر «المملكة السوداء» حتى عام 1972، حينما ظهرتْ بطبعتها الأولى في شهر آب (أغسطس) من ذلك العام، وكان وراء ظهورها الأول القاص موسى كريدي، عندما كان مسؤولاً عن النشر في وزارة الثقافة والإعلام. أتذكر أني اشتريت نسختي الأولى من بائع صحف يفترش رواق شارع الرشيد، ورجعت بها مسرعاً إلى فندقي. كانت ليلة قراءة النسخة الكاملة من تلك الطبعة (بغلافها الذي صممه الفنان عامر العبيدي، من أشكال خيوله المعروفة على خلفية سوداء وخضراء) أسوأ ليلة في حياتي، راودتني خلالها فكرة الانتحار. لقد شوّهت بضعة أخطاء مطبعية خلقة المولود المرتقب، وألقت بنشوتي إلى الحضيض. ذهبتُ الى موسى كريدي في اليوم التالي في حال من الأرق والكمد وأخبرته بالأخطاء. كان ردّه جميلاً وكريماً، وكذا كان استقبال مدير المطبعة (مطبعة الحرية) وعمالها أجمل وأكثر كرماً. عملوا معاً على طبع صفحة إضافية بتصحيح الأخطاء - وكانت كثيرة حقاً- بحروف صغيرة مرصوصة، ولم أعرف كيف دُسّت هذه التصحيحات في الكتاب الذي جرى توزيعه في الأسواق. ذلك ما جهلته حتى اليوم، وأهملته خلف تفصيل ذكرى تتعلق بانتظار أول مطبوع بلوعة وأمل لا يوصفان. وما زالت لذة انتظار مطبوع يصدر لي تداني عندي لذة إنجاز مخطوطته، بل تفوقها بدرجات من النشوة. تعلمت من ذكرى الطبعة الأولى لـ «المملكة السوداء» كيف أقاوم لحظة الاحباط والانفصال والغربة التي تعقب لحظة الانتشاء بظهور المطبوع من دار طباعته.
كتبتُ كثيراً عن مضامين قصص «المملكة» وشرحت أحوال كتابتها في أكثر من مناسبة، وأهم هذا الكثير مقالة بعنوان «البدايات»، إضافة الى حوارات متفرقة، إلا أن ما ذكرته في هذا المقام عن لحظتين غاربتين اكتنفتا صدور المجموعة الأولى من قبل ومن بعد، مع ذكرى مبيت في فندق بمنطقة المربعة، وعبور بطيء تحت رواق شارع الرشيد من جهة (باب المعظم)، ثم دخول الى قبو الطباعة في دار الحرية، كلها ستسربل مناخ الكتابة والنشر أبداً بطابعها الصيفي القديم وروائحها القوية؛ ومن دون تلك المؤثرات العرضية، الآمنة والخطرة، لن يصدر كتاب ولا يشع جوهره ولا يستمر.