■ في روايتك «في غرفة العنكبوت» محاولة للحفر في منطقة شائكة على المستوى المجتمعي... هل شعرت أنك مقدم على مخاطرة بالنبش في هذا الموضوع؟ ـــ لم تكن هناك مخاطرة على المستوى المجتمعي، الرواية موضوعها صادم لكنها – من حيث الأداء عموماً – غير صادمة، نستطيع أن نقول إنّها كانت مغامرة محسوبة. كنتُ أدرك أنني أنجز شيئاً مختلفاً ومهماً بالنسبة إليّ ولتجربتي مع الكتابة، لكني لم أشعر به كمخاطرة بالمرة.

■ يبدو هاني محفوظ، أيقونة ورمزاً للقمع المجتمعي ليس حيال المثليين فقط، وإنما حيال الاختلاف عموماً.. هل نستطيع القول إن هذه رواية (الأقلية) المقموعة أمام الأغلبية القامعة؟
ـــ تجنبتُ قدر ما استطعت أن أتعامل مع شخصيتي الرئيسية، هاني محفوظ، كأيقونة أو رمز لأي شيء، من شأن هذا أن يمنع هواء الحياة عنه. تعاملت معه كإنسان يتعرض لظروف خاصة، تضعه في قفص. باختصار هذه رواية هاني محفوظ الذي صادف أنه جزء من أقلية قمعها المجتمع، لكنه لا يمثل إلّا نفسه. ليت المعادلة هي أن هناك أقلية مقموعة أمام أغلبية قامعة، لكنها أعقد من ذلك كثيراً، ربما هي أقليات تضطهد بعضها بعضاً، وربما هي أغلبية واحدة تضطهد بعضها بعضاً، لست متأكداً. التشبث بالاختلافات بين الناس ومحاكمتهم بناء عليها حيلة كل مجتمع عاجز، وتذويب تلك الاختلافات أيضاً خطر آخر قائم. بعيداً عن الكلام الكبير يجدر بنا أن نبحث وراء سؤال أي تهديد يمثله لنا اختلاف الآخر عنا؟ هل هناك تهديد حقيقي أم أنها أوهامنا وبضاعة تجّار السياسة والعقائد؟ مجرد التساؤل قد يفضي إلى اكتشافات كثيرة.

■ استندت على حادثة «كوين بوت»، ورغم ذلك أكدت أنها خلفية بعيدة وأنك لا تنشد محاكاة الواقع... فما الداعي لاستحضارها هنا؟
ـــ الدراما هي الداعي، أولاً وأخيراً، ربما أردت أن أجعل منه جزءاً من حدث أكبر من حكايته، حدث صار الآن مهدداً بالنسيان طيّ التقارير الحقوقية والأوراق الرسمية رغم ما تركه من أثر فاجع في نفوس أكثر من خمسين رجلاً. حدث ما زال يتكرر حتى الآن ولو بصورٍ مصغرة، لكنها متواصلة، بعيداً حتى عن مباحث الآداب، إذ استطاعت إحدى المذيعات في برنامجها قبل شهور أو ربما سنة أن تشن غزوة مباركة على حمّام بخار بلدي وأن تقبض بمعاونة الشرطة على كل الموجودين به وأن تصوّرهم وأن تشعل الدنيا ثم انتهت القضية إلى لا شيء وخرجوا براءة... ما معنى هذا؟ ما طبيعة المجتمع والمؤسسات التي سمحت لهذه المذيعة بأن تلعب دور الشرطة الأخلاقية والمخبر والقاضي والجلاد معاً؟

■ تعرّض هاني محفوظ وآخرون معه لظلم ومحن كبرى... انعكس ذلك على نفسيته وصوته (صوته الفيزيقي، وصوته في عملية السرد)... ألمْ تخشَ أن يتحول هذا الصوت إلى عملية عويل ونواح ممتدة؟
ـــ هذا خوف دائم عند تناول أي موضوع له هذه الدرجة من حساسية المشاعر والصدمات النفسية والشعور بأنك ضحية. وزادَ هذا الخوف مع استخدامي لصوت الضمير الأول والسرد بلسان هاني محفوظ نفسه، وربما تكون الرواية انزلقت بالفعل إليه في بعض المواضع، لكن كانت عملية التحرير وإعادة الكتابة هي طوق النجاة في استبعاد كل شبهة ازدياد عاطفي قدر الإمكان. المشكلة ليست في أن تنصت لصوت رثاء للذات وتفجّع، بل أن تستطيب الاستماع لهذا الصوت، وألا يخدش أذنيك صراخه، ألا تشعر أنه مبتذل ومكرور مثل أغنيات النواح العاطفي؟ وتلك كلها أسئلة يواجهها الكاتب مرة بعد أخرى، ويحاول الإجابة عنها عملياً في سياق لعبته، وإجابته مرة تصيب ومرة تخيب.
ما هو البناء الكلاسيكي؟ هل هو بناء فلوبير أم أغاثا كريستي أم تشارلز ديكنز أم دان براون أم جون إرفينغ؟

■ تناقل صوت الراوي عبر خط الزمن في الحاضر والماضي البعيد والقريب... لماذا اخترت تقطيع خط الزمن بهذا الشكل؟ ما الذي أردت أن تقوله عبر هذه التقنية؟
ـــ اخترت تقطيع الزمن بهذا الشكل، لأنني ببساطة لم أجد شكلاً آخر أنسب. ورغم هذا حرصت – قدر المستطاع – ألّا تكون النقلات أزيد مما يجب أو محيّرة ومربكة، صار القارئ معتاداً على هذا اللعب بخط الزمن في السرد الأدبي وفنون الدراما المرئية عموماً، فلم تعد بالنسبة له عقبة في التلقي أو مصدر للدهشة. أحياناً لا يجب أن تقول التقنية شيئاً، يكفي أنها تؤدي الغرض، وكان من بين أغراض التقسيم الزمني للرواية هو شد خيط التوتر، بمعنى استمرار القضية والحبس والمحاكمة كخيط ينقطع ويتصل مغزولاً مع بقية خطوط العمل، خلفية حياة الراوي وقصصه الشخصية حتى وصوله إلى لحظة القبض عليه. بالنسبة إليّ الأمر بسيط للغاية: الرواية متواصلة من طفولة الرواي وحتى خروجه من السجن واستعادته صوته، يقطع هذا الخيط فصولاً تتصل بتجربة السجن. في كتابات سابقة، كانت هناك تصورات أكثر تشابكاً وتعقيداً للبنية تم استبعادها كلها.

■ هل نستطيع القول إنك اتخذت مساراً مختلفاً في الرواية الأخيرة، وانحزت للمرة الاولى في كتاباتك إلى بناء كلاسيكي خال من ألاعيب السرد وتقنياته لصالح عمق الشخصية والموضوع؟
ـــ عندي قصص قصيرة كثيرة تخلو تماماً من أي ألاعيب تقنية، وإن كانت تعتمد على ألاعيب أخرى. ربما نكون قد حبسنا فكرة الحرفة بمعناها الواسع داخل علبة صغيرة اسمها ألاعيب السرد، ثمة حرفة معقدة قادرة على إخفاء آثارها بحيث يظهر العمل بريئاً وبسيطاً كأنه كتب نفسه بنفسه، هذه من أعلى درجات الحرفة في ظني، ولا أدعى أنني بلغتها في «العنكبوت» ولكنها كانت من بين طموحاتي. طبعاً، انحزت للبساطة، ولكن ما هو البناء الكلاسيكي؟ هل هو بناء فلوبير أم أغاثا كريستي أم تشارلز ديكنز أم دان براون أم جون إرفينغ أم...؟ لا أظن أنه يوجد بناء كلاسيكي واحد نهائي، هي فقط فكرة يرتاح لها الأكاديميون. قصدي ببساطة كان ألّا أربك القارئ لكي يتجه بكل كيانه وحواسه ووعيه نحو حكاية شخصيتي، يعيش فيها ويتماهى بها، حتى يكاد ينسى أنه يقرأ رواية. إلى أي مدى نجحت في هذا؟ الله أعلم.

■ كيف تشرح المقولة التي رددتها في أكثر من حوار صحافي «الكتابة هي اللعب بمنتهى الجدية»؟
ـــ أظن أن شرح مقولة بسيطة وظريفة كهذه يحتاج إلى تأليف كتاب صغير، نذهب فيه وراء ظاهرة اللعب عند الأطفال والحيوانات ثم البالغين والفنانين، ثم نختبر معنى الجدية وهل هي تعني ولا بدّ الجهامة والتحجر أم الإخلاص والتوحّد بما نقوم به. ثم سنحاول بعد ذلك أن نستكشف أفق تلك الأفكار داخل كتابة نراها لعوباً أو تدّعي هي أنها لعوب.

■ تنحاز للقصة القصيرة أكثر من انحيازك للرواية، هذا ما تقوله سيرتك الذاتية، كيف ترى مساحة اللعب وإمكانات السرد في كلا الحقلين؟
ـــ كتبت قصص قصيرة أكثر مما كتبت روايات، وأظن أن هذا طبيعي في ظل ظروف كثيرة لا تتيح للمرء التفرغ وتكريس نفسه للعمل لساعات عديدة وهو ما يتطلبه إنجاز أي عمل روائي مهما بلغت بساطته. القصة، في المقابل، تحب تلك الفجوات الصغيرة التي تولد فجأة خلال زحام اليوم وضجيجه. هل هذا انحياز للقصة أم استجابة للظروف؟ لا يقلل هذا من قدر محبتي لفن القصة، لكنني لم أعد أفصل بحدة بين النوعين، لا من الناحية التقنية ولا من ناحية التلقي. المساحة المحدودة في فن القصة قد تتيح، وهذا هو المدهش في الحقيقة، فرص أعلى للتجريب، لكن القماشة الواسعة للعمل الروائي تفرض قدراً أكبر من التعقل والتريث قبل اتخاذ قرارات قد تودي بجهد سنوات في لمح البصر. وفي النهاية ما أكثر القصص التقليدية وما أكثر الروايات التي تشطح وتلعب وتجرب، بصرف النظر عن نجاح هذه أو تلك. وربما لا أكون الشخص الأنسب للحديث عن هذا.

■ وماذا عن الترجمة؟ قلت مرة إن الترجمة هي «التبرع بدم الكتابة للغرباء».. لماذا تتبرع به؟
ـــ الأمر أوضح من أن يحتاج للسؤال، أنا أعيش من الترجمة وليس عندي وسيلة أخرى غيرها لأكل العيش.
■ حصلت على جائزة الدولة التشجيعية في حقل الترجمة، بمَ تختلف هذه الجائزة عن باقي الجوائز الأخرى التي حصدتها ؟
ـــ كانت فرحتها كبيرة، لأنها أول جائزة في الترجمة، والمنافسة في هذا الحقل جديدة وغريبة عليّ، رغم أنه عملي الأساسي، ثم إنني كنت قد نسيت تقدمي لها تقريباً منذ نحو عامين قبل إعلان النتائج. وكان لها أيضاً مغزى آخر مهم بالنسبة لي وهو أن تعبي وحرصي (أغلب الوقت على الأقل) على إنتاج عمل مترجم جيد لم يذهب هدراً تماماً وأنه لُوحظ وكُوفئ.

■ هل تؤمن بمفهوم الأجيال الأدبية؟ هل هناك اختلافات جوهرية في عملية الكتابة (على كل المستويات) بين الجيل الأحدث من الكتّاب المصريين وبين الأجيال السابقة؟
ـــ لا أرتاح لهذا المفهوم، ربما لأنه أقرب إلى تقسيم الرتب والدرجات والمناصب في المؤسسات الحكومية والدينية. من المؤكد أن هناك اختلافات تمليها اللحظة والظرف بين الأجيال المختلفة ولكن تظل هناك خيوط ممتدة عابرة لكل الأجيال، وهو ما ينتج مفهوماً أقرب إليّ هو مفهوم العائلات الفنية، ليس بمعنى صلة الدم وأبناء الفنانين طبعاً، ولكن بمعنى شعور كاتب ما بانتمائه لعائلة فنية ممتدة من أوائل تاريخ الأدب وحتى الآن، وهي ليست مدرسة أو مذهب أدبي كذلك، ومع ذلك فثمة ما يجمع مارسيل بروست بجميس جويس وإدوار الخراط، ما هو هذا الخيط الممتد؟ هذا دور النقاد والباحثين بطبيعة الحال.

■ قدمت على مدار سنوات ورشة «الحكاية وما فيها» لكتابة السرد الروائي والقصصي.. كيف ترى جدوى تلك الورشات؟ كيف تقيّم التجربة؟ وما هي أبرز ملامح التدريبات أو الممارسات العملية في الورشة؟ وماذا عن كتابك الذي حمل نفس الاسم (الحكاية وما فيها)؟
ـــ أرى بكل تأكيد أن لها قيمة كبيرة، وأنها كانت من بين الأحجار التي حركت المياه الراكدة في الواقع الأدبي خلال السنوات القليلة الماضية، لكني ما زلت أؤكد أنها لا يمكن أن تصنع كاتباً، غاية ما هنالك أن تدله على الطريق، وعليه وحده أن يصنع هذا الطريق ويقطعه بالكتابة والممارسة والمحاولة. شخصياً استفدت الكثير من تجربة الورشات، على المستوى الفني والمستوى الإنساني والنفسي كذلك، وأتمنى أن أكون قد تركت أثراً ولو هينّاً في وعي ونفس كل من شاركوا في هذه الورشات. الأمثلة على التدريبات والممارسات العملية كثيرة، قد لا يتسع لها المجال هنا، وقد تجد منها الكثير في كتاب «الحكاية وما فيها» الذي أعتبره ورشة مكتوبة ومقروءة، وإن كانت تفتقد لطابع التعامل المباشر بين المدرب والمتدربين.

■ خضت تجربة الإقامة الفنية لمدة ثلاثة شهور في جامعة آيوا.. كيف تقيم هذه التجربة؟ وهل تنصح الكتّاب الشبان العرب بخوضها؟
ـــ كانت الفترة شهرين ونصفاً، المدة الأكبر منها في ولاية آيوا، وبقية الأيام موزعة على ولايات مختلفة، السفر تجربة مثرية إنسانياً بلا شك، والاحتكاك بكتّاب من ثقافات ولغات وخلفيات مختلفة يزيد التجربة ثراءً، من ناحية هي حالة تغيير جو وإنعاش للحواس وابتعاد عن الروتين المعتاد، ومن ناحية أخرى فيها درجة من استنزاف الطاقة غير المباشر، استنزاف طاقة الإبداع الذي يتغذى (عند بعض الناس، وفي بعض الأوقات) على الاستقرار والإيقاع اليومي والنظام. علاوة على ذلك، فهم هناك سينتظرون منك أن تكون ممثلاً لبلدك ومجتمعك، قد يستدرجونك لأحاديث سياسية لا تميل لخوضها، ليس لأنك غير مهتم ولكن لأنك قد لا تكون الشخص الأنسب للحديث عنها، لست خبيراً سياسياً أو ناشطاً أو أي شيء من هذا، لكنهم – وخصوصاً إذا كنت من دولة عربية أو منطقة مضطربة أو عالم ثالث – يتوقعون منك أن تلعب أدواراً شبيهة بهذه. فإذا كان لا بد من نصيحة لا أشجع هذا النوع من السفريات لمن لا يحب الخوض في أحاديث السياسة عمّال على بطّال، ولمن لا يمثّل شيئاً إلّا ذاته. عدا ذلك فالسفر مفيد.

■ عُرفت بكونك حاصداً للجوائز الأدبية. وصلت إلى قوائم البوكر وفزت بجائزة ساويرس أكثر من مرة، وجائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب وغيرها من الجوائز.. أي قيمة تضيفها الجوائز للمبدع ولإبداعه؟ وكيف ترى الضجة المصاحبة للجوائز العربية مع كل إعلان للنتائج؟
ـــ كل جائزة، في الأدب أو الترجمة، صغيرة أو كبيرة، هي دفعة تشجيع وقُبلة إنعاش، على المستويين المادي والمعنوي. ومع ذلك، فهي ليست المعيار الوحيد أو النهائي للكاتب، تسليط الضوء على كاتب في لحظة غير مواتية قد يعني فضح أدق عيوبه أيضاً، وبالتالي لن يكون شيئاً إيجابياً على طول الخط، مع الوقت سوف تنتهي ضجة الجائزة ويبقى العمل نفسه ولا بدّ أن يكون قادراً على الاستمرار ومحاربة النسيان، حتى بعد رحيل مؤلفه. الجوائز المصرية معظمها تقدّم للمصريين فقط، ربما باستثناء جائزتين أو ثلاث، وهذه نقطة قوّة لصالحها لتركيزها على محيط ثقافي محدّد وتوجيه التشجيع نحوه. صحيح أن بعض الجوائز العربية الضخمة قادرة على استقطاب الاهتمام والرغبة، لكنها ما زالت في سبيلها لخلق رصيد معنوي في المحيط الثقافي، ويبدو أن أمامها بعض العقبات عليها تجاوزها لتحقيق هذا الرصيد، بصرف النظر عن القيمة المادية لها. أعتقد أن بعض الجوائز المهّمة توجّه الآن لأنواع أدبية أخرى غير الرواية، ولكن تبقى الرواية محط الأنظار لأسباب كثيرة، بعضها فني وبعضها تجاري.