ناتالي غريب: هجرة الآلهة من سوريا

  • 0
  • ض
  • ض

يبدو السّردُ في رواية «هجرة الآلهة والمدائن المجنونة» (دار سائر المشرق) لناتالي الخوري غريب رصداً للتحوّل الطارئ على الذات في تفاعلها مع تردّي المحيط الجغرافي والاجتماعي، تحديداً المحيط الذي استحال متوحشاً دموياً محكوماً ببشرٍ انقلبوا على قيم الدين والحق والعدالة والإنسان، وانصرفوا ينهشون لحوم أبناء الوطن، ويستطعمون رعبهم: «قُل مجموعات بشرية تمشي بطريقة غير منظّمة، وحوش الغاب آنس منها وآلف، في مشيتها رقص على إيقاع الإنسانية الضائعة، ورائحة الدم النّتن تفوح من مرورهم». يتحوّل البطل سامح، أستاذ الحضارات المثقف والملتزم دينياً، والمحاضر في جامعة حمص إلى أرض خصبة للتفجّع والألم. تستحيل الذاكرة خزاناً لا ينضب للحقد، والتمرد، ورفض التسليم والنفور من الإيمان الذي كان مسكوناً به سابقاً. نقطة البدء تتمثل في مقتل زوجته التي يحبّ: هبة، التي سْجى جثمانها بين يديه، لتتولّد بعدها حيرته حيال واقع عصيّ على التصديق، وليتضادّ هذا الواقع المفجع مع كل السكينة التي كان يغرق فيها فيبددها.

واقع يجعله عرضةً لكل التمرد والرفض والإحباط تقابلاَ مع الزمن الطبيعي القديم الذي تضادّ هو الآخر مع زمن قسري حاضرِ تتحكم في إيقاعه كائناتٌ باتت تصادرُ الحلمَ، تعطّل الفعل، وتلغي كل الرغبات البشرية السّويّة، كرغبة سامح مثلاً في الأنثى مجدداً، ولتعيثَ بالتالي فساداً في الأنفس والأجساد. هكذا تتشكل رويداً، وعلى إيقاع هذه الأحداث هُوّية جديدة للبطل، هي هوية المشكّك الغارق طوال الوقت في البحث عن إجابة السؤال «هل هجرَ الله شعبه؟ كيف تسمح بأن تتقاتل شعوبٌ باسمك؟ هل تُسرّ أن يُكبّرَ باسمك فوق أعناق تُذبح؟». الرافض الهارب المندفع دائماً إلى الأمام متذوّقاً مزيداً من العذاب، ومزيداً من الضياع، يتيقن «أنّ الإنسان مات في الإنسان». تتوالى بعد ذلك الأفكار الفلسفية الوجودية عن ثنائيات الموت/ الحياة، الإلحاد/ التدين، العصبية/ التسامح، الحقيقة/ الوهم... والصراع الفكري بين الدين والشيوعية ولتتكرر معها في الرواية ثنائية الخروج والعودة، الخروج من الوطن/ الخريف الذابل والدم المنساب، والعودة الخائبة إليه، وهي عودةٌ تولد مزيداً من الألم، ومن الانسلاخ عن الذات. يستمر ذلك إلى أن يلتقي البطل في بلاده وتحديداً في حمص/ الخراب برفيق طفولته جميل، الذي سيقوده إلى شيخ متصوف يعمل معه في منشرته. من خلاله، تطلُّ الروائية على الطريقة المولويّة المشهورة في التصوّف، وعلى تاريخ حركتهم، فتصبح بذلك سوريا لوقت معين المكانَ أو الفضاءَ الذي يدمي البطل، والذي يعيد إليه سكينته في آن واحد. وإذا كانت المحاكمات السياسية والأيديولوجية والفلسفية، تنسرب من خلال ترتيب الأحداث الفعلية عبر تسلسلها المباشر، من موقع الذات المثقلة بالأحزان تقودها، وتوجّه مجرى القصة، وتؤولها وفق غايات أخرى غير ما تشير إليه الأحداث الفعلية، من خلال انسيابها المباشر، فذاك لأنّ الروائية تأتي إلى النص والمعاني بين يديها تبحث عن وضعيات وأحداث تستوعب المعنى، وتمنحه وجهاً حديثاً مغايراً. وهذه الاستراتيجية المعتمدة في القصّ التي تكاد تحوّل الفكرة إلى شيء سابق على الحدث، تهيمن على البناء السردي، وتبرّر وجوده، وهي نفسها التي تبيح للروائية في نهاية الرواية أن تطلق الصوت عالياً على لسان بطلها سامح، وهو يعلن بحثه عن آلهة أكثر رأفةً بناسها، وعن كونٍ أكثرَ اتساعاً للحبّ: «أبحثُ عن كون تكون فيه المحبة وحدَها هي الإله والهوية والانتماء والجذور». رواية ناتالي خوري هي روايةُ الأرقِ الإنساني الباحث عن خلاصه في زمن انتهاك حرمة الإنسان وآدميته. رواية الأسئلة الفلسفية الكبرى تُستعادُ عبَر قالب سرديّ مشوّق، وإن كان قاسياً، في محاولةٍ مخلصة لاستعادة الحبّ هويّةً حقيقية لابن الإنسان.

0 تعليق

التعليقات