الأب والدراجة الهوائية

  • 0
  • ض
  • ض

لم ينعم والدي بمواهب استثنائية. إذا كان الأب النموذجي من يستطيع أن يصلح جزّازة العشب، وأن يركب كيس الملاكمة كما يجب، يقدم مقترحاته بخصوص مشروعك العلمي أو المشورة فيما يخص شارة استحقاق منقذي الغرقى، يساعد في حل فرض الرياضيات المنزلية، يجمع أجزاء دراجة جديدة، أو يستبدل المنخل على باب الفناء، عندئذٍ لا يمكن أن أصف والدي بأنه كان أباً نموذجياً.

أتذكر من بين ذكرياتي القديمة عن عيد الميلاد استلقائي في سريري حتى وقت متأخر من الليل، أسمع والدي وهو يحاول تجميع طبل صغير، تم طلبه من سانتا، بمساعدة أمي. امتد العمل لساعات في غرفة الجلوس. لا يزال في وسعي سماع أزيز الحبال الرخوة على قاعدة الطبل عندما سعى والدي لمدها، وصوت صرير البراغي النحاسية التي تشد الجلد بإحكام عندما همست أمي بمساعدتها ونخر والدي وتمتم بصبر محبط. لا أزال أرى اليوم بعين عقلي- بعد مرور خمسين عاماً- خرزة الضوء الأصفر من تحت باب غرفة نومي مع تقدم الليل وأنا أنتظر، بصمت ولهفة.
انبلج الفجر ولم يكن قد أصلح شيئاً بعد. وقفنا نحن الثلاثة في وهج شجرة عيد الميلاد المبهج وحدقنا إلى الطبل الخشبي الأنيق، جلدته موصولة من جهة واحدة فقط، وما من حبال. كان عصوان خشبيان وفرشتان معدنيتان قابلتان للسحب، عقدت أمي كل زوج منهما معاً بشريطة من الساتان الأحمر، مسندين على هيكل الطبل الناقص. من الواضح أن سانتا لم يكن يملك وقتاً كافياً. ففي النهاية كان هناك أولاد وفتيات آخرون أيضاً على طريقه.
من الذكريات الأخرى واحدة عن كيس الملاكمة، ثبت والدي دعامته السوداء المعدنية بمسامير لكنها لم تتثبت على الجدار القائم في غرفة منتفعاتنا، انتفخ الكيس البني الرخيص بإحكام وتدلى على الخطّاف- الذي له شكل حرف s - المزود به. عندما ضربت الكيس ضربتي الأولى القوية، سقط البدعة كلها. ثبتناه ثانية، ضربته، وسقط مجدداً. بدا أن الأمر الوحيد الذي يبقيه ثابتاً، يتجلى في عدم ضربه أبداً. حينها كان ممتازاً. عندما توفي والدي وانتقلنا، كان الكيس لا يزال هناك، غير مضروب لكن معلق على الجدار بشكل لائق.
مع ذلك كانت الذكرى عن شجرة عيد الميلاد هي الأكثر حزناً. (حدث كثير من هذه الإحباطات الصغيرة في أعياد الميلاد. أعياد الميلاد يمكن أن تجعل كل شيء مفجعاً للغاية) توجهنا- أبي وأنا- إلى الغابة للبحث عن شجرة. اخترنا الذهاب إلى طريق Natchez Trace العريض. وعندما ارتحلنا برحلة شاقة لفترة من الوقت، وأنا أحمل بلطة الكشاف، لمحت شجرة أعجبتني- شجرة أرز جميلة وتامة، اعتبرها أبي كبيرة وطويلة جداً للذهاب بها إلى منزلنا. لكن عرفت بأنها ليست كذلك. وبعد أن تجادلنا على هذا انتصرت، وقطعت الشجرة سريعاً.
لكن عندما حملناها إلى البيت في السيارة وأدخلناها إلى المنزل، كانت غرفة الجلوس صغيرة جداً بالفعل، سقفها منخفض للغاية- لم يكن سوى منزل شاحب كائن في الضواحي بستة غرف. انثنت القمة التي تخيلتها ممسكة بنجمة المجوس مرتين لتلائم ارتفاع السقف، غضب والدي فجأة، على غير طبيعته تقريباً- أحس بأننا بقطعنا للشجرة قتلنا كائناً حياً. وهذا ما خيب أمله. جرّ الشجرة الكبيرة عبر المنزل ونحو المرآب، ونشر القمة وليس الذيل بمنشار خاص (منشار يتعامل معه شخص واحد كما افترض)، تلك كانت طريقته في تقصيرها، أبسط الطرق، لكن ليس أفضلها. قلت مصدوماً لمرأى الشجرة المشوهة، قمتها الجميلة مرمية ومفصولة عن الباقي: «لقد أتلفت، لقد أتلفتها».
غض والدي بصره وقال متجهماً: «لا، ليست كذلك، إنها ممتازة». وأعرف (الآن) بأنه عرف ما اقترفت يداه. قال منحنياً ليلتقط الشجرة: «سنعيدها الى الداخل».
لكن بحنق قلت أنا فوراً: «لا، لقد أتلفت. لقد نشرت القمة. إنها قبيحة. لم تعد شجرة عيد ميلاد بعد الآن». وقبل أن يتمكن من استردادها، اختطفت الشجرة من ذيلها الدبق، الصمغي، الممزق، رفعته عن رصيف المرآب الأملس، وقذفتها نحوه- ضربته. ضربت والدي بشجرتنا لعيد الميلاد، في وجهه تماماً.
كان هناك الكثير الكثير من الأشياء المشتركة بيني وبين والدي، لم نرتكب خطأ. لم نمارس غالباً الحكم السليم - كما لم أفعل ذلك اليوم- كنا متهورين. افتقرنا ملكة البصيرة والاحتراز. ولطالما دفعنا الثمن كما فعلت ذلك اليوم بلا ريب.
بالتأكيد العائلات السعيدة لا تتشابه كلها. إنها متباينة كلياً. لم يكن النقص في الموهبة الكبيرة، أو حتى في مهارة عادية، عند والدي خللاً أو نقيصة حقيقية، مجرد سهو بسيط في مصنع الله المعقد، وهذا لم يمنعني عن حبه.
عمل والدي بائعاً جوالاً طيلة ثلاثين عاماً. كان أغلب الأحيان غائباً عن حياتنا- حياتي وحياة أمي- يؤدي عمله، الذي أداه على أكمل وجه. ظننت أحياناً أنه لم يعد له أشباه من الرجال أبداً، رجال السنين العجاف – الكساد - أجاد القيام بأمر واحد فقط، لم يكن شديد الطموح، تزوج عن حب زواجاً أبدياً، أسس عائلة، استسلم لتعاقب الأيام. تلك كانت حياة سعيدة، أيضاً. قامر بها.
مرة عندما كنت في العاشرة من عمري، وكنا لا نزال نعيش في منزلنا السابق، في شارع الكونجرس في جاكسون، جلب لي والدي بناء على طلبي دراجة هوائية. عندما جلبها إلى البيت، كانت مغلفة في صندوق مستطيل طويل من الورق المقوى موسوماً بعلامة «Schwinn» وقد كانت دراجة مجمّعة الأجزاء، كبيرة، ثقيلة، بعجلات عريضة، مطلية بالكروم، لها رفارف حمراء وفضية اللون، مع بوق يعمل على البطارية، صنعت لتبدو مثل سيارة سيدان بأبواب أربع قدر الإمكان. لم أر فيما بعد أبداً على وجه أبي سحنة أكثر سعادة كالتجهم القنوع الجدي من الاستحسان الذي منحه لتلك الدراجة، المائلة على مسندها، جمعها بكل أجزائها شخصٌ لا بد أنه عرف بمشاكلنا. عندما انتهيتُ من ركوبها حول الطريق الخلفي، أخذها والدي بنفسه، في لباسه الخاص بالعمل وقبعته وحذائه البني الإيرلندي الذي ينتعله على الطريق. وجال بها مراراً وتكراراً- رجل ضخم، يبلغ من العمر خمسين عاماً، ولد عام 1904، يقود دراجة فتى- حتى عبرت أمي عن اعتقادها بأنه ربما لن يسمح لي بركوبها ثانية، طالما أنه بدا (لها بأية حال، هي التي أحبته أيضاً) أنه يشعر بمثل هذه المتعة منذ هذه اللحظة.

0 تعليق

التعليقات