«وكم ذا بمصر من المضحكات... ولكنه ضحكٌ كالبكا». هكذا وصف المتنبي قبل مئات السنين، ما رآه «حالاً مائلاً» في مصر التي عاش فيها لفترة بعدما خابت مساعيه بالشام والعراق. والمضحك اليوم، هو حالة التضييق التي تتم ممارستهما ضد بعض المؤسسات الثقافية الفاعلة، في بلد تزعم قياداته أنها تخوض حرباً ضروس ضد الإرهاب، ويطالب رئيسه بتجديد الخطاب الديني المتكلّس والمتطرّف.
سنترك جانباً الحكم القضائي الذي أدين به الباحث والمفكر الشاب إسلام بحيري «رئيس مركز الدراسات الإسلامية» في مؤسسة «اليوم السابع»، بدعوى أنّ الذين تمكّنوا من زجه وراء القضبان وفقاً لحكم قضائي، هم في النهاية من المحسوبين على التيارات الإسلامية. هؤلاء بطبيعة الحال خصم رئيس للحراك الثقافي المصري والجماعات الثقافية. وهم ذاتهم مَن حاولوا إدانة الروائي الشاب أحمد ناجي، بعدما نشر فصلاً بعنوان «حيوانات القاهرة»، من روايته المصوّرة «استخدام الحياة» (دار التنوير). ولحسن الطالع، أو ربما كي لا تصبح النتيجة ثقيلة في المواجهة بين الثقافة والإسلام السياسي، فقد تمت تبرئة ناجي، ومعه طارق الطاهر، رئيس تحرير مطبوعة «أخبار الأدب» التي نشرت الفصل إياه. سنلقي كل ذلك العبث جانباً، ونكتفي بابتسامة حسرة، تحيلنا فوراً لـ «ضحك كالبكا».
لكن تطوّرات حصلت في الأسبوع الأخير من عام 2015، حين داهمت حملة أمنية بعض المراكز الفنية، مثل «غاليري تاون هاوس»، ومسرح «روابط»، و«دار ميريت للنشر والتوزيع»، جاءت كتصرّف مخالف لمسار الأحداث في البلاد، حيث يحاول مثقّفوها نفض الغبار عن الأدمغة، بفنونهم ودراساتهم البحثية والفكرية. ولا يبدو أنّ هذه الأحداث ناتجة عن تحركات متطرّفة ــ سواء من أفراد أو جماعات ــ بل هي تحركات لأجهزة إدارية وأمنية في الدولة.
داهمت الحملة «روابط» و«تاون هاوس» بحجة وجود مخالفات إدارية، وعدم وجود مخرج طوارئ، ليتم تشميع المكان بالشمع الأحمر. ووفق مدير الغاليري ياسر جراب، فإن المآخذ الإدارية التي أدت إلى تشميع الغاليري حقيقية، إذ يقول جراب: «نعم هناك بعض الأوراق الإدارية غير المستوفاة، لكن على أي حال، نحن نعمل منذ سنوات بما في حوزتنا من أوراق وتراخيص. الجهات الأمنية محقّة في تشميع المكان! لكنه سيكون تشميعاً مؤقتاً ريثما نستوفي أوراقنا ونقنن وضعنا. أنا فقط أعتب عليهم لأنهم لم يمهلونا وقتاً كافياً لنمضي في تلك الإجراءات». موقف الناشر محمد هاشم، مدير مؤسسة «دار ميريت» أكثر حدّة من موقف جراب الذي يبدو حذراً في تعاطيه مع القضية. يقول هاشم: «لماذا في هذا التوقيت بالتحديد، يتم اقتحام الدار بحجة واهية ومضحكة، بحجة أنّ بعض مطبوعاتنا ليس لها أرقام إيداع؟! لقد تأسست «ميريت» عام 1998، ورخصة مزاولة المهنة صادرة عن الغرفة التجارية وكل أوراقنا سليمة، فمن المعيب أن يستخدموا هذه الحجة الهشة ليقتحموا الدار. شخصياً، لا أرى سبباً فعلياً يجعل السلطة تتخذ إجراءات مماثلة، سوى أنّها تستفزّ الناس، وتعمل على إثارة ردود أفعال غاضبة من المثقفين، لكي يستطيعوا الترويج ضد «25 يناير»، ونحن على بعد أيام من ذكراها الخامسة. يبدو أن دور «ميريت» في «ثورة 25 يناير» ما زال يؤرقهم، كما أن عدم خضوعنا لأي رقابة على الأفكار أمر يزعجهم. فالرقابة الوحيدة التي نخضع لها هي رقابتنا نحن على جودة وكفاءة منتجنا الثقافي». وبانفعال، يواصل هاشم: «ردي عليهم أننا لن نخاف، وأنّ الدواعش الذين يتكاثرون في المساجد لن يرهبونا، وسنظل مركزاً لإطلاق الثقافة التي تحارب الظلاميين في كل مكان، ولن نخضع مطبوعاتنا لأي رقابة».
كل معارك المثقفين المستنيرين مع الفقه الإسلامي كانت إقداماً ثم تراجعاً (حمدي أبو جُليّل)

وعلى خلفية مداهمة «دار ميريت»، تمت مصادرة سمّاعة ومايكروفون، يتم استخدامهما في الأمسيات والندوات التي تقيمها الدار، كما تم اصطحاب أحد الشبّان العاملين في الدار (محمد زين) إلى تحقيق سريع في المخفر. هناك، سُئل عن علاقته بالدار (عمل تطوعي)، وعن علاقة مدير الدار بالسياسة والعمل السياسي، وقد أجاب زين: «لا أعلم». وتجدر الإشارة هنا إلى الدور المحوري والحيوي الذي لعبته «دار ميريت» إبان ثورة 2011 في مصر، بين استضافة الثوار وتبني خطاب الثورة وترجمته إلى فعاليات فنية.

جذور التضييق الأمني

لا ترجع جذور هذا التضييق الأمني إلى الأيام المنقضية فقط، أو حتى إلى تاريخ القضايا التي أثيرت ضد كل من إسلام بحيري وأحمد ناجي في منتصف 2015، بل تمتد إلى ما قبل ذلك بأشهر عدة. ذروة تلك الأحداث حين اتخذت «مؤسسة المورد الثقافي» قراراً بإغلاق مكتبها الإقليمي في مصر. حدث ذلك خلال تولي بسمة الحسيني رئاسة مكتب القاهرة. عن ذلك، تقول الحسيني: «خلال الفترة من تموز (يوليو) إلى تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٤، أصدرت الدولة (وزارة التضامن - رئيس الدولة) قرارات وقوانين تجرّم الكيانات الثقافية غير الهادفة للربح وتهدد بسجن العاملين فيها وداعميها. في آب (أغسطس) ٢٠١٤، منع «الفن ميدان». وفي ٢٠١٥، تم مسح غرافيتي الثورة من محيط ميدان التحرير. وفي آب (أغسطس) ٢٠١٥، تم اقتحام شركة «زيرو برودكشن»، واعتقال المخرج تامر السعيد لمدة قصيرة. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٥، تم اقتحام «مركز الصورة المعاصرة» واعتقال أحد العاملين فيه ثم توجيه اتهامات إلى رئيس مجلس إدارته. في كل حالات المنع والاقتحام والاعتقال والإغلاق هذه، استخدمت أسانيد قانونية يبدو أنّ لا علاقة لها بالسياسة مثل المصنفات الفنية والضرائب والقوى العاملة، وتنظيم الشوارع إلخ. وفي كل مرة، يتضح أن هذه الأسانيد مزيفة وأنّه ليست هناك مخالفات قانونية. والأدهى أن حتى لو وجدت هذه المخالفات القانونية، فإنّها لا تستتبع لا الاعتقال ولا الإغلاق ولا الاقتحام ومحاصرة الأماكن بقوات أمنية».

صرخات وبيانات

الشاعر سمير درويش، رئيس تحرير مجلة «الثقافة الجديدة» الصادرة عن هيئة قصور الثقافة في الوزارة، أبدى استياءه العارم من الحملات التي يتعرض لها أهل الثقافة. يقول صاحب «أبيض شفّاف»: «الدولة في حالة لخبطة وعدم اتزان، ولا تعرف ماذا تريد بالضبط. من ناحية، تقول إنّها تواجه الإرهاب، وتقبض على أعضاء جماعة الإخوان باعتبارهم متشددين يسوقون الشباب بشعارات براقة ـ كاذبة- لممارسة العنف، وتنادي- على لسان رئيس الجمهورية نفسه- بضرورة تجديد الخطاب الديني، فنجد هيئة كبار العلماء تخصص مؤتمراً دوليّاً تحت هذا العنوان. ومن ناحية أخرى، تغمض عينيها على وجود حزب ديني علني، هو حزب «النور» السلفي، وتسجن التنويريين وتضيق على الفن والإبداع باعتبارهما خارجين على نمط الدولة القديمة التي تحرسها بتفان!».
ويتّفق الشاعر والمترجم رفعت سلاّم مع الرأي السابق، مؤكداً أنّ النظام هو الذي يحاول القضاء على الثقافة: «بإجراءاته الأخيرة، كشف النظام أنه معادٍ للثقافة عداءً عميقاً إلى حد الرغبة في استئصالها من جذورها، من أساسها بدءاً من دور النشر إلى المسارح الحُرة، فقاعات عرض الفنون التشكيلية، إلى تقديم الكتّاب إلى المحاكمة والسجن».
الروائي حمدي أبو جُليّل يؤكد أن عملية الكر والفر بين المثقف، والجماعات المتطرّفة أو من يمثلهم، قديمة قِدَم الثقافة المصرية نفسها، إذ يرى مؤلف «لصوص متقاعدون» أن صمود إسلام بحيري وعدم تراجعه عن موقفه، يكسر قاعدة «الإقدام ثم النكوص» التي وصمت المثقف المصري على مدار القرن الماضي: «كل معارك المثقفين المستنيرين مع الفقه الإسلامي كانت إقداماً ثم تراجعاً. المثقف يقول قولة الحق الكفيلة بنسف هذا الفقه من أساسه. ولما يُهاجَم من المجتمع ويُهدَد بالسجن والقتل، يخاف ويتراجع ويعتذر. طه حسين كتب علامته الخالدة «الشعر الجاهلي» الذي ينسف كل الأساطير من أساسها، ولو مشينا وفق ما كتبه، لكان مسح شرائع «داعش» من التاريخ. وحين هبّوا عليه ولقي نفسه قيد التحقيق والحبس، اعتذر وتراجع وأعاد طبع كتابه مشذباً ومغلولاً. وبعدها بخمسين سنة، خاف نجيب محفوظ واعتذر عن رواية «أولاد حارتنا» ومنع نشرها في مصر خوفاً من القتل الذي أتاه أيضاً. وبعدها بخمسين سنة، وعندما تعرّضت للمحاكمة، دافعت أنا شخصياً مع أستاذي إبراهيم أصلان عن نشر رواية «وليمة لأعشاب البحر» بصفتنا المسؤولين عن النشر، بنفس منطق مهاجميها من القتلة والإرهابيين. ثم جاء إسلام بحيري ليقول قولة الحق ويصر عليها ويخوض الحرب، حرب الحرية والإنسان، حتى النهاية».
على ضوء هذه الهجمة التي يتعرض لها المفكرون والمثقفون خلال الأيام الأخيرة، أصدرت عشرون منظمة ثقافية وحقوقية بياناً يندد بالإجراءات الأخيرة. وجاء البيان الذي تمت صياغته بلهجة شديد وغاضبة، ليعلن بشكل صريح عدم قانونية تلك الإجراءات، فـ «الحكومة المصرية بتبنّيها لهذه الحملة الأمنية التي تستهدف ترويع العمل الأهلي والثقافي المستقل، تنتهك عدداً من التزاماتها الدولية، التي بموجبها يجب أن تمتنع أجهزة الدولة عن التدخل في أنشطة هذه المؤسسات بما يفرض عليها قيوداً تعطل جوهر حرية العمل الثقافي وحرية الإبداع، فضلاً عن انتهاك هذه الإجراءات لالتزام الدولة الإيجابي بضرورة التدخل لدعم وتشجيع الصناعات الثقافية وإزالة العوائق كافة التي تحول دون ممارسة هذه المؤسسات لأنشطتها. هذه الالتزامات نصت عليها اتفاقية اليونسكو لدعم وتشجيع كافة أشكال التعبير الثقافي الصادرة في ٢٠٠٥، وصادقت عليها مصر، كما تتعارض هذه الإجراءات مع الدستور المصري الحالي، وفقاً لأحكام المادتين ٦٥ و٦٧».
المنظمات الموقعة على هذا البيان طالبت الحكومة المصرية باحترام التزاماتها المشار إليها وبالتدخل فوراً لوقف هذه الإجراءات ضد المؤسسات الثقافية وبتمكين القائمين على إدارة المقار التي تم إغلاقها من إعادة فتحها مرة أخرى أمام جمهورها.