ما زالت مجلّة «بدايات» تقاوم مصرّة على البقاء وسط صعوبات كثيرة أجبرت مجلات ثقافية عديدة على التوقف عن الصدور. بيروت، عاصمة الثقافة العربية دائماً، صارت بلا مجلة ثقافية فصلية أو شهرية على نحو تقريبي. «بدايات» واحدة من الإصدارات التي نجحت حتى الآن في البقاء على قيد الحياة وهي تدخل اليوم عامها الخامس. ومثل الأعداد السابقة، نلقى في إصدار «بدايات» الجديد الشغل نفسه حول الملّفات المُكرّسة لفكرة «الثورات» العربيّة منذ العدد الأول. فـ «الثورات بشبابها» بحسب التبويب الدائم الموجود في كل «بدايات». من هنا يمكن الدخول في فكرة العدد الجديد من هذه المجلة التي يرأس تحريرها الكاتب اللبناني فوّاز طرابلسي. إنها فكرة «الثورة» بداية وعبر حوار مع جلبير الأشقر الباحث والأكاديمي اللبناني وصاحب كتاب «الشعب يريد ــ بحث جذري في الانتفاضة العربية». في الحوار معه، يحلّل الأشقر «المسارات المتفاوتة والمتلاقية للثورات العربية في عامها الخامس». سيكون هذا الحوار على هيئة مُقدمة للعدد المقبل من «بدايات» الذي سيأتي في جزء كبير منه ــ بحسب افتتاحية المجلة ـ لـ «مواصلة النقاش وتقييم تلك المسارات والرّدات المختلفة التي تعرضت وتتعرّض (الثورات) لها»، ولاحقاً مقاربة فكرة «الثورة» نفسها متجاورة مع فكرة «اليمن» التي تحتل مخيّلة فوّاز طرابلسي، كأنه اليمني الأخير، أو كأنه لا يريد أن ينسى «مواطنته» اليمنية، هو الذي كتب كثيراً عن اليمن وأقام فيه.
استحضار المطران غريغوار حدّاد وحسين آيت أحمد
هكذا نجد في العدد ثلاثة مقالات عن اليمن: تكتب وزيرة الثقافة اليمنية أروى عثمان (رفضت الذهاب إلى السعودية مع الحكومة اليمنية المقيمة هناك)، عن أرامل الحرب. تقول أروى: «مع كل فاتحة وصبح وانسدال قمر، يخفت دلع الأمهات والزوجات، ما بعد الحرب. لن نسمع: يا نظر عيوني، ويا كش من عيني، ويجعل يومي قبل يومك، وقوّي عظامك، فديتك، صح بدنك». هنا، تبدو كتابة الوزيرة نابعة من قلبها، هي التي تقيم في قلب مشروع الموروث الشعبي اليمني. في سياق مقالها الطويل، نرى تلك المفردات التي لن يفهمها قارئ غريب. كأن طرابلسي هنا، يثق في مقدرة القارئ على فهم اللهجة اليمنية، كأنها لغة العرب. أتت لغة عثمان محمولة على نبرة سردية جاءت خليطاً بين نبرة شخصية يسارية ملتزمة، ونبرة أُم تدرك تماماً معنى أن تفقد الأم أبناءها. في المقابل، كتب الباحث في الجامعة الأميركية في بيروت اليمني فارع المسلمي دراسة قارن فيها بين اتفاق الطائف اللبناني والمبادرة الخليجية اليمنية «بما هما إطاران لحل النزاعات الأهلية وحدثان فاصلان في حياة الشعبين اليمني واللبناني»، إلى جانب مقال ثالث لصاحب هذه السطور عن «الغناء في السياق الاجتماعي الصنعاني» عبر قراءة في كتاب الباحث الفرنسي جان لامبير «طب النفوس- في الغناء الصنعاني». عمل يقدم فيه لامبير تعريفاً هاماً لذلك الغناء وطقوسه المصاحبة التي منحته تلك الخصوصية التي يتسم بها.
وفي زواية «حضور الغياب»، تذهب «بدايات» لاستحضار حياة وأعمال راحلين هما المطران غريغوار حدّاد (1924 ـــ 2015) الذي حذر في مقال له في مطلع الحرب الأهلية اللبنانية «من دور تنامي الفوارق الاجتماعية في تفجير النزاعات الأهليّة المسلّحة»، في حين يحضر الغياب الثاني في شخصية حسين آيت أحمد (1926 ـــ 2015)، أحد القادة التاريخيين للثورة الجزائرية الذي عاش حياته حالماً باعتماد اللغة الأمازيغية لغة رسميّة في الجزائر «لكن شاءت مفارقة قاسية أن يبادر الرئيس الجزائري عبد العزيز بو تفليقة إلى إقرار هذا المطلب الأساسي بالنسبة إلى قسم كبير من مواطني الجزائر تكريماً للراحل بعد وفاته».
ولعلّه من اللازم هنا الإشارة إلى سمة ظلّت «بدايات» مستمرة عليها وتظهر على الشكل الإخراجي. تبدو مساحات واسعة من صفحاتها وقد اهتمّت بالتشكيل على نحو ثابت وأعمال الجداريات والغرافيكس التي ارتبطت على نحو وطيد بثورات «الربيع العربي»، وكانت حاضرة منذ شرارتها الأولى. وقد خُصص هذا العدد في جانب التشكيل والجداريات في آن للفنّان المكسيكي دييغو ريفيرا (1886 ــ 1957) الذي اشتهر اسمه بتلك الجداريات الملحمية وبأشغاله التي حاولت المزاوجة بين إعادة الاعتبار للثقافة الأهلية المكسيكية العائدة إلى حضارات ما قبل الاستعمار الإسباني، وبين تمجيد الحداثة الغربية وعلى وجه الخصوص ذلك الجزء الحامل لإمكانيات العدالة والتقدم. والمعروف عن ريفيرا كما زوجته الفنانة فريدا كاهلو حضورهما كيساريين مناضلين وملتزمين بقضايا الشعب والانسان. إطار كتبت فيه الباحثة والناقدة والمترجمة المكسيكية إيرمغالد أملهاينز التي نالت درجة الدكتوراه من «جامعة تورنتو» عن رسالتها «جان لوك غودار والقضية الفلسطينية».