أحمد سعداوي



أتذكر أنني خضت عدة محاولات فاشلة لكتابة رواية، في النصف الأول من عقد التسعينيات، ولكن أول رواية أنجرتها بشكل كامل، كانت تحت اسم «المتلفت» وانتهيت منها أواخر التسعينيات. وكنت كتبتها بعد أن انقطعت بشكل كامل عن أي التزامات وارتباطات، وانعزلت في البيت من أجلها. نوع من خسارة العالم الخارجي لتأثيث عالم داخلي.
كانت رواية ضخمة من خمسة أجزاء استغرقت مني وقتاً وجهداً ولو طبعت لكانت بألف صفحة أو اكثر. لم أنشرها طبعاً، ولكني استفدت منها كثيراً في تحديد هوية ما ريد كتابته وتحديد قدراتي وامكانياتي ومناطق الضعف عندي والقوة. صارت عندي، مع هذه الرواية، عينة مناسبة لفحص ذاتي ومزاجي وفحص انشغالي بفن الرواية.
ولو ألقيت نظرة قريبة الى رواياتي المنشورة حتى الآن لوجدت بذوراً وجذاذات مرتحلة من «المتلفت» هنا أو هناك.

■ ■ ■


في أواخر عام 2000 وبدايات 2001 عملت في شركة إعلانات كبيرة ببغداد، وفي هذه الفترة كنت مشغولاً بمخطط رواية جديدة.
هناك في الطابق الخامس من بناية الشركة المطلة على نهر دجلة وشارع أبي نؤاس، وفي مكتب فاره مع جهاز حاسوب، لم يكن ليتوفر لي أو للكثير من الكتاب بسبب غلاء ثمنه، كنت أقوم بعملي في قسم «الافكار»!
كنت أتقاضى مرتباً شهرياً بسيطاً لقاء منحي أفكاراً اعلانية. أمنح فكرة أو اثنتين خلال اليوم، وأقضي ما تبقى من الوقت مواجهاً صفحة الوورد البيضاء على الحاسبة.
خلال 9 أشهر أو أكثر كنت أتخيل نفسي أحياناً بأنني ارتدي ملابسي صباحاً وأتأنق من أجل الذهاب الى «روايتي».
كنت، على هامش الافكار الاعلانية التي امنحها والتي لا تأخذ مني وقتاً ولا جهداً كبيراً، أقبض مرتباً وأحصل على مكان مناسب، معزول ومكيّف مع عامل خدمة يقدم لي الشاي والقهوة واي شيء أطلبه، من أجل شيء واحد (هكذا كنت أتخيل)؛ إنجاز رواية.
كذلك بالنسبة للعائلة والاصدقاء فأنا لدي حجة غياب وعزلة مناسبة أكثر من قولي «انني مشغول بكتابة رواية!»، ألا وهي؛ انني مشغول بالعمل والوظيفة.
انجزت في تلك الاجواء روايتي «البلد الجميل» وكنت أسحبها على ظهر صفحات من نسخة مسلسل تاريخي منحته لي الفنانة آلاء حسين. لأني لا املك ثمن شراء بند ورق!
دفعت الرواية لاحقاً للنشر في «دار الشؤون الثقافية العامة» ببغداد في منتصف عام 2002، ومرّت على الرقيب، وكتب تقريراً ممتازاً حولها. وبقيت انتظر أن تنشر، إلا اننا كنا في خضم حدث أكبر، فما هي إلا أشهر حتى بدأت الحرب على العراق، ثم اسقط الاميركان نظام صدام واحتلوا البلد.
ظلت نسخ الرواية في مخازن «دار الشؤون الثقافية العامة»، ولم تخرج الى المكتبات، ولا خارج العراق، وراحت نسخاً كثيرة منها ضحية للتلف

نسيت الرواية تماماً، ثم بعد سنة اخبرني بعض الاصدقاء العاملين في دار الشؤون الثقافية العامة أن هناك لجنة تم تشكيلها في «عهدنا الجديد» لمراجعة كل المخطوطات المقدمة للدار من أجل اعادة تقييمها، لأن الدار كانت تنشر في زمن النظام السابق العديد من الكتب الدعائية لحزب البعث والكتب التي تتملق رأس النظام، ومع التوجه الجديد فهناك رغبة بفلترة وغربلة كل شيء، بما فيها مخطوطة روايتي.
انعقدت لجنة فحص جديدة، وكتبوا تقريراً جديداً اشادوا فيه بالرواية وأجازوا نشرها، وانتظرت مدة حتى صدرت الرواية، وكان ذلك في صيف 2004. فتكون الرواية بذلك قد انتظرت 3 سنوات قبل أن تصدر، بغلاف بائس جداً، واخراج بصري قمة في البؤس، بحروف كبيرة لكلمات المتن وكأنهم يراعون بذلك القراء العميان! والأسوأ أن أحداً لم ينتبه لحذف الفقرة الاخيرة في الرواية المكونة من خمسة اسطر. واضطررت في النسخ التي اهديتها للاصدقاء، أن اكتب الفقرة بالقلم. كان صدوراً بائساً وغير سعيد، ولم أشعر بأي فرح، وشتمت الدار وشتمت الثلاث سنوات بانتظار صدور الرواية، لولا أنني كتبت خلالها مجموعة قصصية من 15 قصة، نشرت بعضها في الصحف.
الشيء البائس الآخر، أن نسخ الرواية ظلت في مخازن «دار الشؤون الثقافية العامة»، ولم تخرج الى المكتبات، ولم تخرج خارج العراق، واخبرني بعض الاصدقاء أن الرطوبة صعدت الى تلول الكتب المخزنة في الدار، وأن نسخاً كثيرة من روايتي راحت ضحية للتلف.
بتحريض وتشجيع من الأصدقاء بعثت بروايتي الى مسابقة مجلة «الصدى الاماراتية» للابداع العربي، وكانت أهم جائزة أدبية في العالم العربي في وقتها، وأكبر جوائزها كانت مخصصة للرواية. أرسلت الرواية بالبريد السريع قبل أيام من اغلاق باب المسابقة، ولم تكن لدي ثقة بأن الطرد الذي حمل نسخ الرواية سيصل في الموعد المطلوب. ولكني بعد اشهر تسلمت رسالة على بريدي الالكتروني تبلغني بأنني فزت بالجائزة الاولى في فرع الرواية لعام 2005.

■ ■ ■


ما عدا مبلغ الجائزة الجيد، فإن مصير الرواية لم يتغير كثيراً. لم تطبع «دار الصدى» الرواية الفائزة، لاسباب مجهولة، وهذا يعني انها لم تنزل في المكتبات العربية، فضلاً عن كون الطبعة العراقية منها، لم تتوفر في المكتبات العراقية إلا بشكل محدود. ظلت هذه الرواية مثل غصّة في البلعوم. ورغم أن مقالات كثيرة كتبت عنها، وساهمت الجائزة الاماراتية في التعريف بي. ومع انتشار النت، وضعت نسخة الكترونية من الرواية في العديد من المنتديات الادبية، وأرسلتها الى كل من طلبها مني عبر الايميل. فقط كي أخلص الرواية من مصير الكتاب «شبه المنشور».

■ ■ ■


المزعج في قضية «الكتاب شبه المنشور» أنه كان السمة الطاغية والعامة للكتب والمؤلفات في عقد التسعينيات الحصاري، الذي عانى فيه العراق من ضغط العقوبات الاقتصادية الدولية، وانعكس على حركة النشر.
كانت الكتب التي تطبع في دور نشر عربية تصل الى العراق كنسخ قليلة في أيدي مسافرين، ولكن سرعان ما يجري تصويرها بالفوتو كوبي، وعمل نسخ مزورة رخيصة بالعشرات او المئات، وبيعها باسعار رخيصة في شارع المتنبي الشهير وسط بغداد، او بعض المكتبات في منطقة الباب المعظم.
وفي أوقات معينة، كان أكثر من نصف مكتبتي هي من هذه الكتب، والتي تبدو وكأنها أشباح كتب. ولكنها وفرت لنا في تلك الفترة العصيبة إمكانية سحرية على التواصل المعرفي والجمالي مع العالم، ومعرفة آخر المستجدات.
بإزاء الكتب الشبحية هذه، كانت اصداراتنا داخل العراق تتخذ صفة الكتب شبه المنشورة. كانت كتباً شبحية أيضاً.
كانت السلطة تسخر منا ومن كتبنا، ولا تريد منا سوى أن نندرج في خطابها الرسمي. وكان أغلب الشباب يكتبون الشعر في ذلك الوقت، مضمّنين نصوصهم رموزاً وطلاسم هجائية ضد السلطة. وابتداءً من منتصف التسعينيات سرت موضة الطباعة على النفقة الشخصية، باستخدام جهاز الفوتو كوبي، وصناعة أغلفة ورقية شاحبة للكتب الصغيرة، التي لم نكن نطبع منها سوى 25 نسخة أو 100 نسخة.
طبعت بهذه الطريقة كتابين شعريين؛ «الوثن الغازي» (1997) و«نجاةٌ زائدة» (1999). ثم اصدرت لي دار “ألواح” في اسبانيا كتاباً شعرياً ثالثاً هو «عيد الأغنيات السيئة»، وكان مثل السابقين، شبحياً من مئة نسخة مطبوعة على الفوتو كوبي، والفرق ان كل ذلك جرى في مدريد وليس بغداد!

■ ■ ■


حدثت أكثر من مناسبة في السنوات اللاحقة، طلب مني فيها ناشرون محليون اعادة طبع «البلد الجميل» مرة أخرى، ولكني كنت غالباً في مزاج مغاير، غاطساً في مناخ روايات أو مشاريع كتب أخرى، وفي مرة أجبت بأنه من الأفضل أن انشغل بنشر رواية جديدة بدلاً من إعادة طبع اعمال قديمة.
وفعلاً نشرت في عام 2008 رواية جديدة هي «إنه يحلم أو يلعب أو يموت» وصدرت عن «دار المدى» في دمشق. ولكن هذا النشر الجديد لم يجعلني أنسى الحظ السيئ للرواية الأولى، بل عزّزه، مع غلاف بائس وأخطاء في متن الرواية، وأخطاء في كتابة اسمي على غلاف الرواية الأول، وعدم التواصل معي بشأن أي شيء يتعلق بإخراج الرواية الفني، وعدم الرد على ايميلاتي، بما جعلني أفترض أن الرواية رفضت ولم تنشر، وكنت أستعد للاتفاق مع دار نشر جديدة حين شاهدت الرواية في مكتبة “دار المدى” في شارع السعدون. وهو جعلني أرفض استلام أجور النشر أو نسخ الاهداء الخاصة بالمؤلف. وتعاملت مع الرواية على أنها لم تصدر!
ورغم أن هذه الرواية كانت سبباً في منحي جائزة “هاي فاسيتفال” البريطانية ضمن قائمة تضم أفضل 39 أديباً عربياً دون سن الاربعين في عام 2010 إلا أنها هوجمت كثيراً، وكُتب عنها بشكل سلبي أكثر من مرّة، بدعوى أنها غامضة وغير مفهومة. بالاضافة الى أنها لم توزع بشكل جيد كما كان حال روايتي الاولى.

■ ■ ■


كان على روايتي الاولى «البلد الجميل» ان تنتظر 13 سنة كي تصدر بطبعة ثانية، هذه المرة عن «منشورات الجمل»، بما يخرجها من صفة الكتاب شبه المنشور. ما جعل بعض القراء، وهم معذورون، يظنون أنها رواية جديدة.
ترددت كثيراً عندما سألني الناشر والشاعر الصديق خالد المعالي حول فكرة اعادة نشر الروايتين الاولى والثانية، بالاستفادة من زخم فوز روايتي الثالثة بجائزة البوكر 2014. ولكنه أقنعني بأن هذا من حق القراء، ولا موجب لتدخل مزاجي الآن من أعمال قديمة في تحديد مصيرها.
■ ■ ■


كثيراً ما تحدثت مع أصدقاء، بأني أتخيّل أحياناً أن الوضع الافضل لكتابة رواية بالنسبة لي، هو العودة الى تلك الحاسبة الضخمة على مكتبي في الطابق الخامس من بناية الشركة الاعلانية المطلة على شارع أبي نؤاس ونهر دجلة. حيث كنت أخربش الكلمات بعشر أصابع مثل أي طبّاع ماهر يكتب بالطريقة القياسية، من دون أن أكون ملزماً تجاه أحد أو تجاه شيء أو فكرة. لم يكن هنالك شيء اسمه «الروائي أحمد سعداوي». كنت بارعاً وموهوباً تجاه نفسي فحسب.
الآن علي أن أنسى كل شيء، وأستعيد، في كل مرة أجلس لكتابة عمل جديد، ذلك الموقع وتلك الحرية الفائضة كي تتحرر الكتابة عندي.
أسوأ شيء هو أن أكون موظفاً عند الروائي الذي أصبح معروفاً ويحمل اسمي. وأفضل شيء هو الخربشة من دون نوايا مسبّقة أو تلبية لتوقعات أحد، وكأنني أعالج الكلمات من أجل كتابة عمل أول.