صدرت مجموعتي الشعرية الأولى «تعالي نذهب الى البرية» عام 1978 عن «وزارة الثقافة العراقية»، وحين أعود اليها اليوم، أجد أن قيمتها الوثائقية تزداد بينما قيمتها الفنية تتناقص. على مستوى الفن فيها قصيدتان تجريبيتان، الأولى قصيدة حرة (قصيدة تفعيلة) كتبت على بحر شعري مركب (بحر الطويل)، وهي تجربة عروضية صعبة لأن اغلب الشعر الحر كتب على الأوزان الثمانية الصافية. القصيدة الأخرى كانت خليطاً من النثر والوزن، أي ذات إيقاع مفتوح، وموضوع مفتوح أيضاً. هذه القصيدة نشرت عام 1977 في مجلة «آفاق عربية» (مجلة عراقية)، وفي تلك الفترة كان الشاعر الرائد بلند الحيدري مشرفاً على القسم الثقافي فيها، وهو الذي سمح بنشرها.
على مستوى التوثيق، ما يزال هذا الديوان الاول يمدّني بأرشيف خصب من الذكريات، لذلك حين أقارن بين الكتابة والصورة، أجد الصورة تهتم بالأبعاد الثلاثة للمكان بينما تهتم الكتابة بالبعد العميق، تهتم بأحشاء اللحظة، بملابساتها التاريخية والشخصية والثقافية والسياسية. في الديوان الأول ثلاث قصائد تؤرخ لثلاث تجارب شخصية تجربة فترة المراهقة لفتى في الخامسة عشرة من عمره، استغرقه إيمان ديني صارم عبّرت عنه في ما بعد قصيدة عنوانها «إلى أبي يزيد البسطامي» أحد المتصوفين المعروفين.

كلما راجعت تلك القصيدة، رغم أنها كتبت عام 1976، تذكرت الفترة من 1964-1968. أربع سنوات انشغل فيها فتى غضّ، بقراءة كتب دينية لن تخطر على بال أحد اليوم: «بحار الأنوار»، «تاريخ الطبري»، «مثير الأحزان»، ودواوين شعر كلها إخوانيات ومراث تعود للقرن التاسع عشر، كان أبرزها ديوان الشيخ عباس النجفي، المعمم العاشق، الذي مات من العشق. ثم وصل الأمر إلى أن أواظب على الذهاب إلى «مكتبة الكيلاني» في بغداد لاستنساخ مخطوطة كتاب «هياكل النور» لشهاب الدين السهروردي، وكذلك «مكتبة الخلاني» وفيها مكتبة غنية جداً، وكانت رفوف الكتب مغطاة بزجاج شفيف. هناك قرأت «تاريخ المسعودي» وكتاب «الملل والنحل» وكتب المعتزلة وأغلب مراجع كتب الأدب والفلسفة. لكنني استيقظت من هذه الفترة المظلمة. تولدت لدي رغبة بالابتعاد عنها، وبقيت زمناً طويلاً أعيش نقاهة للتخلص من آثارها. اليوم أتخيلها منظومة صارمة تعمل ضد الحياة وضد المشاعر البشرية اليومية. التديّن بالمعنى الشرقي لا يصلح لبناء حياة سليمة، إنه انفصال كامل عن الواقع وعن الطبيعة. حين أتأمل اليوم تلك الفترة من حياتي أسأل: ألم تكن تلك الثقافة سجناً لعقل يافع كان الأجدر به أن يتدرب على النظر والابتكار والاشتباك مع الطبيعة ومع الواقع، ولماذا أنفقت عمراً في ذلك الاستغراق الخائب؟ ولماذا كنت محبوساً في أفق واحد؟
في فترة السبعينيات كانت ثقافة التصوف منتشرة على حواف الأفكار المعاصرة، وانشغل الشعر الحديث بهذه الثقافة ورموزها كبنية مضافة أو كمحمول فني يساعد في نقد الواقع. كان البياتي وأدونيس وصلاح عبد الصبور من أهم شعراء الحداثة الذين حولوا فكر التصوف ورؤاه إلى إشارات معاصرة مقابل الثقافة السياسية القومية التي أنتجت لنا مخلوقاً جديداً آنذاك هو الدكتاتور الحاكم. لكن اليوم أيضاً اكتشفنا بشاعة الجزء الأكبر من الثقافة الدينية، فقد أنتج لنا مخلوقات مرعبة: القاعدة، الزرقاوي، داعش .. إلخ. وحتى الآن لم تُعطَ فرصة حقيقية لثقافة ليبرالية لكي نرى أي حاكم سينتج منها، ونستثني من ذلك التجربة الليبرالية اللبنانية التي كانت من الأربعينيات حتى الستينيات ضوءاً نادراً مرّ في ممر معتم من حياة العرب. من الديوان الأول، هذه القصيدة في تجربة التصوف: «ربما تتحيّرُ أيامُهُ/ ربما سرَّ في الغصن شيئاً وفارقَهُ/ ربما عاد يبحث عن سرهِ في الجذور/ لم يجد غير ملحٍ تكاثر فوق البذور/ لم يجد أي سرّ/ سوى لطخة الضوء في حفنة من تراب/ وفي قطرة من مياه/ كان سراً حريزاً له/ وبنى حوله ما بناه/ لم يعد سرَّه/ كان سراً سواه/ وشيئاً غريباً/ على كل وجه يراه».

كتبت قصائد ديواني الأول
«تعالي نذهب الى البرية» تحت تأثير خطين ملتحمين من الثقافة:
التصوف والفكر الحديث


أيضاً عندما أعود الى ديواني الأول، أقرأ قصيدة عنوانها «شجرة» فأتذكر تجربة أخرى عميقة، فما أن خرجت عام 1968 من تجربة التدين، حتى دخلت في تجربة الحب. عملياً خرجت من سيطرة إله المعجزات الموجود في الكتب ودخلت تحت سيطرة الإله الفيزيائي، إله الطبيعة والحياة، وصرت أحد رعاياه، منشغلاً بالفن والشعر والحب والجمال. قصيدة الشجرة تشير الى شجرة سرو كبيرة في شارع فرعي، خلف بيت محمود الصراف في ساحة 52 بغداد. كنا نلتقي هناك تحت الشجرة. طبعاً هناك مواجهة عنيفة بين الحب الذي يخضع لرزمة من التقاليد الصارمة من أجل تبديد قداسته وإطفاء هالته العظيمة، وللحب ووسائله القوية التي تحميه وتحافظ عليه من عنف التقاليد الضاغطة، ومنها الشعر، الغناء، الموسيقى، الرسم، وكل الحرف والفنون التي تمتد كقشرة صلبة واقية وحافظة له. لكن تلك الفترة قياساً الى اليوم في عالمنا العربي والإسلامي كانت فترة فيها هامش كبير من المدنيّة واعتراف ما بحقوق المرأة. اتسع هامش حركة النساء اجتماعياً، تحت ظلال ثلاثة زعماء عرب، الأول وهو الأهم الحبيب بو رقيبة (تونس) شرع لها قوانين تحميها. والثاني هو عبد الكريم قاسم (العراق) الذي شرع لها بعض القوانين للارتقاء بآدميتها من أنثى تأتي بعد الرجل إلى إنسانة تقف في مستوى إنسان. والثالث جمال عبد الناصر (مصر) الذي ساند ثقافة الحياة الحديثة وجعلها أساس الدولة، وقيد حركة ثقافة الماضي الدينية، وبذلك جنّب ليس مصر وحدها بل العالم العربي كله من بشاعة الثقافة الدينية، إضافة الى إشعاع الحياة الذي تدفق آنذاك من لبنان وسوريا. لكن حركة التاريخ الدائرية، وليست المستقيمة، تقول إن الصحراء لن تنتصر على المدينة. في لعبة الكرّ والفرّ هذه، انظر كيف انشق إسلام مكة الصحراوي إلى إسلام القاهرة وطهران وأنقرة وجاكرتا. واليوم إسلام الصحراء السياسي، مثل نمر مطعون حد الموت، يضرب الحياة بمخالبه بكل ما تبقى له من قوة، ثم يهمد الى الأبد.
وفي ديواني الأول أيضاً، هناك قصيدة عنوانها «مقهى هافلكا» تذكرني بأول سفرة إلى فيينا عام 1972. السفر المبكر إلى أوروبا ساعدني في التخلص من هذا الغيب من خلال الاحتكاك بثقافة حديثة وانغمار في لُبّ الحياة... المقاهي والنوادي والمكتبات، ورؤية موجات الهيبيز عن قرب، وأفكار سارتر وكامو. أصبحت لدي آنذاك خلطة ثقافية متنوعة فيها شيء من التصوف وشيء من الفكر الحديث. لذلك كانت الى جوار قصيدة «أبي يزيد البسطامي»، قصيدة «مقهى هافلكا» وهو مقهى صغير في فيينا يجلس فيه موسيقيون وشعراء ورسامون. وفيه كانت أول مرة ألتقي بفتاة من عمري بلا مخاوف، نجلس ونتحدث ونمشي بحرية واطمئنان. وقبل أن أذهب الى فيينا، كانت محطتي الأولى دمشق. في «مقهى الهافانا»، كان معي شاب عراقي رسام تعرفت إليه في القطار الذاهب من محطة علاوي الحلة في بغداد الى حلب. الرسام جبر علوان اليوم هو رسام مشهور جداً اليوم، كانت معه بضع لوحات مرسومة على قماش وملفوفة كحزمة يحملها تحت إبطه، وطموحه أن يذهب إلى إيطاليا، وأنا طموحي أن أذهب إلى ألمانيا. في مقهى الهافانا، تعرفنا إلى محمد الماغوط، واشترى لوحة بعد أن فرش صديقي الرسام قماش رسوماته على طاولة المقهى. حصلت على نسخة من ديوان الماغوط «الفرح ليس مهنتي»، وأكملت سفري وحدي الى بيروت. كنت معجباً ومتأثراً بشعر أدونيس وأفكاره. في بيروت التقيت أدونيس في مكتبة في شارع الحمرا. والمعروف عنه تواضعه ونبل روحه، وهو آنذاك في قمة شهرته ويعدّ أطروحته للدكتوراه «الثابت والمتحول». هذه اللقاءات العابرة والغرق القصير في مدن مثل بيروت ودمشق وفيينا في أول السبعينيات، كانت ارتواءً لكل ما هو حديث بالنسبة لي. عدت من فيينا إلى بغداد في بداية عام 1974، وشرعت أكتب القصائد الأولى التي جمعها ديوان «تعالي نذهب الى البرية» تحت تأثير هذين الخطين الملتحمين من الثقافة: التصوف والفكر الحديث، وحفلت بها معظم قصائد الديوان الاول. ثم ولد جيل شعري جديد في بغداد آنذاك، وهو جيل السبعينيات.
* شاعر عراقي