لا يبدو اعتباطياً ذلك الحذف الذي مارسته الناقدة المصرية شيرين أبو النجا بشأن صفتها الأكاديمية المعروفة أمام اسمها المكتوب على غلاف إصدارها الجديد «المثقف الانتقالي... من الاستبداد إلى التمرد» (روافد- القاهرة). لقد جاء اسمها عارياً من أيّ صفة على عكس عادة سائدة لدى أهل المجال الأكاديمي المصري المأسورين بهوى إلصاق صفة «دكتور» على هويّاتهم ولو كان كتابهم الصادر ديواناً شعرياً أو رواية. لن يظهر ذلك الحذف بعيداً عن سياق المعنى الذي قصده الكتاب بتفكيك حالة الأكاديمية و«المثقف» بين حقبتين؛ ما قبل الربيع العربي وما بعده. هذا مع إجراء لافت آخر ستقوم به أستاذة الأدب الإنكليزي في «جامعة القاهرة» وهي تكتب تنويهاً على الصفحة الأولى من كتابها مفاده وجوب أن يستردّ مصطلح «تحرير» قيمته ومعناه الأصلي ومكانته اللائقة في المجال الثقافي بعدما صار ملتبساً في العالم العربي «بسبب ارتحال المصطلحات».
ولهذا، دوّنت شكرها لأحد الأصدقاء (أحمد عبد التواب) الذي قرأ مسودة الكتاب الأولى ليقترح بعدها على صاحبته إضافة وقائع ذات دلالات وحذف فقرات وتصحيح أسماء وردت فيه ليظهر في النهاية على الصورة التي خرج بها.
عليه، لن يكون هذا الافتتاح بعيداً عن فكرة الارتباك التي سادت المشهد الثقافي المصري في الشأن المتعلق بماهية المثقف وتعريفه في تواز مع حالة العشوائية التي اكتسحت عملية إنتاج المصطلحات وإعادة توزيعها، ما أدى إلى توسع حالة من الممارسات الثقافية العشوائية المبنية على جسر من التواطؤ والشللية. لم يكن صعباً فهم الأسباب التي أنتجت فشل المثقف المُفترض في إحداث أيّ تغيير ملموس على الأرض أو تأثير بسيط على مستوى الشارع إلى أن وصلت الحال إلى أن «فقدت كلمة «المثقف» معناها، وسبّبت حساسية معينة. حتى أنه كلما استخدمها أحدهم، سارع الآخر إلى تأكيد أنه لا بد من إعادة تعريف المصطلح. من هنا صار ممكناً الحديث عن مسألة الإحراج التي تعرّض لها شكل المثقف المصري الذي ظلّ منشغلاً بتكريس وتوظيف «الثقافة» لصالح السلطة، هو المترفع والمنعزل غير القابل للنقد أو المتقبّل لأي تعليق حول الأداء الثقافي الذي يقدّمه. وقد تحطمت صورة ذلك «المثقف» عبر جيل جديد ارتبط بالشارع وقام بتقديم اقتراحات ثقافية على الأرض وغير منفصل عنها. تشير صاحبة الكتاب إلى أن ذلك المثقف قد بذل مجهوداً لافتاً خلال «المرحلة الانتقالية» تلك وهو يحاول استعادة دوره كمثقف عضوي وفق تعريف أنطونيو غرامشي في «كراسات السجن». هكذا ظهر أنه يزيح عن ظهره «رداء المثقف التقليدي»، في حين ظلّت التحالفات والجماعات الثقافية مرهونة بالعلاقات الشخصية في الدرجة الأولى وبعلاقاتها بمختلف أشكال الخطاب الأبوي ومتطلباته. في هذا الوقت، لم يكن الجيل الجديد من أهل الثقافة على استعداد للدخول مجدداً في العباءة الأبوية نفسها. قد قرّر الذهاب بعيداً في علاقته مع السلطة بكافة أشكالها وتأسيس منطقة مختلفة تجعله على ارتباط مع الشارع بشكل مباشر ومن دون أيّ حواجز سلطوية تعيقه عن ذلك.
وفي سياق تأثير أحداث «الربيع» وخلقها مناخاً يسمح برصد وتحليل ما حدث في تلك المرحلة الانتقالية بما يسمح بإعادة النظر في آليات تفكير وخطاب المثقف، تخبرنا أبو النجا أن نقطة انطلاق هذه الأفكار في كتابها كانت افتراضية منطقية، لكن ذلك لا يعني أنّها غير واقعية: بتنحي مبارك يوم ١١ شباط (فبراير)، تنحت أيضاً كافة مخاوف المثقف وهواجسه.

جيل جديد أراد الانقلاب على سلطة الأب
زالت الحواجز بينه وبين واقع مفتوح على اتساعه، تهدمت الموانع التي كانت تقف بينه وبين طموح وجوده في الشارع وبين الناس. كانت تلك فرضية دعتها إلى التساؤل عما حدث منذ ذلك اليوم. المؤسسة الثقافية المصرية ليست بالهينة ولا عابرة ولا مؤقتة ولا هامشية، «وهو ما دعاني الى إعادة قراءة خطابها واستراتيجياتها الجديدة - جدلاً- في التعامل مع واقع جديد وعالم تشكلت مفرداته وأساليب تعبيره في الشارع حرفياً، بل الوعي نفسه الذي تسيّد اللحظة كان مبهراً في جدته وحاداً في ثورته على سلطة الأب بكل دلالاتها. من هنا انطلق الكتاب، حيث حاولت أن أقرأ هذه اللحظة حتى انتهاء المرحلة الانتقالية، نظرياً من زوايا ومداخل عدة».
على هذا، يمكن الحديث عن جيل جديد لم يهدف من ثورته الهجوم على نظام سياسي بعينه بقدر ما كان يهدف إلى إحداث انقلاب على سلطة الأب تلك على اختلاف أشكالها وأنماطها الموزعة على المجالين السياسي والثقافي على حد سواء. وهنا تظهر صورة «المثقف القديم» الذي يبدو أنه قد تأقلم مع حالة الإذعان التي أدمنها في السابق، مكتفياً باللجوء إلى خطابه الثقافي بعيداً عن المجال السياسي وخطورة الاقتراب منه، ومتجنباً «المناطق التي قد تدفعه إلى صدام عنيف مع السلطة».
لهذا لم يكن مستغرباً أن يلتقط ذلك «المثقف القديم» إشارة الثورة ليصنع لنفسه طوق نجاة من حالة التكلّس القديمة والانتقال بمرافقة الجيل الجديد إلى منطقة مواجهة لم يألفها في السابق. لكن إلى أين انتهى كل ذلك؟
تبدو الصورة اليوم قاتمة تماماً بعد مرور أربع سنوات على «25 يناير» حيث «المؤسسة الثقافيّة لم تطلها إعادة هيكلة أو إعادة نظر في خطابها السائد». وهو ما ينطبق على المؤسسة الأمنيّة التي كانت سبباً أساسياً في خلع نظام مبارك. تلك المؤسسة الأمنيّة بقيت على حالها مع وزير داخلية ثابت في موقعه مردداً خطابه القديم نفسه والدليل ما وصف به جريمة مقتل الشابة شيماء الصبّاغ في وسط البلد وهي تحيي ذكرى «ثورة يناير» الرابعة. خطاب هدفه الأساسي حماية عناصره الأمنيّة المتورطة وتفريغ الجريمة من معناها.
ولا يبدو هنا أن قرار الافراج عن نجلي مبارك وتنفيذه في يوم ملاصق لذكرى يناير أنه جاء مصادفة أو على نحو اعتباطي. وعلى هذا، يبدو أن الوضع لم يتغيّر رغم تبدّل السياق السياسي شكلياً وحيث «كل شيء كما هو: لا شيء يحدث ولا أحد يمر من هنا».