لم يتكلم بسام حجار (1955 – 2009) كثيراً في حياته. الأصدقاء الذين زاملوه في الصحف التي عمل فيها كانوا يعرفون ذلك ويقدّرون صمته وعزلته. في شعره أيضاً قال أشياء قليلة، واعترف في أحد حواراته النادرة بأن خشيته من «الوفرة والاتساع» جعلت منه «كاتباً بمفردات قليلة». القلّة كانت فناً ونبرةً، وتعذُّرُ الكلام كان حساسيةً معجمية وشخصية، والجملة المتعذّرة التي كتب بها كانت تختزل براعته في تجنّب الثرثرة، ورغبته في استدراج المعنى بطريقة تشبه الصعوبة التي يكتب بها.
لعل ذلك يفسر تردُّد جملته في خطف صياغة كاملة ونهائية، وانقسام هذه الجملة بين صيغة معينة وأخرى مضادّة لها. كلُّ ذلك جعل كتابة بسام حجار أشبه بدمدمة داخلية، بينما أسهمت معرفته القوية بالتصوّف بجعل هذا الشعر متماوجاً ورجراجاً وغير طامحٍ إلى معنى واحدٍ وثابت. هكذا، صار التردد والتماوج والخفوت أيضاً، صفاتٍ ملازمة لتجربة بدأها بباكورته «مشاغل رجل هادئ جداً» (1980) التي انضم عنوانها إلى بواكير أخرى صدرت في الفترة ذاتها، وشكلت عناوينها إشارات إلى «حداثة ثانية» تكسّرت فيها حداثة الرواد إلى حداثات أصغر ونبرات فردية. بسام حجار كان ابن ذلك الجيل الذي ضم أسماء مثل عباس بيضون ووديع سعادة (لبنان) وسركون بولص (العراق) ونوري الجراح ومنذر مصري (سوريا) وأمجد ناصر (الأردن). جيلٌ أتى أفراده من تجارب وجغرافيات متباعدة، ولكنهم – من دون أن يجتمعوا أويُصدروا بياناً - اتفقوا على شعرٍ مكتوبٍ بلغة مادية ويومية وقليلة العاطفة.
داخل هذا الشعر، اهتدى بسام حجار إلى جملة خاصة وشاقة يمكن ملامسة إحدى تأويلاتها في عنوان ديوانه الرابع «مهن القسوة» (1993). القسوة كانت مترجمة في كتابةٍ يحضر فيها ألمٌ شخصي، وتأملاتُ شاعرٍ يرى ما وراء المشهديات الرتيبة، وهي مشهديات قليلة كقلّة مفرداته، ولا تكاد تتجاوز الذات والعائلة والبيت وغياب الأب والأخت. لقد كتب صاحب «فقط لو يدكِ» (1990) «بضعة أشياء» (1997)، بحسب ديوان آخر له، بل إنه قال: «أحسبُ أنني خلال عشرين عاماً أو خمسة وعشرين عاماً ما زلت أكتب الشيء نفسه، ولا أحسبني استنفدتُه كله. عالمي في هذا الحجم، وما أريده فعلاً أن أستكشف فيه ليس الاتساع بل العمق، حتى لو راوحتُ في مترٍ مربع».
في ذكراه السادسة، نستعيد تلك «القلّة الباهرة» التي كتب بها بسام حجار تجربته، وتلك «الذائقة المتطلِّبة» أيضاً في ترجماته، وتلك الثقافة الموسوعية التي كانت مدسوسة بشكلٍ مواربٍ وذكي في طيّات شعره ونثره.
لعل مفردة «استعادة» ليست دقيقة بالنسبة إلى شاعرٍ لا تزال قصائده طريّة وساخنة، وتجد حفاوةً وتثميناً لدى شعراء جاؤوا من بعده. إنها مجرد تحية لشاعرٍ انحاز إلى بلاغة صامتة، إلى كتابة تسعى «وراء ما يزول، وراء الهشّ، وراء ما هو ماثل أمامك، حقيقي أو ملموس، لكنك تعلم جيداً أنه لن يتريث طويلاً». كتابة تُذكرنا دوماً بتلك النبرة الآسرة التي خسرناها باكراً. كتابة تجعلنا نردد جملة قالها صديقه عباس بيضون: «منذ توفي بسام وأنا لا أعرف كيف أصرِّف هذه المسألة». نردّدها ونتأكد أنها صالحة لرثائه دوماً.