هو ليس حواراً عادياً. إنه سيرةٌ ذاتيةٌ على شكل حوار لأحد رموز الحركة الثقافية (كما السياسية) في لبنان حبيب صادق. لذلك فإن اختصار حياته في كتاب أمرٌ شائك وإن كان حواراً «طويلاً» يحمل عنوان «حوار الأيام» (دار الفارابي). بدأ المشروع عام 2004، بمحاولةٍ دؤوبة من مجري الحوار طانيوس دعيبس لتسجيل فصول من سيرة صادق الذاتية، ضمن مبادرة (أشمل) تدعى «الذاكرة المحكية للبنان» أطلقتها «مؤسسة المحفوظات الوطنية» لتسجيل ذاكرة الوطن على لسان أشخاصٍ عاشوا حياته العامة بكل اتجاهاتها السياسية، والاجتماعية وسواها. تأخر إصدار هذا العمل أكثر من عشر سنوات. ربما كان ذلك ـــ بحسب صادق ـــ يعود إلى أنهّ كان يعتبر «أني لست من أولئك المؤهلين لتدوين سِيَر حياتهم في هذه الدنيا». لكنه غيّر رأيه لأنه لا يريد أن «أثقل على ورثتي فأحملهم عبء معالجة أمري بشأن ملف المذكّرات»، فضلاً عن تأثره بموقف كثيرين من المحبين والأصدقاء الذين آثروا أن ينشر ما جمعه في ملف الذاكرة هذا.
يقسم الكتاب إلى مرحلتين أصليتين: مرحلة الجنوب ومرحلة بيروت. يبدأ من فترة الجنوب التي يقسمها إلى ثلاث مراحل. تتبع المرحلة الأولى طفولته في قريته الخيام، وانتقاله إلى النبطية (حيث ترعرع)، مروراً بتعريف عن الأجواء هناك وعلاقته بوالده الشيخ عبد الحسين صادق وتأثره الكبير به، رغم رحيله المبكر وهو لا يزال حدثاً في الصف الابتدائي الخامس (كان والده رجل دين بارزاً وشاعراً وخطيباً، احتلّ مكانةً سياسية بارزة، فكان الناطق باسم أهل جبل عامل حين قابلوا وفد الأمير فيصل في 1919). نقرأ أيضاً عن علاقته بوالدته منّا راضي وإخوته، وصولاً إلى ذكرياته في قريته والقرى المجاورة. بعد ذلك، يكمل الحوار صعوداً زمنياً باتجاه مراحل الدراسة التي تمتاز بالكثير من القصص والذكريات التي تعبّد الطريق الذي سيسلكه الرجل كي يصبح ما هو عليه. أما مرحلة الجنوب الأخيرة، فهي فترة ما بعد التخرّج، حين أصبح مدرّساً في المدرسة الرسمية متحدثاً عن مراحل تاريخية من تاريخ لبنان المعروفة كانتخاب كميل شمعون واغتيال رياض الصلح والتظاهرات التي أعقبت اغتياله وكيف شارك بها.
في «مرحلة بيروت»، ينهج الحوار نحو حياة صادق في العاصمة. انتقل من قريته الوادعة إلى مدينة مختلفةٍ كل الاختلاف، ليسكن في أحد أحيائها: المصيطبة. يشرح علاقته بالمدارس التي بدأ التدريس فيها حتى انتقل «قسرياً» إلى منطقة جبل لبنان للتعليم هناك في مدرسة الزلقا الابتدائية، وصولاً إلى تجربته في التعليم في سجنَي الرمل والقلعة. كانت أجواء بيروت جديدةً على الشاب القادم من الريف الجنوبي، لكنها أيضاً كانت محفزاً أساسياً له على الأنشطة الثقافية/ الاجتماعية.
واظب على حضور ندوات «الندوة اللبنانية»، و«النادي الثقافي العربي»، وأنشطة ثقافية في «المركز الثقافي السوفياتي». اهتم أيضاً بالكتابة، فكانت أولى تجاربه البيروتية الصحافية في جريدة «الأخبار» (كان مالكها سهيل يموت آنذاك ولم تستمر إلا ثلاثة أشهر) كاتباً ومحرراً (ومشرفاً إدارياً عليها)، كما كان يكتب باسم مستعار هو «أبو جلا» حرصاً على وظيفته الرسمية. كذلك كانت «الفلك العربي» تخصه بمقالٍ؛ إلا أن أول ما نشره من قصائد كان في مجلتي «الألواح» و«الثقافة الوطنية».

تعرض لمحاولة اغتيال في 9 أيلول (سبتمبر) 1977

يتحدث صادق في تلك المرحلة عن علاقته بكثيرٍ من الأدباء والمثقفين القادمين من الجنوب كإملي نصر الله ومحمد دكروب وعبد اللطيف شرارة وسلام الراسي؛ وعلاقته الوطيدة مع الشيخ واللغوي عبد الله العلايلي. بعد ذلك، دخل مراحل مختلفة؛ متشعباً في علاقاته الإنسانية والاجتماعية من خلال أنشطة سياسية واجتماعية وثقافية. كتب للإذاعة اللبنانية برامج ومسلسلات مثل «في مثل هذا اليوم»، «العدالة والحياة»، و«الفصل الأخير»، وساهم في إنشاء «مستشفى الفنار» كأول مستشفى في جنوب لبنان يعالج الأمراض النفسية والعصبية (تم بناؤه أثناء عمله رئيساً لدائرة المحاسبة في وزارة الصحة العامة عام 1964).
يحكي صادق عن انتسابه إلى «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» (عام 1964، أي سنة تأسيسه)، حين ارتبط به «ارتباطاً عضوياً كأنني عثرت على ضالّتي في قيامه». عاد بعدها للعروج على أول انتخاباتٍ شارك فيها (وخسرها) مرشحاً للمجلس النيابي (1968) بعيداً عن «البكوات» الذين كان نفوذهم قوياً للغاية. شارك صادق في انتخابات المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ليفوز بخمسة مقاعد (عام 1975 ضمن لائحة «التضامن الوطني»). أما في مرحلة بيروت الخامسة والأخيرة، فيورد محاولة الاغتيال التي تعرض لها صادق في 9 أيلول 1977 وسنوات «منفاه» الاختياري في بغداد، ثم باريس. يمر على مرحلة الغزو الصهيوني للبنان عام 1982 التي شهدها صادق في بيروت، لينتهي بمرحلة الانتخابات النيابية عام 1992 مرشحاً على لائحة «حركة أمل» قبل أن يقع الخلاف بينهما في المجلس النيابي.
كتابٌ لا يمكن لمقالٍ واحد أن يفيَه حقه، فالتجارب التي مر بها صاحبها تجعل من الصعوبة حصرها، لذلك تجدر الإشارة إلى أنه كتاب يقرأ وأكثر من مرة.