"موتٌ كموتكَ قَتْل". هذه عبارتُك يا أستاذ أُنسي وصعدت إلى رأسي مباشرة في تلك اللحظة التي وصلني فيها خبر رحيلك عن الدنيا.وعلى الفور، انطلق مِنّي "أنينُ عصفورٍ جريح يَتَّمهُ القفص ويَتَّمه الهواء ويتَّمه الماضي ويَتّمهُ ما تبقّى من الحياة". وهذه الأخيرة عبارتُك أيضاً وتصف تماماً حالتي وقتها. كُنتُ في القاهرة آنذاك والسماء تُمطر وعيونيّ التي عندما لَمَح سائق التاكسي الدموع الطالعة منها، سألني: مين اللي مات عليك! فقلتُ: صديق كبير. ولم تتوقف دموعي على طول الشارع المؤدي إلى البيت فـ"الموت يَرْفع الكُلفة"، وهذه أيضاً عبارتُك.

على هذا يمكنني إكمال رسالتي إليك بكلمات منقولة مِنك. كأنني هنا أستعيد تجربة التمارين المتأخرة في تعلّم اللغة العربية وأنا القادم الجديد إليها مُستعيناً بالجزء الأول من "خواتم". وعندما حكيتُ لكَ قصة تلك التجربة، اكتفيت أنت بابتسامة حنونة أتبَعَتها بكلام لا يزال في قلبي إلى اليوم. ولهذا كان كل حديث معك درس في الكتابة والصحافة والحياة ولم تكن تبخل. أتذكر هنا سؤالي عن اسم صاحب الرسالة (العدد 1566) التي جعلتها مضمون مقالك الأسبوعي في الجريدة، فأجبتَ بأنه أنت وقد كتبتَ الرسالة لنفسك. قلتُ لك: ولماذا! فأشرت بضرورة حماية القارئ من القسوة التي حملتها كلمات المقال. وهذا أيضاً درس مِن بين دروس كثيرة كُنت تُظهرها لنا دونما قصد أو رغبة في لعب دور الأكبر سنّاً وخبرة، وهو ما يجعلني أستعيد هنا ما كتبته أنت اعترافاً "لم يُدفئني نور العالم بل قولُ أحدهم لي أني، ذات يوم، أضأتُ نوراً في قلبه"، مع اعتقادي بأن هذا الـ "أحدهم" هم كُثر للغاية وأنا واحد منهم.
ولم يكن كل ذلك اعتباطياً بل كان أمراً قائماً على معيار القيمة التي كنت تضعها في كتابتك فـ "الكلمة تكون بحاجة الحياة إليها لا بالشفقة.
ما زال القرّاء يدخلون ويكتبون تعليقات على مقالاتك
وتكون كلّها، وفوق الكلّ، أو لا تكون" بما يمنحها نبرة الصدق التي لا يخطئها قلب. إنها هنا تلك الحياة التي تحملها وتجعلنا نفعل استعادتها مع كل واقعة تحصل أو رحيل جديد لأحدهم، فلا نجد وسيلة للتعبير عن كل ذلك إلا باستخراج شيء من أرشيفك الذي يبدو كأنه مكتوب في لحظته، كأنك عُدت واستأنفت الكتابة، كأنك عُدت واستأنفتَ الحياة بعد موتك، بحسب تعبير سابق لك. وعلى هذا، لا يبدو موتك كاملاً أو حقيقة، لا يبدو خبراً أكيداً ورفقتك التي نستعيدها من أرشيفك، كل يوم ولحظة تُنعشه وتجعله بحاجة لتأكيد من نوع ما في كل مرّة يُستعاد فيها.
وفوق كل هذا وذاك، بابك المفتوح دائماً ولا يُقفل أمام أحد، إلى التواضع المبُهر وتعاملك مع الحياة كأنك لم تُنجز شيئاً فيها ولم تصنع عليها خطوة مختلفة. كان هذا ما يجعلنيّ مشوّشاً حيال هذه الطريقة التي كانت من ناحيتك في مقابلة الأشياء التي قمت بإنجازها وتعود لرميها وراء ظهرك. وفي مقالاتك الأخيرة على وجه الخصوص، هناك ما جاء مُشكّلاً على هيئة علامة استفهام كبيرة لنا حين تقول «بدل أن تدفع لي «الأخبار» راتباً يجب أن أدفع لها" و "باستثناء ابنتي وابني، لا أحد يقول لي شيئاً عن كتاباتي، فأشعر كعجائز المقهى بأنّي دخيل. والحقيقة أنّي عجوز ودخيل، ولم أعد أرتاد المقاهي"! هنا بالذات أتذكر سؤالي لك حول الردود التي يكتبها القرّاء على موقع الجريدة تعقيباً على مقالك الأسبوعي، فقلت نعم ويبهجك ذلك ولو كان بعضها قاسياً "فيكفي تحمّلهم عناء الكتابة والتعقيب". لكنّ ربمّا كان عليّ قراءة نصوصك الأخيرة كما لو أنها فعل جردة لحياة كاملة لكن بنبرتك المتواضعة ونكران الأثر الذي صنعته كلمتك، ولا أكثر من هذا.
لا يفوتني هنا إخبارك أن تلك التعليقات لم تتوقف إلى الآن رغم توقفك. ما زال قرّاء يدخلون ويضعون كلماتهم كما لو أنهم يقابلون مقالاً جديداً في كلّ مرّة مُعترفين بأن "روحك اليقظة دائماً لا تتوقف عن فتح جفوننا النائمة" بحسب أحدهم.
شكراً لأنكَ ما زلت بيننا يا .. مستقبل الأيام الآتية.