اللحظة التي يجرؤ فيها صبيّ على تقديم ما رصَفَه من كلامٍ مسجوعٍ إلى معلم اللغة العربية، منتظراً رأيه بقلقٍ شديد، وغالباً ما يكون ردّ المعلم مخيبّاً لظن الصبي، إذ يخبره بأن ما كتبه ليس شعراً، فللشعر قوانينه وبحوره. حينذاك يسأل الصبي أستاذهُ بكبرياء مجروحة «وكيفَ السبيلُ إلى تعلم بحورِ الشعر؟»، فيرشدهُ إلى «ميزان الذهب». اختبارٌ أولُ يخوضهُ الصبي يتوقف نجاحه فيه على سرّ ما زلتُ أجهله، فبينما يذهبُ الصبي إلى عزلتهِ ليحفظَ ألف بيتٍ من الشعر مردداً إيقاع بحورها بهوسٍ طفولي، تجد صبياً آخر يتوقف عند بدء الاختبار، كما حدث لصديقي الذي ورّطني معه حينما قدّمنا «قصائدنا الأولى!» لمدرس اللغة العربية في متوسطة مدينة الكوت (عبد الهادي القصاب)، إذ ما أنْ بدأنا التمرين الأول في تعلم بحر الخبب حتى جاءني بعد يومين ليطلب مني أن أبتعد عنه، وحينما سألته عن السبب أخبرني بأن والدهُ أمره بذلك لأني أُفسد أخلاقه، وعليه الآن أن يهتمّ بدروسهِ ليصبح طبيباً أو مهندساً.

شاءت المصادفة أن يفشل زميلي هذا في الدراسة فتطوعَ في الجيش لينتهي به الأمر قتيلاً في الأيام الأولى من الحرب العراقية الإيرانية، بينما تجاوز الطفل (ح) الخبب والمتدارك والمتقارب ليبدأ بتعلم بحر الرجز.

«لم أدرِ هل (مستفعلن)/ جنّي سبا (مستفعلن)/ ني أم بشرْ (مستفعلن)... لم أدرِ هل جنّي سباني أم بشرْ/ أم شمسُ ظهرٍ أشرقت لي أم قمرْ / مستفعلن مستفعلن مستفعلن».

فُتح البابُ وأطلّت الأم لتجد طفلها هائماً في بُحرانهِ يردد كلماتٍ لم تلتقط أذنها منها سوى «جنّي» و»مستفعلن». في اليوم التالي، سمعها تتوسل بأخيه الكبير أن يأخذه إلى الشماعية (مستشفى الأمراض العقلية في بغداد). تطلع الصبي إليها بكبرياء وقال «أنا شاعرٌ ولستُ مجنوناً». نظرت الأم إلى طفلها بانكسار ورددت بخيبة «طيّح الله حظك».

وهكذا. كم دفترٍ سوّدتُ أوراقه ووضعتُ له عنواناً غامضاً، متطلعاً إليه من جهاتٍ مختلفة، باعتباره الديوان الذي ستتلقفه الأيادي ويقيم دنيا الشعر ولا يقعدها، وكم من متعةٍ حُرمت منها بسبب ترفعي عمّا يشغل أقراني من الصبيان وعزائي أني شاعرٌ لا ينظر إلى التفاصيل الصغيرة في الحياة بل يحمل رسالة اصطفاه القدر من بين أقرانه لحملها.

بدأت إشارات الحلم واضحة وهي تشير إلى طريقٍ، صواهُ البارزةُ للعيان أفعمتني بالأمل الذي لم يبقَ لتحقيقه سوى بضع خطوات، خاصة بعدما بدأت قصائدي تجد طريقاً ضيقاً إلى الصحف العراقية، بل توهمتُ بأني قد قطعت مسافةً ليست قصيرة، بعد أن ظهرت لي في نهاية السبعينات قصيدة في مجلة «الآداب» البيروتية، شاءت المصادفة أن تكون قصيدتي «حالتان» بين قصيدة لعبد الوهاب البياتي وأخرى للشاعر الجزائري جمال الدين بن الشيخ بترجمة أدونيس. إذنْ، ها أنا أقف الآن بين عملاقين.

لكن.. لم تمضِ سوى بضعة أشهر حتى وجدتُ نفسي سائق دبّابة في مدينة المحمرة (خرمشهر) الإيرانية، في أشرس معارك خاضها الجيش العراقي نهاية عام 1980.

لم يعد للفراهيدي وإيقاعاته من وجود، حيث لا إيقاع سوى صفير القذائف ونعيق الراجمات.


أسوار


(لم يكتبْ عنها كافافي)

حينما شرعَ البناؤون ببناءِ جدارٍ حولي

كنتُ أحلمُ باللبلابِ

وحينما أشادوا السقفَ

صارتْ عندي زاويةٌ أرحلُ منها

وحينما سمّروا النافذةَ الوحيدةَ بقطعةِ خشبٍ أسود

فرحتُ ـ لأني أملكُ لوحاً ـ

في الصبحِ وجدتُ شرطياً عند البابِ

عندئذٍ أيقنتُ بأن اللعبةَ متقنةٌ.



كان الشعر بَطراً أو مراثيَ

للنفس مجاراةً لقصيدة

مالك بن الريب



(1981 ـ مشارف عبادان)

سنةٌ قضيتها في الحرب، وسنة أخرى في الاختفاء منتظراً الموت خلالهما، كل دقيقة يأتي إلي بشظيةٍ ضالة أو بوشاية من طفل الجيران تؤدي بي إلى قبضة جهاز الأمن. كان الشعر بَطراً أو مراثيَ للنفس مجاراةً لقصيدة مالك بن الريب، أما الدفتر الذي حلمتُ أن أراه ديواناً، فقد تحول إلى شاهدة قبر، حتى جاء القرار بالمجازفة للالتحاق برفاق الأمس. وفي فجرٍ شتائي مظلم، حملتُ حقيبةً صغيرة، متوجهاً نحو جبال كردستان ومنها يممتُ وجهي شرقاً، مشياً في ثلجٍ يصل حدّ الحزام.

[لم أستطعْ إغلاقَ أبوابي

لأستريحْ

لكنني استطعتُ أن أغلقَ بابَ الريحْ

28/12/1982 بيران شهر]

وبدأت رحلة المنفى، بين الوحشة والجوع وغياب الأفق، حتى الوصول إلى وهمِ (إيثاكا) الدنماركية عام 1985.

في الدنمارك، استيقظت فكرة ترتيب ما تراكم من القصائد لإصدارها ككتاب وضعت له عنواناً «أقول: احترسْ أيها الليلك»، على الرغم من أني لم أرَ الليلك ولم أكن أعرف ممَ سيحترس. قصائد من شعر التفعيلة باستثناء القصائد التي كتبتها حينما كنت جندياً في جبهة الحرب ولا أدري لماذا كتبتها نثراً. أرسلتُ مخطوطة الديوان إلى أكثر من دار نشر بيروتية ودمشقية. انتظرتُ شهوراً ولم أحصل على جواب، حتى خطرت في ذهني فكرة أن أكتبه بخط يدي وأطبعه في مطبعة دنماركية. تبرع صديق خطاط بكتابة الديوان ووضع له غلافاً خط عنوانه بخط الثلث المتقن، فبدا كأنه تحفة فنية زاهية مما شجعني على أن أوافق على ما طلبه صاحب المطبعة من مبلغٍ لا يجرؤ لاجئ أن يدفعه. لهذا الديوان حكاية مؤلمة فهي تذكّرني بأمرٍ لا أعرف تفسيراً له سوى سوء الحظ، إذ أني وقد بلغت الآن الستين من عمري لم أنجح مرةً في إنجاز عمل في المحاولة الأولى.

في صباي، قضيت شتاءات عديدة بقميص مهترئ حتى جاء الفرج واستطاع أهلي تدبير ثمن خياطة بدلةٍ. اشتريت القماش وذهبت به سعيداً إلى أمهر خياط في مدينتي. وبعد انتظار طويل، استلمت بدلتي (ببنطالٍ شارلستون وسِترة بفتحة واحدة). ارتديتُ بدلتي ودرتُ أمام المرآة دورتين مزهواً، وفي الدورة الثالثة تهشمت فرحتي حيث أني اكتشفت أن الخيّاط قد ارتكب خطأ كبيراً، فعلى فتحة السِترة تماماً جاءت عبارة Made in England. كابرتُ وكظمت غيظي، لكني لم أستطع الصمود أمام سخرية زملائي في المدرسة. عدت إلى البيت. مسكت السِترة من فتحتها وبكلتا كفّي شققتها إلى نصفين، وعدتُ إلى قميصي المهترئ أقضي به شتاءً قاسياً آخر.

هذا ما حدث لي مع ديواني الأول، فبعد أن دفعت مبلغاً كبيراً لصاحب المطبعة الدنماركية، واخترت له ورقاً صقيلاً وغلافاً أنيقاً، حصلتُ على نسخ الديوان وقد طُبعتْ بحجم كبير (بطول ذراع) وجاءت أغلب صفحاته مقلوبة. أخذت خمسين نسخة منها (للذكرى)، ورميت مئات النسخ في حاوية النفايات.

بعد هذا الديوان، انتقلت إلى كتابة قصيدة النثر، فأصدرتُ ثلاث مجاميع، وبعد مراجعة لتجربتي وجدتُ أني في كل ما كتبته كقصائد نثر كنت أتحايل على نفسي للتعويض عما ينقص القصائد من إيقاع ارتبط في تجربتي حتى أصبحتُ لا أتخيل شعراً بدونه، فوجدت أن في كل ما كتبته من قصائد خيطاً سردياً قصصياً. أفرغتها من الاستعارات وأضفت إليها جملاً تربط فواصلها فتحولت إلى قصص قصيرة.

أغراني الأمر فاكتشفتُ في النثر القصصي متعة لا تقل عن متعة الشعر، فأصدرت مجموعة قصصية وكتاباً في السيرة الذاتية لأتحول بشكل طبيعي إلى الرواية حيث أصدرت خمس روايات، بينما أصبح الشعر لا يأتيني إلا مموسقاً، فأصدرت ثلاث مجموعات شعرية خالية تماماً من قصيدة النثر، لأعود إلى طفولتي الشعرية وإلى البراءة الأولى في مجموعتي الشعرية الأولى.

سبعة عشر كتاباً أصدرتُ، ولكن لا تزال غصّة في نفسي بسبب ما حدث لي مع مجموعتي الشعرية الأولى.