بقيت مسألة تأصيل «رواية عربيّة» مدار بحث عبثيّ لعقود. وكان سؤال «هل هناك رواية عربية؟» أكثر سؤال محوريّ في المؤتمرات والندوات التي تناولت الرواية العربيّة. وفي ظلّ كلّ هذا الضجيج الذي لم يُثمر في معظمه إلا روايات هجينة متوسطة الجودة لا تكاد تُعتبر عربيّة إلا لكونها كُتبت بهذه اللغة، انحسر الاهتمام بهذه المسألة وصولاً إلى درجة بات فيها مجرد طرح السؤال «شبهة» قد تُدرج طارحه في خانة القومجيّين أو عابدي التراث. ولكن، وسط هذا الصخب المُضجر، تسلّلت همسات لاثنين من أهم الروائيين العرب ستجذّر هذا السؤال وتعطيه مشروعيّةً دائمة. كان أولهما مبدعاً دون تنظير، وصاحب رواية من أجمل الروايات العربية في القرن الماضي، هو إميل حبيبي وروايته «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، والثاني مبدع ومنظّر في شؤون الرواية، تابع مسيرته الثريّة بشغف ليؤصّل معنى وجود رواية عربيّة «لا تستعير أصابع الآخرين»، أي عبد الرحمن منيف ورواياته الكثيرة، وإن كان يهمنا منها هنا روايته «النهايات» شبه المنسيّة للأسف، وملحمتيه «مدن الملح» و«أرض السواد».يمكن ببساطة إحالة رواية سنان أنطون الجديدة «فهرس» (منشورات الجمل) إلى تجربة هذين المبدعين من دون تطابقهما التام. لعل أهم ما يميّز «فهرس» هي محاولتها الجديّة لكتابة رواية عربيّة تنهل من التراث من دون أن تنسى زمنها، وتؤسّس لتيّار روائيّ جديد من دون أن تتخلى عن جذورها. تلك هي المعادلة الصعبة التي تميّز بها حبيبي ومنيف، وأوصلها أنطون الآن إلى مستوى مدهش. تتناول الرواية تاريخ العراق من زاوية متفرّدة هي التوثيق عبر تفاصيل منمنمة شبه مستقلة تشكّل بمجموعها لوحة جداريّة عراقيّة مذهلة. تقنيّة «الكولاج» الكثيفة في الرواية ليست ابتكاراً جديداً، بل هي تقنيّة تراثيّة تكاد تسم جميع الأعمال التراثيّة العربيّة (وشبه العربيّة) من «ألف ليلة وليلة» إلى «الحيوان» و«المستطرف». الجديد لدى أنطون، ولدى حبيبي ومنيف قبله، هو تحديث هذه التقنيّة لتكون بنت زمنها. استثمر أنطون تنويعات فنيّة كثيرة وحبكها ببراعة داخل جسد الرواية، من الأغنية إلى الموال والقصة القصيرة والتناص وتفاعلات النصوص المختلفة داخل النص الأساسيّ. فكانت النتيجة إحدى أفضل (من حيث التقنيّة) وأجمل (من حيث الثراء اللغويّ والجماليّات) وأهم (من حيث موضوعها) الروايات العربيّة خلال العقدين الماضيين. وستكون المقارنة مع أيّ رواية أخرى مُجحفةً، حتى لو قارنّاها بروايات أنطون نفسه. ثمة نقلة كبيرة على المستويين الجماليّ والفنيّ في هذه الرواية عن روايته السابقة «يا مريم» مثلاً، وهوّة كبيرة مع روايات غيره إلى درجة يبدو فيها من الصعب تجسيرها إلا بعد امتلاك عدّة معرفيّة وتقنيّة متميّزة.
توثيق الحياة اليوميّة العراقيّة وسط الجحيم الأبدي

ما يميّز «فهرس» أيضاً هي اللغة التي كانت شخصيّة مستقلة أخرى ضمن الرواية. يعيدنا أنطون هنا إلى قضيّة العاميّة والفصحى ليحقّق الحل الأمثل عبر درجات العاميّة، لا الفصحى كما ساد الرأي شبه الموحّد من قبل. لم تكن كتابة هذه الرواية لتنجح لو كانت الحوارات العربيّة بالفصحى، إذ كانت ستبدو مجرّد قناعٍ هش لشخصيات مسطّحة. إدخال اللهجة العراقيّة ببراعة نقل الرواية وشخصيّاتها إلى مستوى آخر بعيداً عن مستنقع الروايات التي تدعي توثيق الحياة اليوميّة وروح العصر. ليست المحاولة جديدة بالطبع، بل هي إحياء لتيّار روائيّ منسيّ ساهم فيه العراقيّون تحديداً في إغناء الحوار الروائيّ، إذ سنتذكّر بسهولة الروايات الأولى للراحلين فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان.
من جانب آخر يتميّز أنطون عن غيره من الروائيّين العرب بإعلائه من شأن المقطع كوحدة سرديّة مستقلّة، مقارنةً بالكتابة الاعتباطيّة التي تسم الغالب الأعم من الروايات العربية على اختلاف أهميتها. كلّ مقطع مستقل بذاته، ولكنّه في الوقت ذاته تفصيل منمنم آخر ضمن اللوحة الكبيرة. بعض المقاطع قصص قصيرة متكاملة، ولكنها مشدودة ببراعة إلى الرواية بحيث تبدو مثل صدى آخر لصوت اللوعة الصارخ في الرواية. وللأسف، غابت هذه التفاصيل التقنيّة عن معظم قرّاء الرواية ومراجعيها الذين اهتموا بزوايا نافلة مثل «أهمية الرسالة السياسية في العمل» و«مدى تقارب سيرة نمير بطل العمل مع سنان كاتب العمل». جميع هذه التساؤلات – على أهميتها – ليست مهمة في تحليل النص. فالرواية نص جماليّ قبل أن تكون بياناً سياسياً أو سيرة ذاتيّة مفتوحة أمام أعين المتلصّصين. ولكن، في الوقت ذاته، تبدو التساؤلات مستغربة لأنّ الكاتب غير حاضر ضمن شخصيّات الرواية، وليس مقسّماً بين شخصياتها بقدر ما يبدو صورةً للإنسان المتشظّي وسط غابة الأصوات المتباينة المتفرّدة، حيث لكل شخصيّة سماتها ولغتها ونبرتها المتمايزة على عكس كثير من الروايات التي تكون شخصياتها متماثلة وتنوّع أصواتها زائفاً، ولذا ستبدو أيّ محاولة للقبض على الكاتب وسط شخصيّاته تقويضاً لرسالة العمل بأكمله.
يحاول أنطون في «فهرس» توثيق الحياة اليوميّة العراقيّة وسط الجحيم الأبديّ المتشظّي في أمكنة وأزمنة عديدة. تبدو شخصيّة ودود بائع الكتب في شارع المتنبّي ذاتاً أخرى وتجسّداً محلياً ومرآة محدّبةً لشخصيّة نمير الأستاذ الجامعيّ العراقيّ في أميركا. ثبات أحدهما يعادل تيه الآخر، وجنون أحدهما مرآة لتعقّل الآخر، ولوعة أحدهما صدى لألم الآخر، أما الكتابة فهي ما يوحّد الجميع، أكانت فهرسة لدقائق الحرب، أو تدويناً ليوميات المنفى، أو نبشاً في ذكريات الآخرين التي أصبحت قمامة. «كولاج» ثريّ لا يشبه غيره من المحاولات الروائيّة البائسة السابقة التي كانت أقرب إلى البهرجة والاستعراض. الحياة في «فهرس» موشور بملايين الجوانب، كلّ جانبٍ فيه هو تجلٍّ لإنسان كسيرٍ مُلوَّع متشظٍّ. والقابض على الموشور إنسان واحد بملايين الشخصيات والأمزجة واللغات والأحلام. قد يكون هو الكاتب، وقد يكون القارئ؛ ليس هذا هو المهم، فالمهم هو «الفهرس» غير المنتهي وغير القابل للانتهاء.