كثيراً ما خيّل إليّ أن نهايات المقالات الأخيرة لأنسي الحاج، قد حوت شعراً أكثر مما احتوت بدايات قصائده الأولى. وفي حديثه عن الحب والشعر والكلام، في تلك الفقرات الأخيرة من أخبار السبت، كان الشعر يقطر أكثر مما تقطّر في «لن» على سبيل المثال، أو هكذا بدا لي. ربما هو فارق النصف قرن بين الديوان الأول والمقالات الأخيرة، وربما هو أيضاً، راحة الشاعر حين يلعب بلا ضغوط خارج ما ينتظر منه الآخرون. إنه الشاعر الذي - كما ذكر أنسي نفسه ذات مرة- تنفتح له الأبواب، إن أراد فعل أي شيء غير الشعر.
بدا ـ إذن ـ مقال السبت كجريدة كاملة، قائمة بذاتها، تبدأ كما تُفتتح الصحف بالسياسة ثم الفكر، وتختتم ـ يختتم- كما تنتهي الصحف بالنوادر والمنوعات، غير أنها كانت سياسة الشاعر في همومها الوجودية، ومنوعات الموهبة في عذوبتها وإشاراتها وتأملاتها.
وفي بحر العذوبة والشعر المقطّر هذا، جاء «البحث عن بشير الجميّل» لا كصدمة ولا كالحجر الشهير في البركة الراكدة، بل كبوح لا يحفل يما يظن الناس –أو ينبغي أن يظنوه – في المثقف الشاعر: «فاشستية» لا أقل. هكذا كتب، وهكذا ألحق اللفظة الصادمة بغيرها» ديكتاتورية» نحتاج – يحتاج لبنان – إليها، جنرالات، وأثر ديغولي، بشير الجميل وهو من هو – لا ديكتاتوراً كما يبغي المقال، بل كذلك من هو في وعي الصراع العربي- اللبناني –الإسرائيلي. وبعد أشهر، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، يعيد أنسي المعنى نفسه وإن انتقل إلى درجة أكثر اتفاقاً «ألف ديكتاتور كعبد الناصر ولا مرة سفاحون وأغبياء مثل اليوم». قال أنسي ذلك ولم يتراجع، ثم رحل، والبحث عن ديكتاتور والتمسك به قد اتخذ شكلاً وسواسياً في بلد ناصر نفسه. أما لبنان الذي طلب له أنسي ديكتاتوره كبشير سابقاً أو عون لاحقاً، فلم يعد له حتى رئيس جمهورية، فضلاً عن أن يكون ديكتاتوراً، يؤسس دولة ولو «لبعض الوقت» قبل العودة «إلى الفوضى التي نسميها حرية».
كان المختلف المفارق في دعوة أنسي، أنه سمّى دعوته باسمها. ثمة مثقفون كثر ساندوا مستبداً هنا أو ديكتاتوراً هناك. أما أنسي فقد أعلن تأييده للفكرة ذاتها، لديكتاتور غير موجود، وتحت عنوان رئيس ميّت، وحدها الديكتاتورية «تقوّم بلداً سائباً» مثل لبنان، يقول أنسي.
الواقع أن ذلك رأي نادر الإعلان بين المثقفين، لكنه شائع جداً بين «العامة». نظرية «الشعب والكرباج» شائعة جداً في صياغتها الفجة. هل أمضى أنسي عمره الطويل «ليكتشف الحقائق الأولية» على طريقة كامو، أم أنه أفصح عما كان يجابهه في نفسه طول الوقت؟ أم أنه استسلم فحسب؟
على أي حال، لقد استسلم كثر شباباً وفتوّة، وأمام صحوة الماضي في «داعش»، والرصاص المجنون الذي لم تفرغ منه بنادق الأنظمة، تكاد الديكتاتورية السابقة تشعل في النفس حنيناً إلى أيامها الراكدة.