خرجتُ من باريس بعد أن رأيتُ حياتي تنفُق أمامي مثل حيوان صغير. حتى «أحبك» كنت أقولها ببرود مؤخرة حفّار آبار. كانت أمي تلاحقني باللعنات وتكرر إنه عاجلاً أم آجلاً، سيجدني شخص ما وسيتم استدعاء الشرطة. ربما لأني مددتُ أسلاك الكهرباء عبر السقف كله، في كل بوصة منه وضعت لمبة نيون، مثل جامع خردة واسع المخيلة. كنت أعرف مقولة «من الخطأ أن تظن بأن النجوم تساعد في علاج السرطان» لكنني حاولت بكل قوتي أن آخذ شيئاً من لمعة الشارع إلى غرفتي. الأمر ليس متعلقاً الآن باكتشافي في ما بعد أن الجهد الذي أبذله كل يوم يجعل مني كائناً غريباً لا يتوقف عن التراجع إلى الماضي، بينما يزهر الناس بمواهب وطاقات فطرية ورحلات غوص في «بالي»، وابتسامات أصدقاء يلوّحون بكؤوس التكيلا على snapchat. الأمر لا يتعلق بالآخرين الذين يقولون «حديقة» وأقول «شجرة وحيدة إلى جانب شجرة وحيدة إلى جانب أخرى وحيدة». الأمر يتعلق بجذام غير مرئي بدأ ينخرني. ورغم ميلي الطبيعي لتجاوز الوساوس، أعرف أن ما حدث تلك الأمسية في بيت جانين لم يكن طارئاً أو عرضياً.«لستِ في حاجة أن تقولي لي إن الأمر صعب فذاك ما أعرفه بنفسي دون حاجة لأحد أن ينبهني إليه». انفتح الباب ودخلت جانين حاملة على ذراعها فستاناً ملفوفاً في غطاء شفاف وفي يدها سيجارة مشتعلة. زعقت في الهاتف إنها ستتخلى تماماً عن الساعات الإضافية في شركتها فذلك لا يعود عليها بنفع على الإطلاق. كنت أعرف أنها لا تستمر في أية وظيفة أكثر من ثلاثة أسابيع، واصلتُ قراءتي بتركيز شديد كأنني لم آتِ إلى هذا المكان إلا لأقرأ روبرت غريفز. لا أدري متى جاءتني فكرة «اختراق الأدغال» كنت في المكتب حين تمنيتُ أن تكون معي عصا عابري الأدغال حتى يتسنى لي شق طريقي أمامي. ولعل ما يلزمني فعلاً هو غندول البندقية.. زورق طويل بدائي.
جانين تعلق آمالها كلها على أبطال المسلسلات الطويلة، لكن فجأة ظهر مُمثّل لا تعرف اسمه يهمس في أذن ممثلة لا تعرف اسمها، بدأت إثر ذلك تغرق في الضحك وتدفعه بعيداً عنها، لكنها كانت تدفعه بطريقة ما بحيث يرتدّ إليها ثانية على الفور ويعاود الهمس في أذنها. أمالت رأسها كأنها جندي يراقب جبهة الأعداء من أحد خنادق الحراسة والتفتت إليّ منتظرة علامة ما تُعطى لها، إشارة تفك أسرها من هذا الوضع غير اللائق. لكنني أنا شخصياً لا أزيد عنها معرفة في خطوط البومرانغ. قربتُ الكتاب من وجهي وقرأت مع ابتسامة تتسع رغماً عني: «ولا حملتُ أي أوهام عن تشارلز سوينبرن، الذي غالباً ما كان يوقِف عربة الأطفال التي أدفعها عندما يُقابلني في نزهة الممرضات، عند حافة أرض ويمبلدون، ويربّت على رأسي ويُقبّلني؛ لقد كان مُوقِف عربات أطفال، ومربّتاً، ومُقبِّلاً متمرّساً».
جانين هي الأخرى مُربِّتة ومُقبِّلة متمرسة، لا نعرف متى اجتاحتها حمى التنسّك في هذا البيت المنسي على «طريق السمك» الذي يربط منطقة بيكاردي بإيل دو فرانس. حين أخبرتنا أنها عثرت على مكان رائع «على الطوق الخارجي للمدينة» كان فيما مضى طريق عربات الخيول الآتية من بولونيا لتزوّد باريس بالسمك الطازج، لم نتوقع أننا سنسير فوق صفائح من الروث وكل منا متشبثة بيد الأخرى. ولعلها تقصد بالطوق، سوراً من السلك على شكل شبكة عريضة يبلغ ارتفاعها قرابة مترين ونصف المتر وجدنا أنفسنا فجأة أمامها، فترجلنا من السيارة، ونظرنا بذهول إلى الشارع الذي يمتد على الطرف المقابل. ولأن أمي أقنعتني أنني أعيش كمجرم سابق قلتُ: لا مفرّ علينا اجتيازه! تخيلتُ أول الأمر أن سارة ستمسك بالسلك وتصعد وتقفز للجانب الآخر وبعد ذلك تأتي مهمتي بأن أنحني لأكون بمثابة السلّم الذي يُمكّن ألما من الصعود لأعلى كما يفعل اللصوص. وحين أتأكد أن سارة التقطتها في هبوطها من الجانب الآخر، ألوّح لهما (مشهد زوربا وهو يودع أصدقاءه بكابينة السفينة) وأعود أدراجي إلى باريس، فقد هبط مزاجي إلى نقطة العدم وأحسست بشيء من الكآبة إن لم نقل الرعب. تذكرت مسلسل «trepalium» الذي تجري أحداثه في مستقبل قريب، حيث يشق العالم جدار مستحيل يفصل العاملين عن أولئك العاطلين عن العمل. بيأس لم يُعرف مثله من قبل، كنت أتفرج على الذين حُكم عليهم كخنازير غينيا بعيش حياة بطالة إجبارية، لكنني في سرّي أتواطأ مع عالم التقدم الوضيع المُشوّه، عالم «الأشياء» المصنوع من وسائل الراحة أو من الرغبة فيها، ويرعبني التخلي عن وسائل راحتي الصغيرة التي جعلتني أبعد ما أكون عن الراحة.
حين نبهتنا سارة – وهي التي تضحك دائماً- أنها لا تجيد التسلق إلا «في الأماكن المغلقة»، أي في صالات الرياضة، على تلك اللوحات الخشبية التي تُحاكي وجه الصخور. توقفتُ عن تعداد الأشياء الرخيصة التي تجعل الحياة تستحق العيش وأخذت ألعن اليوم الذي لبست فيه هذا الفستان الحريري ذي الأكمام، كعاهرة في ساحة كليشي. وقعت كغيري ضحية الإعلان: «فستان قصير مزين بشريط على الرقبة وطبقات من التول الحريري، ستبدين في قمة أناقتك إذا نسّقتِ الإطلالة مع حذاء مسطح بمقدمة مدببة ومزين بالقطع المعدنية». ولأنها بدأت تمطر عدنا إلى السيارة وقد ساد شحوب أبيض أنيمي حتى اقترب منا الضوء الكشّاف لسيارة جانين ليرينا الطريق، فتبعناها ونحن نغني «لماذا كل هذا الجمال على نهر الراين».
البلدات والقرى التي مررنا بها آمل أن لا أراها ثانية يا الله. طوبى للإنسان، للأبنية العقيمة والآلات والأقمشة وحطام الطائرات واستعراضات الجمال والخطب السياسية ووسائل الراحة والجريمة، ماذا سنفعل على هذه الأراضي الشاسعة العقيمة كسطح القمر؟ نتدثر بجلود الحيوانات التي نصطادها ونستخدم قرونها مقابض للخناجر؟ كانت الساعة قد تعدّت الثامنة وقلت لنفسي عليك أن تنتهي من روبرت غريفز الآن. تطلعت إلى سترة ألما الصوف عالية الرقبة والمساحيق السوداء الثقيلة التي تُحيط بعينيها الأكثر حدة من إبر أشجار التنوب التي تحدد زوايا الحديقة. حين تدخل الشمس ألواح الزجاج الكبيرة المتسخة، يفرّقنا الضوء كرجل يخترق حشداً، لكنها تمطر أغلب الوقت، كما لو أن عشرة آلاف زنجي يجلسون حول البيت ويدقون على طبول صغيرة من الصفيح. هنا، بقي كل شيء في مكانه، أزهار الأقحوان البلاستيكية في الطاسات، والكراسي المريحة بأشكالها شبه الدائرية تحيط موقد النار. كأن أهل البيت غادروه في السبعينات إثر مرض غامض أتى على سكّان المنطقة وأباد العديد من العائلات بالكامل.
لفت انتباهي تمثال صغير يحدق في الفراغ بعينين قاسيتين، كإعلان عن جياكوميتي؟ يقول جان جينيه إن تماثيل جياكوميتي موجودة في الموت ومن الموت تنفلت عند كل نداء توجهه أعيننا التي تقترب منها، لكنني لا أستطيع أن أمنع نفسي عن ملامسة المنحوتات، أغمض عيني ويدي تواصل وحدها اكتشافاتها، العنق الرأس انحناءة الكتف، مفصل الذراع الشهي. سمعتُ عن ذلك التاجر الأعمى في سان فرانسيسكو، كان يبيع ويشتري منحوتات الحجر الصيني الكريم باللمس فقط. هكذا أشهر الخبراء وألمعهم وأوثقهم عمي تجاه الفن نفسه، لأن الخبير لا يسمح لنفسه أن ينفعل بما يرى فالعاطفة تحجب عنه اهتمامه الحقيقي: الأسلوب الذي يمكن أن يُصنّف. الخبير لا يرى البذرة بل القشرة ولا داعي للتذمر من ذلك، مهمته أن يحفظ الفن مُنظّماً ويحرس أبوابه وأنواعه وطبقاته، لا تسألوه عن شؤون الروح اللهم بعد ساعات الدوام، عندها سيقول لكم إن منحوتات جياكوميتي الخيطية تأرق ساهرة إلى الأبد، ثابتة في وقفتها، إلى جانبها تبدو منحوتات رودان أو مايول كأنها تذهب لتتجشأ وتنام. أما الصور العائلية فهي نفسها فوق مواقد بيوت العمّال، الأم الشاحبة والأب الجاف والجندي اليافع ببزته النظامية وهو يصف التباين بين القلب وقبضة اليد: «أصابع رجلي متجمدة، لكنني لم أشعر طوال حياتي بأن صحتي بخير مثلما هي عليه الآن وأنا في الجيش. حين يأتي دوري في الحراسة، أقوم بإحصاء أشجار البتولا عند الجدول المائي كل نصف ساعة تقريباً، وهو أمر ليس سهلاً مطلقاً في الظلام الدامس. أحيانا أخطئ في الحساب رغم المنظار الدقيق فأبدأ من جديد، حتى أتأكد أن العدد صحيح. لكن حين يزيد عدد السيقان واحداً، أدرك أنه قناص ألماني وأشرع بتحذير زملائي».

عند هبوط الليل انتعش البيت مع بدء أولى زفرات النار، وبدأت جانين بتحضير الطعام. بدت عليها البهجة لكونها عثرت على وصفات طبخ مجموعة في دفتر لا بدّ أنه لصاحبة البيت وبدأت تعدّ أطباقاً شهية، فطائر اللحم وغراتان السبانخ وتارت التوت والبط المحشي بالتفاح والزبيب، تحولت إلى شيف لامع ثم إلى عجوز بمنديل على الرأس وجزمات ثقيلة تتنقل بيننا بصينية السندويتشات وتسأل من منكن ترغب في شيء مُمَلّح؟ لا نراها تبتسم إلا حين نعبّر عن إعجابنا بأحد الأطباق كأنها نجحت في امتحان يعني لها الكثير.
كنتُ لا مبالية ومرتاحة، حين اكتشفت أن شيئاً غير عادي يحدث في داخلي. لقد تم ذلك بسرعة: كنت أتحدث إلى جانين وانقطع فجأة مجرى الحديث لعجزي عن إتمام الجزء الذي يفترض وجود التتمة، كنت أتحدث وسط جو من الاسترخاء والثقة عن استخدام أورهان باموق للكلاب الضالة لوصف أحياء اسطنبول، ولعلني قلت: هذا أنا، ذات يوم رأيتُني في الشارع هكذا، كنتُ الكلب.. عندما تحطمت عبارتي. والأدهى من ذلك أن هذا النقص وهذه السقطة كانت بسبب غياب اسم أورهان باموق نفسه عن ذاكرتي. فيما بعد، عندما انسحبتُ إلى الغرفة المخصصة لي في الطابق العلوي، غدا هذا النسيان جارحاً أكثر فأكثر ولم أكن أستطيع التخفيف ولو قليلاً من حدته إلا بتخيل الجزء من مكتبتي الذي تنتظم فيه مؤلفات ذاك الذي تعذر عليّ تماماً ذكر اسمه. اعتقدت أنه ربما ولشدة استرجاعي للمكتبة سينتهي الأمر بذاكرتي إلى افتعال ما يشبه اللقطة المكبرة للاسم، كنت أخشى أن هذا النسيان قد يُحدث تخريباً غير ملحوظ في مجمل لغتي. كأنني حُرمت من دورة الكلمات التي في النهاية تشبه الدورة الدموية.
  باب الغرفة – ليست غرفتي أنا، إنني أرفض أنْ أقول إنها لي – ليس موصداً. في الحقيقة هو لا يُغلَق كما ينبغي، أرضيتها زلقة وكأنها مفروشة بالصابون الناعم ويحتل سرير دائري أغلب مساحتها، مثل غرف النوم تحت الماء التي صُممت في حديقة أسماك باريس. تلك الغرف الاسطوانية التي تتسع لشخصين وتغوص في حوض على عمق عشرة أمتار. كنت أرى جداراً شفافاً يفصلني عن سلاحف معمرة بطيئة، تشقّ ثلاثة ملايين لتر من الماء بزعانف كالمجاديف وتطارد الإسفنج وقناديل البحر التي تنطفئ الواحد تلو الآخر حتى يعم الظلام وأسمع صوتاً يحدّثني عن النظام البيئي: «إذا اختفت السلاحف سنختفي نحن» وأرد عليه «أعرف أنني أحلم لكني لا أقدر على الاستيقاظ».
ليال حارة انطفأت في الفراغ، حوّلنا الصالون إلى مهجع لفتيات الكشافة، نهمس ونتلامس بالأيدي عبر المسافة التي تفصل بيننا. تعلَّمنا قراءة الشفاه ورؤوسنا موضوعة على الأسرَّة، ومتجهة جانباً، تراقب كل منا شفتيّ الأخرى. حين أسأل: هل نرحل؟ أقرأُ على الشفاه كلمة: حالاً. لعلنا سمعنا طرقات خفيفة على الباب لكننا لم نكن ننتظر أحداَ، لم نكن ننتظر شيئاً. كل ما حملناه من تفاؤل زائف في باريس تشقق الآن بوضوح. وحدها جانين حافظت على حيويتها، تدخل حاملةً أكياساً ورقية كبيرة متخمة بالمؤن. تُعاين الأغذية في الثلاجة، تتفحص المعلبات وبرطمانات البهارات والتوابل في الخزانة لترى ما الذي على وشك الانتهاء، وتكتب قائمة التسوق الجديدة. تفعل كل ذلك مع ضجيج احتفالي بينما نحن عاريات، نمتص أقراص معالجة السعال ونجرّ الكلام كخيل مريضة:
-هل تعتقدين أنه كانت لي حياة ذات يوم؟
- يصطفل موراكامي!
- كانت حركتي الأولى عند الاستيقاظ صباحاً، الإمساكُ بقضيبه المنتصب
- أيامها، ظهرت مُلصقات تُعلن «أنت أيضاً تستطيع أنْ تقدِّم يد المساعدة» وكنا نُسقط دنانيرنا في علب يحملها عمال يتنقلون بين أروقة المدارس، ما يُعرف بصندوق التضامن كان تبرعات إجبارية تذهب إلى جيب النظام. من لا يجلب الدينار يُهان ويبقى واقفاً في الظهيرة على إسفلت فناء المدرسة الملتهب.
-لا أعرف إلى متى سيطول مكوثي بين الخنازير
- الوقت كفيل بجعل الأشياء أكثر سوءاً
- أحياناً يقول لي وبشكل عرضي «ألم أخبركِ بذلك؟» ليروي، وبدون أن ينتظر مني الجواب قصة حدثت له في الأيام الماضية. هذا السؤال الخاطئ يشعرني بالغم، إذ يعني أنه سبق وروى هذا الأمر للمرأة الأخرى.
- فكّري في الأمر وكأنكِ في الجيش: إمّا/ أو
- في السينما تأتي الاكتشافات الكبرى، أمام مشهد من حرب العوالم، حيث يفكك كائن فضائي قساً على الرغم من الكتاب المقدّس الذي يلوّح به، وعيت حدود القدرة الإلهية في مواجهة الشر.
- لا تسبحي ضد التيار، فذلك غير صحّي.
- ذلك الانتظار الدائم والتمني لبلوغ نهاية الأسبوع، التطلّع إلى الإجازة. أتخيل دائماً أنني سأفعل شيئاً ما يغير حياتي، لكن تأتي نهاية الأسبوع وتنقضي وتأتي الإجازة وتنقضي ويبقى كل شيء على حاله، دون جديد.
- في حسابي البنكي 13 يورو أنا وحيدة وأعمل كالعبد في حقول البرتقال
- قال لي لن أنساكِ أنتِ ابنة بلدي أنا جثةٌ مثلكِ
أفكار كثيرة ذوت واضمحلت، تلاشى يقيني بأنني أصبت بجرح لا شفاء منه رغم أن اسم أورهان باموق بقي غائباً تحت لطخة بيضاء. أحياناً أقرأ بداية رسالة كنت بصدد كتابتها: «بينما أنت تقرأينني لا تنسي أن الجرح لا يزال موجوداً وأن استمراريته هي الدافع الحقيقي والوحيد لهذه الرسالة. خذي هذه اليد التي سأفقدها قريباً، تعرفين جيداً أن الجسد ينهار حالما تنهار اللغة». هل تأخر الوقت؟ في الحلم كنت أمشي في ممر طويل، يميناً وشمالاً تدفقت أبواب مرقّمة في الممر. ومن آن لآخر يأتي في مواجهتي نساء يرتدين زي الممرضات. طرقت الباب الذي أشرن إليه، ودخلت لأجد غرفتي التي يغطي جدارها 1366 لمبة مطفأة. أفقت وأنا أتعرّق، أبعدت مفرش القطن الخشن وخرجت إلى الرواق المكسو بسجادة طويلة حتى المركز، تُشبه ممراً في غابة.
 تنعطف السجادة الوردية المغبّرة وتهبط إلى أسفل الدرج. ألحق بها ويدي على الدرابزين. في الرواق ساعة حائط تخص الأجداد، تُقتِّر الزمن. دخلت المطبخ لأعدّ الشاي ورغبت في نقل بعض الوصفات من كتاب جانين. بدا وكأن الوصفات كتبت بمخالب قذرة، كانت تلك المرأة مقتنعة بضرورة إضافة زهرة سوسن زرقاء مجففة بين دفتي فصل يوم الحساب، ودمعة من العسل أو القليل من شعر العانة وكأس نبيذ من جزيرة سان ميشيل في البندقية.. ابتل قماش الكتاب المُشمّع من عرق يدي، وتراجعتُ بضع خطى إلى الخلف لألتقط مريلة الطبخ. جهزت طبق الفرن وإبريق القياس والخفاقة اليدوية، وضعت الوصفة أمامي وانهمكت في إعداد العشاء. في غرفة الجلوس الأمامية الأليفة، لم يكن الصبايا يستنرن إلا بنور التلفزيون. وفي هذه الإنارة بدون ساكنات بلا حراك، طافيات مثل خيوط السائل المنوي التي تتركها الأسماك في الماء.