ما الذي يدفع بأشخاص إلى عبور أهوال البحر، مع العشرات أو المئات من البشر الآخرين، الذين لا يعرفهم ولا رابطة تجمعهم سوى الفرار من أوطانهم إلى المجهول؟ ما الذي يجعل المجهول في منظور أولئك البشر، الذي هو مريع بحد ذاته، أقل خطراً من الحاضر المعلوم؟وما الذي يدفع أي شخص إلى المخاطرة بنفسه وبمستقبله، وربما بما أنجزه على المستوى الشخصي، من استقرار عائلي ومادي وروحي، من أجل إنقاذ حيوات بشر آخرين لا يعرفهم ولا يعرف عنهم أي أمر، سوى أنهم في حاجة إلى المساعدة للفرار من أخطار تتهددهم هم ومن معهم؟
الكاتب لم يستطع تحمل صور اللاجئين القتلى الذين تطفو أجسادهم على سطح مياه البحر المتوسط، من دون التحرك من أجل فعل أي شيء لإنقاذ من يمكن إنقاذهم. والمؤلف الصغير هذا الصادر في نسخة إلكترونية، يحوي إجابات عن بعض تلك الأسئلة والتساؤلات.
هرلد هبنر، هو صاحب هذا «التقرير» عن سعيه لابتياع سفينة صغيرة تطوف مياه البحر الأبيض المتوسط باحثةً عن لاجئين فارين عبر «أخطر حدود في العالم» ليبلغ بهم محطات الإنقاذ الأوروبية في مختلف دول أوروبا الغربية. «الأخبار عن استمرار موت اللاجئين عبر البحر المتوسط... وكان آخرها حدث بتاريخ 3 تشرين الأول (أكتوبر) عام 2013، حيث سمعنا خبر غرق نحو أربعمئة لاجئ قرب جزيرة لامبدوسا» كان مفصلياً في اتخاذ الكاتب قراره: ما دام ليس ثمة من يتحرك لمساعدة اللاجئين، فعلينا أن نفعل ذلك.
غرق 400 لاجئ عام 2013 كان مفصلياً في اتخاذ الكاتب قراره

«صورة لاجئ يطفو على سطح مياه البحر المتوسط، وهو يتعلق ببقايا لوح خشبي من زورق مطاطي، والرعب يعلو محياه، وشفتاه تصرخان بصمت مدوٍ طالبة المساعدة، وإلى جانبه جسد امرأة يطفو على سطح الماء» كانت كافية. ثم يسترسل في الوصف، فيكتب: يمكن رؤية أنها كانت ترتدي بنطال جينز وقميصاً مخططاً. رأسها كان تحت سطح الماء وشعرها الأسود الحريري يتحرك مع أمواج البحر الهادئة. لقد كانت تنظر إلى الأعماق وكأنها منهكة، أما ذراعاها، فكانتا ممدودتين إلى الأمام وكأنها تحاول الإمساك باللوح الخشبي. لقد كانت جسداً بلا روح!
وكيف يموت الإنسان غرقاً؟ لم يعد أحد من تلك الرحلة في اتجاه واحد، لكن الأطباء يقولون: بداية يتنفس المرء تحت سطح الماء تلقائياً، فيخترق الماء الرئتين. وعندما يبدأ في السعال، تخترق مياه إضافية الرئتين وتغلق مجرى التنفس، فتتناقص على نحو مستمر كميات الأكسجين في الدم، فيفقد الشخص وعيه بعد نحو دقيقتين، فيتوقف عن التنفس، وبعد ذلك بفترة قصيرة يتبعه القلب. إنه أسلوب موت مريع، ويذهب ضحيته حتى أكثر الأشخاص مقدرة على السباحة. انخفاض درجة حرارة الجسد تضعف الدورة الدموية، وبالتالي من استطاعة صاحبه على الحركة إلى أن يفقد المقدرة على البقاء طافياً على سطح الماء.
ما أراع الكاتب أيضاً، انتقال قارئي النشرات المتلفزة عن أخبار موت مئات اللاجئين في مياه البحر المتوسط غرقاً إلى الأخبار التالية من دون التوقف ولو لوهلة، للتأمل، ولابتلاع فحوى الخبر. بعد فترة، عندما أصبح في مرحلة متقدمة من التخطيط لرحلة زورقه إلى مياه البحر المتوسط، وذاع ذاك الخبر في ألمانيا، واستضافه برنامج تلفزيوني للحديث عن المسألة، قرر التأثير في نفوس المشاهدين عبر مبادرة فريدة في تاريخ التلفزيون الألماني. إذ طلب من الحضور الوقوف دقيقة صمت احتراماً لأرواح اللاجئين الذين قضوا وهم في درب الرعب، من شواطئ ليبيا إلى من ينقذهم من ماضٍ في بلادهم وأوطانهم ومنافيهم، الاختيارية والإجبارية. بعد ذلك، طلب رئيس البرلمان الألماني، البندستاغ، من أعضائه الحاضرين الوقوف دقيقة صمت حداداً على أرواح اللاجئين في مياه البحر المتوسط.
عدم تحرك السلطات الرسمية في بلاده ألمانيا، أو في دول الاتحاد الأوروبي، لإنقاذ اللاجئين الفارين باتجاه القارة الأوروبية، هو ما دفعه للمبادرة بالتحرك، تماماً كما فعل ذلك أشخاص من قبله في برنامج كاب أنامور الذي ولد في سبعينيات القرن الماضي لمساعدة الفييتناميين الفارين من بلادهم.
ما دفعه للمبادرة بالتحرك هو التناقص بين حقيقة أن السلطات الألمانية كانت تصف اللاجئين الفارين من ألمانيا الشرقية عبر سور برلين أو الحدود بالأبطال، لكنها تقف مكتوفة الأيدي تجاه مصير اللاجئين الفارين تجاه أوروبا.
هذا المؤلف يحوي إشارات مهمة إلى بعض المنظمات الإنسانية الأوروبية التي نشأت من أجل مساعدة اللاجئين وإنقاذهم من أهوال البحر في حالات الطوارئ. كما وجب الإشارة إلى عمليات إنقاذ قامت بها الحكومة الإيطالية لإنقاذ أرواح اللاجئين التائهين في البحر المتوسط اسمها mare nostrum بمعنى «بحرنا». اسم أطلقه قدماء الرومان على البحر المتوسط. لقد تمكن القائمون على هذه العملية من إنقاذ نحو 150000 مهاجر من أفريقيا والشرق الأوسط.
من المنظمات الأخرى التي تسهم في عمليات مساعدة اللاجئين في البحر الأبيض المتوسط، إضافة إلى الهيئة التي أسسها كاتب هذا المؤلف، ثمة Zentrum fuer politische Schoenheit «مركز من أجل جمالية السياسة» الذي تأسس بهدف رمزي استعراض هو إعادة إسقاط جدار برلين، لكن على الحدود التركية البلغارية.
وهناك أيضاً Migrant Files «ملفات المهاجرين» وهو منظمة تقوم بحصر ما توافر من معلومات عن اللاجئين الفارين إلى أوروبا بهدف مساعدتهم على العثور على أقربائهم.
وكذلك، ثمة سفينة ذات ملك خاص اسمها Migrant Offshore Aid Station «محطة مساعدة المهاجرين الأرضية» التي تبحر في المنطقة الواقعة بين شواطئ جزيرة مالطا والساحل الليبي.
لكن ثمة أيضاً أشخاص أوقفوا حيواتهم لمساعدة اللاجئين ويأتي في مقدمهم الأب الإريتري الكاثوليكي موساي زاراي الذي يقوم بنقل رسائل الاستغاثة إلى مركز الإنقاذ الأوروبي وإلى المراكز البحرية لتنسيق الإنقاذ (Maritime Rescue Coordination Centers - MRCC).
لنتذكر هذه الحقائق ونتذكر أن دول الأعراب الكاريكاتورية، التي يذرف حكامها دموع التماسيح على مآل المهاجرين واللاجئين العرب، أوقفوا أساطيلهم البحرية ليس لإنقاذ من يتاجرون بهم وباسمهم وإنما لتجويع شعب اليمن وصب الزيت على نيران الحرب هناك.