هل يمكن لأي كلمة أو لأي لغة، مهما كانت ثرية بالمفردات، أن تشرح المآسي المرافقة للحروب، والهروب منها واللجوء إلى بلاد أخرى أكثر أماناً؟ لقد رأينا مشاهد مفزعة كثيرة عن الحرب، واللجوء، سواء صور جثامين الضحايا الطافية على سطح البحر الأبيض المتوسط، أو تلك الملقاة على الشواطئ. ورأينا صور الناجين وهم ماشون في الوحول وتحت المطر في طريقهم إلى دول أوروبية طالبين اللجوء إليها. رأينا المعاناة على وجوه النساء والأطفال الذي اضطروا للسير مئات الكيلومترات كي يبتعدوا، أكثر ما يمكن، عن مراكز النزاع في سوريا والعراق وغيرهما.
الكاتب كريم الجوهري والكاتبة ماتِلدا شفابندر صحافيان عملا قبلاً للتلفزيون الألماني، ومن ثم للنمساوي. كريم الجوهري مدير مكتبه في القاهرة. أما ماتِلدا، فقبل الانتقال إلى النمسا، كانت مراسلة في إيطاليا حيث حوى إسهامها ما لم تنشره وسائل الإعلام/ التضليل، أي المعاناة والمساعدة أيضاً، في جزيرة لمبدوسا الإيطالية، مركز المهاجرين الآتين عبر شواطئ البحر المتوسط الجنوبية، من أبعد منطقة في جنوبي أفريقيا، إلى أقربها في شماليها. وسنعمل في المستقبل على عرض كتاب عن تلك الجزيرة الإيطالية، تاريخاً وحاضراً.
لا شك أن كل فرد في سوريا، حيث أقيم، سمع عن أشخاص غادروا البلاد بالطرق غير الشرعية، لسبب من الأسباب لا تهمنا هنا، بل كل منا يعرف زملاء أو معارف أو حتى أصدقاء قرروا المخاطرة بحيواتهم وحيوات عائلاتهم تاركين ممتلكاتهم، أو اضطروا لبيعها بأبخس الأثمان!
المؤلَّف يقول: كيف يمكن الكتابة عن هذا الموضوع الإنساني على نحو يثير في القارئ تَلَقِّي رسالته الأساس ألا وهي كسب تعاطفه مع اللاجئين وتقديم المساعدة لهم.
هل وجب الكتابة على نحو يثير اهتمام أحد المخرجين لتستحيل عذابات هؤلاء النازحين فيلماً هوليوودياً؟
الكاتبة والكاتب، مدير مكتب التلفزيون النمساوي الحكومي للشرق الأوسط ومقره في القاهرة، صحافيان مهمان يتقنان عملهما وقدما في هذا المؤلف عرضاً مهماً لمآسي النازحين، من غامبيا وإريتيريا وزمبابوي حيث تستغرق رحلة العذاب سنوات، إلى سوريا والعراق وأفغانستان، مروراً بلبنان.
البيروقراطية الأوروبية لا ترى في هؤلاء البشر سوى أرقام

ما نراه من صور على أجهزة التلفزيون لا تعكس سوى قسم ضئيل من كم المعاناة، بمختلف تجلياتها. نرى صور رجال ونساء، شيوخ وعجائز، حوامل ومرضعات وأطفال، يخوضون الوحول، تحت المطر في حقول تغطي بعضها الثلوج. تمرّ الصور أمام أعيننا لدقائق قليلة، ثم نعود إلى بيوتنا للتمتع بدفئها.
المؤلف كتبه الصحافي والصحافية بهدف شرح المعاناة التي مر بها كثير من اللاجئات واللاجئين للأوروبيين، وكسب تعاطفهم وتفهمهم للضحايا وقبولهم. لكنهما في الوقت نفسه شرحاً الأرباح الهائلة التي تجنيها عصابات التهريب من عذابات الضحايا، والمبالغ الابتزازية التي يطلبونها مقابل إيصالهم إلى الأراضي الموعودة في القارة الأوروبية.
أسلوب الكاتبة والكاتب صحافي بامتياز، احترافي، لكنه لا يخلو أيضاً من العواطف تجاه الضحايا والمآسي حتى ليشعر المرء بأنه اكتفى ويصعب عليه مقاومة رغبة الإلقاء بالكتاب جانباً.
كريم الجوهري، على سبيل المثال، احتار في كيفية تقديم صورة حقيقية للمعاناة للقارئ الأوروبي ليكسب تفهمه وتعاطفه. رأى أخيراً أنه عليه العثور على مصير عائلة لاجئة تتمتع بدخل جيد يمكن للمواطن الأوربي المتوسط التماهي معها وتصور نفسه في مكانها، فوجدها في أحد مخيمات اللجوء في لبنان. قصة عائلة من حمص، اضطرتها الظروف للمغادرة إلى لبنان، الرجل وزوجه وابنته وابنه. الإقامة في المهجر الطوعي/ الإجباري طالت، فاضطر لبيع ممتلكاته بما في ذلك حلي زوجه للبقاء على قيد الحياة، ثم نقرأ بعد ذلك رغبة الابن في بيع كليته ليسدد بثمنها كلفة الرحيل إلى أراضي الميعاد شمال البحر المتوسط.
قصص كثيرة نقرأها في المؤلف منها أيضاً حكاية امرأة مسافرة عبر البحر المتوسط إلى أوروبا مع آخرين ومعها أبناؤها. في الطريق، انقلب الزورق وغرق من غرق. الأم كانت ترتدي طوق نجاة مخصص لفرد فحسب، تعلق على أطرافه الأبناء والبنات الخمس. بعد حين خارت قواهم فأفلت أكفهم الصغيرة واحدة تلو الأخرى، وابتلعتهم أمواج البحر، أمام عيني الأم الثكلى.
وكذلك، هناك قصة المرأة التي استقلت هي وابنها، مع غيرها، زورقاً من شواطئ مصر تجاه أوروبا. بعد فترة، اكتشفهم خفر السواحل المصري فأطلق النار عليهم وقَتَل الابن.
أما متِلدا، فتروي قصص القادمين من أقاصي إفريقيا إلى جزيرة لمبدوسا الإيطالية. تعرض مآسي بعضهم وقصص المتطوعين الأبطال ومنهم أطباء، يسهرون ليلاً نهاراً لرعاية اللاجئين، وعن البيروقراطية الأوروبية التي لا ترى في هؤلاء البشر سوى أرقام.
ليس سهلاً أن يقرر المرء عدم التوقف عن القراءة، لكنه مهم ووجب إدراجه إلزامياً للسياسيين والتلاميذ ولكل من يهزأ بهؤلاء البشر ومعاناتهم.