قبل أيام، كنت أجلس إلى جوار أدونيس في القاهرة وكان يتحدث عن الثقافة العربية التي لم تنجز الأمور التي كان ينبغي انجازها بعد اكثر من نصف قرن من صدور مجلة «شعر». سألته عن الشاعر الذي كان يتوقع منه الوعد الأكبر لينجز مهمة تجديد القصيدة العربية، واختارك من بين كل مجايليك وعاب عليك ما رآه نكوصاً عن هذا الوعد؟ لم تكن إشارته بغرض المساس بك وبمنجزك، فلم نتحدث بغرض النشر الصحافي. كما أنه تناول اسمك بمحبة يصعب تفاديها. لمعت عيناه بشفقة من يستشعر معنى «الفقد» وفداحة «الغياب». وعن لغتك تحدث بفتنة صانع مجوهرات تورط في وصف «جوهرة « تنقص ورشته وتمنتها أصابعه.
رقص صوته أكثر حين قال برجفة: «تمنيت لو حافظ على الطاقة الجهنمية التي انطلقت في «لن»، لكنه أراد أن يبقى ملائكياً أكثر من اللازم». اعترف لك اليوم بأشياء جديدة، كتلك التي اعترفت لك بها وأنا أودعك قبل عام.
تتذكر أنني كتبت لك حينها عن امرأة بكت الى جواري وأنا اقرأ «ماذا صنعت بالوردة، ماذا فعلت بالذهب»، وعن سيدة أخرى نامت على كتفي يوم تعرفت إليها وكانت تقرأ شعرك كما تفعل «بصارة» تضرب الرمل.
شعرك كان طالعها اليومي، تمد يداها الى دواوينك وتختار قبل قهوتها قصيدة، أي قصيدة لتخطو من سريرها!
تقرأ بعشوائية تامة وتختار شكل أيامها وفق هوى قصيدتك وتقرر ما ينبغي فعله وما هو فائض عن الحاجة.
بقيت المرأة التي كانت تبكي حارة وطازجة مثل دمعها ولا تزال تخاف القصيدة وترتجف وظلت الثانية في ظلام أيامها تبحث عن طالع لا يجيء.
أرادت أن تبقى وحيدة كأعمدة إنارة تحرس محطات قطارات همها مؤانسة العابرين. لذلك، أنت ملائكي أكثر من الآخرين.
يصلح شعرك للمواساة. يشبه اليد التي تعطف وتؤازر وتمتد لترسم الطريق. في نصوصك معنى الرفقة بكل ما فيها من حنو وغضب واحتياج للمراجعة.
فيها ملاك لا ينام. يشبه الملاك الذي ساعدنا في عبور الطفولة ولا نذكره إلا مصحوباً بالابتسام كتميمة وهبت لنا سحر الحياة.
هل نفعل ذلك خجلاً من طفولتنا أم هرباً من «ماضي الأيام الآتية»؟ نسيت أن اكتب لك عن دواوينك التي تباع الآن في إحدى مكتبات القاهرة. وضعناها في الواجهة. بياض أغلفتها على النقيض من أيامنا التي أفلتت «خواتيمك» من السواد المهيمن عليها.
اليوم لن يتمكن أحد من المهووسين من اتهام نصوصك بالتعدي على الذات الالهية؟ كيف لم يفهم أن الملاك حاشا أن يفعل ذلك!
جاهدت رشا الأمير كي تضع كتبك بشكل لائق، ولم تفرط أبداً في صيانة نصك من الابتزاز والمساومة. تعرف أنها ثروة «الجديد» تهبها لمن تعرف في أرواحهم الصفاء الذي تستحقه.
ليلة وضعت أغلفة كتبك على صفحتي على فايسبوك، اكتشفت كم كان غيابك فادحاً! أحاول أن أصدق وأنا أراجع سيرتك أنك لم تأت القاهرة ابداً بصفة الشاعر وتساءلت: ما الذي أخافك في مدينتي؟ ما الذي غيب شعرك عنها في زمن توهج نصك.
ساعتها كانت مصر تملك رئيساً يتدخل لتنفرد بلاده بحق انقاذ محمود درويش من الاحتلال ويتأهب لاستقبال نازك الملائكة؟ رئيسنا كان مفتوناً بالأيقونات البشرية، جعل بلادي متحفاً حياً للمقتنيات البشرية. اسأل أيضاً كيف لم يدفعك الفضول الصحافي للتورط في مدينة كان مطبخها السياسي يطهو القرارات اليومية لنصف قادة العالم العربي؟ هل كنت متواضعاً إلى هذا الحد؟ أم كنت تخاف على فرديتك وتحمي نصك من رتابة التكرار؟
نسيت أن أكتب لك إنني مررت ذات يوم قرب مكتبك في «النهار» وكان الباب موارباً، وتوجست من الدخول رغم أنّ لديّ رسالة احملها لك وكانت نسخ تخصك من مجلة الكتابة الأخرى التي اعدت عنك ملفاً ربما كان اول احتفال مصري بالشاعر الذي اراد أن يبقى في «الهامش». خفت من جرح صورتك في ذاكرتي، واردت أن أبقيها صالحة لملاك.