ستدخل النكبة الفلسطينيّة عامها الثامن والستين، ولا يزال التعامل مع العدو الإسرائيليّ محصوراً في اتّجاهين: الانبهار بـ«العبقريّة اليهوديّة» من جهة، أو التقليل من شأن «الكيان الزائل لا محالة». ومع امتداد الأعوام، تحوّلت إسرائيل إلى دولة أمرٍ واقع، بل وصلت الأمور أحياناً إلى انتقال المزدوجين من كلمة إسرائيل إلى كلمة عدو. لا لانتقاد الأطروحات التي كانت ولا تزال تقلّل من شأن العدو بذريعة زواله الحتميّ وانتفاء الحاجة إلى وضعه تحت المجهر البحثيّ، بل لترسيخه كدولةٍ ثابتة، وإزالة أيّ شك قد يطال حقيقة كونه كياناً استعمارياً استيطانياً عنصرياً. بعيداً عن هذين المنطقين الأعوجين، انطلقت أصوات منفردة عدة، لعلّ أهمها «مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، لتضع العدو ضمن موقعه الحقيقيّ عن طريق إخضاعه للبحث العلميّ، كي لا يبقى أسيراً للأسطرة بجانبيها الإيجابيّ (الانبهار) والسلبيّ (التجاهل).
ينطلق فضل النقيب ومفيد قسّوم في كتابهما المهم «الاقتصاد السياسيّ لصناعة التقنيّة العالية في إسرائيل» (مؤسسة الدراسات الفلسطينية) من حقيقة أنّ إسرائيل عدو يسوّق ذريعة وجوده في أرضٍ ليست له بكونه يبني جنّة في صحراء، وبأنّه واحة الديموقراطيّة والتطوّر الوحيدة في الشرق الأوسط. وبالرغم من تركيز الكتاب على الاقتصاد السياسيّ لصناعة التقنيّة العالية في إسرائيل التي تعدّ الجانب الاقتصاديّ الأهم في العقدين الأخيرين على وجه الخصوص، والمصدر الأساسيّ لاكتساب شرعيّة وحقّ الدخول إلى نادي الدول المتقدّمة في العالم، إلا أنّه يمهّد للبحث الأكاديمي الصارم بخلفيّة تاريخيّة لا تبتعد كثيراً عن الهدف المحوريّ للكتاب: أي «تفكيك معجزة التقنية العالية في إسرائيل، لا بهدف نفيها أو التقليل من شأنها، بل كي نؤكّد أنّ خطورة موضوع التقنية العالية لا تكمن في «حقيقة» هذه الصناعة فقط، بل في «الأسطورة» التي يتم نسجها حول تلك الحقيقة». يؤكّد الباحثان أنّ تسويق مفردتي «الأسطورة» و«المعجزة» موجود في جميع تفاصيل الحياة الإسرائيليّة، انطلاقاً من جانبها العسكريّ وليس انتهاءً بجانبها التاريخيّ، طارحين عدة أمثلة تاريخيّة تفكّك الأسطورة العسكرية في حربي عام 1948 و1956.
تشدّد إسرائيل دوماً على «معجزة» اقتصادها الصغير الذي بدأ ينافس بقوة في الحلبة العالميّة. «معجزة» تعتبر أنّها نابعة أولاً من خبرات الجنديّة الإجباريّة التي يخضع لها جميع سكانها تقريباً بحيث يكتسب الإسرائيليّ خبرةً عسكريّة ميدانيّة إلى جانب خبرته العمليّة في اختصاصه التي سيستثمرها لاحقاً في حياته المدنيّة؛ وثانياً، من «مغامرات المهاجرين» وتوظيف مواهبهم وخبراتهم في مجالها الصحيح. ولكنّ النقيب وقسّوم يشدّدان على أنّ هاتين السمتين خاصتان بإسرائيل، وبالتالي لا تصحّ مقارنة تطوّر اقتصادها مع دول أخرى، وبخاصة أنّ إسرائيل تتفرّد عالمياً بكونها معتمدة على موارد الاقتصاد الأميركيّ، أكبر اقتصاد في العالم.

يركّز الباحثان على أهميّة وضع الوقائع ضمن سياقها الصحيح

لا يعني هذا التأكيد ضعف الاقتصاد الإسرائيليّ، ولكنّ الباحثَين يركّزان على أهميّة وضع الوقائع ضمن سياقها الصحيح كي يستقيم البحث العلميّ الجاد، إذ إنّ الاعتماد على الاقتصاد الأميركيّ ليس أمراً عابراً، بل أسهم هذا الدعم «ليس فقط في تمويل نشاط عمليات البحث والتطوير... بل توظيف المعارف التقنية الأميركية في خدمة التقدم التقنيّ الإسرائيليّ. ويمكننا القول إنّ في إسرائيل أفضل العلماء والمهندسين في العالم، لكن من غير الممكن القول إنّ في إمكان هؤلاء العمل على تطوير أحدث التقنيات في المجالات الحربيّة والسلميّة لأنّ ذلك يحتاج إلى إمكانات دولة كبرى». ويشيران إلى أنّ المساعدات الأميركية لا تتأثّر بالوضع الاقتصادي الأميركيّ، فحجم المساعدات الأميركية لم يتناقص بعد الأزمة المالية الطاحنة عام 2008، بل ازداد بمعدل 5% بين عامي 2008 و2013. ولا يُغفل الباحثان الإشارة إلى «نقاط القوة» في التطور الاقتصادي الإسرائيليّ ويؤكدان أنّ هذا التطور ــ منذ بدء الاستيطان الصهيوني عام 1882 ــ كان يتم دوماً في إطار توجهَين مرتبطين: «العمل الدؤوب المتواصل لتحقيق الأهداف المرحلية للمشروع الصهيوني، والعمل الدؤوب المتواصل لاحتلال موقع متقدّم بين بلاد المركز». ويشيران إلى أنّ القدرة الإسرائيليّة على التكيّف بين هذين المعيارين هي أهم إنجاز تمّ في التجربة الاقتصادية الإسرائيلية؛ حيث هناك تصميم واضح لدى الحكومات الإسرائيلية، على اختلاف توجّهاتها السياسيّة، بشأن دفع عجلة الاقتصاد نحو التطور دوماً، ولا سيما أنّ هذا الاقتصاد «كان، ولا يزال إلى حد ما، اقتصاداً تتعايش فيه ممارسات رأسماليّة مع ممارسات اشتراكية، ويزدهر فيه نشاط القطاع الخاص مع دور كبير ورائد للقطاع العام... وقد ساهمت هذه المرونة والتنوّع في إثراء البيئة الحاضنة لصناعة التقنيّة العالية منذ البداية»، وخصوصاً بعد تدفق هجرة اليهود السوفيات والبدء بـ«عملية السلام» التي كان أهم نتائجها إنهاء مقاطعة العالم العربيّ الاقتصادية لإسرائيل وفك العزلة الدبلوماسية حولها.
يختم النقيب وقسّوم كتابهما المهم بالإشارة إلى أنّ عالم الحكومات العربيّة لا يسمح لها بالتعامل مع الجانب الحقيقيّ للتطوّر الاقتصاديّ الإسرائيليّ «لأنّ ذلك يتطلب تغييراً في الأولويات وتغليباً للمصالح العامة على الخاصة، وإنما هو في الواقع يفرض عليها التعامل مع الجانب «الأسطوريّ» الذي يكرّس التبعيّة التي هي جوهر عالم هذه الحكومات». لذلك عملت الخطط الاقتصاديّة الإسرائيليّة دوماً على تشويه الاقتصاد الفلسطينيّ وربطه بعلاقة تبعيّة مع الاقتصاد الإسرائيليّ، عدا عن التأكيد على دمج الاقتصادات العربية في الأسواق العالمية وفق نظام «المحور والأضلاع» بحيث تكون إسرائيل هي المحور. هذا ما نراه عند دمج الاقتصادين المصريّ والأردنيّ في الاقتصادين الإسرائيليّ والأميركيّ، من دون أن يحدث أيّ دمج للاقتصادين العربيين في ما بينهما. وبسبب هذا التفاوت، سيكرّس التطور الاقتصاديّ الإسرائيليّ هذا الوضع على جميع البلاد العربية في حال نجاح العملية السلمية، بحيث تثبّت إسرائيل أقدامها عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.