حوار: أوسفالدو فيراريترجمة: أحمد شافعي

في مارس من عام 1984، أجرى خورخي لويس بورخس (1899 ــ 1986) سلسلة حوارات إذاعية مع الشاعر والكاتب الأرجنتيني أوسفالدو فيراري. خمسة وأربعون من هذه الحوارات ترجمت للمرة الأولى إلى الإنكليزية بقلم جيسون ويلسن، لتصدر هذا الشهر عن دار «سيجَل بوكس» بعنوان «محاورات: الجزء الأول». في ما يلي حوار منها نُشر في «نيويورك ريفيو أوف بوكس»، ويبدأ بسؤال عن وجود الرّب، ويتفرع إلى موضوعات وإشارات يعرف بورخس كيف يمزجها بالفلسفة والأدب.

■ ■ ■



■ يتساءل كثيرون عما إذا كان بورخس يؤمن بالرب، لأنهم في بعض الإحيان يشعرون بأنه مؤمن، وفي أحيان أخرى لا.
ـ لو أن الرب يعني شيئاً فينا يكدح من أجل الخير، فنعم. ولو أن الظنَّ فيه أنه كينونة مفردة، فلا، لست بمؤمن. إنما أؤمن بفرضية أخلاقية، ربما لا تكون كونية، لكنها في كل واحد منا. ولو أمكن فإنني أود أن أضيف، شأن [وليم] بليك، أنها فرضية جمالية فكرية لكنها مرة أخرى ذات مرجعية فردية. ولا أحسب أنها تنطبق على الكون. وأتذكر بيتاً لتينسن يقول فيه إن «الطبيعة حمراء الناب والمخلب». لقد كتب ذلك لظنّ كثيرٍ من الناس في رقة الطبيعة.

■ ما قلته للتوّ يؤكد انطباعي بأن صراعك المحتمل بين الإيمان بالرب والكفر به له علاقة باحتمال أن يكون الرب عادلاً أو غير عادل.
ـ حسن، أعتقد أن نظرة عابرة إلى الكون كافية لنلاحظ أن العدالة ليست الحاكمة بالقطع. وأتذكر بيتاً من ألمافويرتي Almafuerte يقول فيه: «بالفن الرقيق، أربِّت على كل زاحف يزحف، أنا الذي لا يرى العدل لازماً، طالما ثمة ألم أنّى نظرت». وفي بيت آخر يقول: «كل ما أريده هو العدل/ ولكن خيرٌ لي ألا أطلب أي شيء». طلب العدالة فيه مغالاة، كثير من المغالاة.

■ ولكنك تدرك السعادة في العالم، موجودة في المكتبة مثلاً، لكن أنواعاً أخرى من السعادة موجودة أيضاً.
ـ نعم، بالطبع. يمكنني القول إن السعادة مؤقتة، لحظية، ولكنها أيضاً تحدث مراراً، أعني قد تحدث، في حوارنا هذا على سبيل المثال.

■ هناك تأثير آخر مهم، التأثير الذي يدفع كثيراً من الشعراء إلى التمسك بفكرة العالم الآخر، العالم المفارق لهذا العالم. لأن في كلمات الشاعر دائماً ما يبدو أنه يبعثنا إلى ما وراء ما تقوله الكلمات.
ـ نعم، ولكن هذا الذي في الماوراء قد تبيِّنه الكتابة، أو المشاعر المفضية إلى الكتابة. أعني أن العالم الآخر، ربما هو اختراع جميل اخترعه الإنسان.

■ ولكن بوسعنا القول إن في الشعر كله اقتراباً من شيء آخر، شيء في ما وراء الكلمات والمواضيع.
ـ حسن، اللغة لا ترقى إلى مبلغ تعقيد الأمور. أعتقد أن الفيسلوف وايتهد Whitehead يتكلم عن مفارقة المعجم المثالي، أي فكرة افتراض أن جميع الكلمات المسجلة في المعجم تُنهك الواقع. تشسترتن أيضاً كتب عن هذا، فقال إن من العبث الافتراض بأن كل دقائق الوعي البشري، وهي هائلة تتضاءل بجواره الغابة، قابلة للاحتواء في نظام ميكانيكي من أصوات بلهاء هي في حالتنا الكلمات التي ينطق بها سمسار في سوق الأوراق المالية. هذا عبث، ومع ذلك لا يزال الناس يتكلمون عن اللغة المثلى، واللغة الثرية، واللغةُ بالمقارنة مع وعينا شيء في غاية الفقر. أعتقد أن ستيفنسن يقول في موضع ما إن ما يحدث في عشر دقائق يفوق معجم شكسبير كله [يضحك]. أعتقد أنها الفكرة نفسها.

■ على مدار كتاباتك، تشير إلى ما هو سماوي، وينطوي ذلك على ما وراء الطبيعة. وتقبل كذلك، في ما دار بيننا من حوارات، بكلمات ماورينا Murena عن قابلية الجمال للانتقال إلى حقيقة أخروية. بمعنى أنك، في ما يبدو، تعترف بأن هناك وجوداً فائقاً، لكنك لا تسميه الرب.
ـ أعتقد أنه أكثر أمناً لنا ألا نسميه الرب. فلو أننا نسميه الرب، فنحن نفكر في فرد، وهذا الفرد بطريقة غامضة ثلاثة، بحسب معتقد الثالوث، وهو بالنسبة لي أمر عصيّ على التصور. في المقابل، لو أننا نوظف كلمات أخرى، ربما أقل دقة وحيوية، فقد يمكننا الاقتراب أكثر من الحقيقة، لو أن الاقتراب من الحقيقة ممكن، أو قابل للتجاهل.

■ ذلك بالضبط ما يتصور المرء أنك تفعله حين لا تسمِّي الرب. بل إنك تعتقد في فكرة الواقع الآخر، إضافة إلى الواقع اليومي.
ـ أنا لست واثقاً مما لو كان هذا واقعاً يومياً. نحن لا نعلم إن كان هذا الكون ينتمي إلى الواقعية أو إلى الفنتازيا، فلو أن كل شيء حلم ــ مثلما يرى المثاليون ــ فما نسميه الواقع هو بالضرورة حلميّ. شوبنهاور تكلم عن «الجوهر» (في «الحلمي» حذلقة، أليس كذلك؟) لنقل «جوهر الحياة شبه الحلمي». نعم لأن في الحلمي حزناً، شيئاً من طينة التحليل النفسي. [يضحك]

■ بجانب الإيمان أو عدمه، ثمة سؤال آخر: هل تنظر للحب في سياق كوني، بوصفه سلطة، أو قوة لازمة لكمال الحياة.
ـ لا أعرف إن كان لازماً، ولكن، نعم، هو حتمي.

■ لا أعني الحب بين بشريين، بل أعني ما يتلقاه الناس تلقيهم للهواء أو الضوء. الحب الذي يعد في نهاية المطاف مما وراء الطبيعة.
ـ أشعر أحياناً، كيف أقول هذا؟ أشعر بامتنان مبهم. عندما تكون لديّ فكرة سوف تصبح لاحقاً، وللأسف، قصة أو قصيدة، عندما يكون عندي إحساس بتلقي شيء ما. ولكنني لا أعرف إن كان هذا الشيء يُعطَى لي من شيء ما أو من شخص ما، أم أنه ينفجر بداخلي من تلقاء نفسه. كان ييتس يؤمن بشدة بالذاكرة العظيمة ويرى أنه ليس من المهم للشاعر أن يخوض كثيراً من التجارب ما دام يرث الذاكرة عن أبويه، وجدّيه، وجدّي جديه. فهذا يضاعف الذات مضاعفة رياضية إلى أن يرث الشاعر ذاكرة الإنسانية وإذا بهذا «الشيء» يتجلى له. وكان دي كوِنسي يرى أن الذاكرة مثالية، بمعنى أن لديّ في نفسي كل ما شعرت به، وكل ما فكرت فيه منذ الطفولة. لكن لا بد أن يكون هناك حافز مكافئ للعثور على هذه الذاكرة. كان يرى ــ وكان مسيحياً ــ أن هذا هو الكتاب الذي سوف يظهر في يوم القيامة، كتاب ذكريات كل إنسان. وأنه الذي سوف يسوقنا في النهاية إما إلى الجنة أو إلى الجحيم. ولكن، في الأعماق الغائرة، تبقى هذه الميثولوجيا غريبة عليَّ.

■ الغريب في الأمر يا بورخس أننا نتكلم باستمرار من خلال الذاكرة. أحياناً يخيل إليّ أن حوارنا ما هو إلا حوار بين ذاكرتين.
ـ في الواقع، هذا هو الأمر. فلو أننا شيء، فنحن ماضينا، أليس كذلك؟ فماضينا ليس بالذي يمكن تسجيله في سيرة أو في صحف. ماضينا هو ذاكرتنا. وهذه الذاكرة قد يعتريها الخفاء أو تعوزها الدقة، وليس هذا بمهم. المهم أنها موجودة، أليس كذلك؟ قد تكون كذباً، لكن هذا الكذب جزء من الذاكرة، جزء منا.

■ مثلما تكلمنا عن الإيمان أو عدمه، أريد أن أذكر شيئاً عن زماننا الذي يبدو غريباً في عيني. الناس على مدار قرون في الغرب البروتستنتي والكاثوليكي مهمومون بفكرة خلاص الروح. لكن الأجيال الحديثة لا ترى في الأمر ورطة في ما يبدو لي.
ـ هذا يبدو لي أمراً بالغ الجدية، ألا تتوفر لشخص أو أشخاص غريزة أخلاقية، أو إحساس أخلاقي، أم ماذا؟ والأدهى أن هناك نزعة، أو عادة الحكم على الفعل بناء على نتائجه. وهذا يبدو لي غير أخلاقي، لأنك حينما تفعل فأنت تعلم إن كانت أفعالك خيراً أو شراً. أما عن نتائج الفعل فهي تتشعب وتتضاعف وربما تتوازن داخل عقلك. فلست أعرف، على سبيل المثال، إن كانت نتائج اكتشاف أميركا خيراً أم شراً، لأنها كثيرة جداً. وهي لا تزال تتنامى وتتضاعف حتى ونحن نتكلم. وعليه، فالحكم على فعل بناءً على نتائجه عبث. ولكن الناس ينزعون إلى هذا. فالسباق مثلا، أو الحرب، يحكَم عليه بالفشل أو النجاح، وليس بناء على ما إذا كان له مبرر أخلاقي. أما النتائج فتتضاعف، كما قلت، بحيث تتوازن في وقت، ثم يختل توازنها في وقت آخر. هي عملية مستمرة.

■ مع ضياع فكرتَي الخلاص واللعنة، هناك أيضاً ضياع فكرتَي الخير والشر، وفكرتَي الخطيئة والفضيلة. بمعنى أن هناك نسخة حديثة من هذه الأشياء تستبعد الرؤية السابقة.
ـ لا يفكر الناس الآن إلا في ما إذا كانت لشيء ما مِزية. يتصرفون كما لو أن المستقبل غير موجود، أو كما لو لم يكن ثمة غير المستقبل القريب للغاية. يتصرفون بناءً على ما يجري في اللحظة الراهنة.