راجي بطحيش*نجلس أنا وأمي قبالة بعض كالأمراء لنعقد حفلة شاي لا شاي فيها، بل فناجين قهوة صغيرة تستغرق دهراً حتى تصل شفتيها، حيث تكون القهوة قد اندلق جلّها على المائدة البيضاوية البلاستكية الرخيصة (التي كنت قد غطيتها بستار شامي اشتراه أبي من عمّان قبل ثلاثين عامأً، كي لا أشعر أنا للحظة بحجم السقوط). يقولون: دلق القهوة خير، وأنا أقولها، إلا على أبناء الذوات والعائلات المحترمة التي ترضع أصول العيش مع حليب المربيات، فدلق القهوة شرّ ومصائب لا تنتهي بعده مباشرة، وكوارث لا تنفك تفاجئك، لا لشيء إلا لكي تثبت لك أو لتظهر لك كيف يبدو موكب الخسارات بالفعل وكم أنك تعيش في عصر منهك بأفوله.

تأتي مساعدة والدتي الآسيوية بعد أن تكون قد استنشقت وحدها عطر القهوة المنسكب. تتمتم بضع كلمات. تمسح القهوة المنسكبة عن الستار الدمشقي وكأنه مسطح أملس يمكن تنظيفه. توجه إلي نظرة عتب ممزوجة باحتقار والقليل من المحبة أو الشفقة ربما، ثم تذهب مسكونة بشعور دائم بأنها ضحية شيء ما (هي لا تعرف أن تلك البقعة الداكنة قد لا تزول عن قطعة القماش المركبة والفسيفسائية هذه، وصمة قهوة قد أسميها، ستتوارثها الأجيال المنقرضة أو مخلوقات الجرب). أحب شكل أمي الآن أكثر وهي نحيفة بوجه دقيق التفاصيل نحته المرض والوجع، فعندما كانت مكتنزة الوجه والعنق والصدر لم يستهوني شكلها، كانت وكأنها ترتدي قناعاً مزيفاً من الصرامة وحتى البلطجة والفظاظة أحياناً. هي الآن تشبه صوفيا لورين في عز شبابها وخاصة في فترتها الذهبية خلال مرحلة سينما الواقعية الجديدة في إيطاليا. إنه أمر عصي على التفسير، ولكن أنوثة وهشاشة أمي الآن مستحيلة، مستحيلة ولا يمكن قياسها كمياً.
تبتسم أمي لي معظم الوقت، أو طيلته. هي بالكاد تردد ثلاث كلمات يومياً وخمس كلمات في حال أرادت ارتكاب خطيئة إحصائية فظيعة، ولكنها تبتسم. ابتسامتها ساحرة للغاية، تضع الماكياج كاملاً وطلاء الأظافر الفاقع، كما تغطي صبغة شعرها كافة النواحي والأطراف دون هفوات تُذكر، كملكات الجمال والفتنة اللواتي يتجملن حتى آخر نفس. كما أنها ما زالت تتقلد خواتم زواجها قبل قرن، وهي كلما أرادت الهروب من نظراتنا أو تساؤلاتنا، نظرت إلى خواتمها هذه عبر شدّ كف يدها إلى مستوى نظرها (اعتقد أنني أيضا أقوم بهذه الحركة أحيانا وبدون شعور، كما أنني أمدّ خنصري باتجاه مضاد لبقية الأصابع عندما أمسك فنجاناً مثلاً أو ملعقة... مثل أمي).
تتأمل أمي شيئاً ما عميقا داخل عينيّ ولا تتأملني أنا، إذْ إنها لا تراني بحق، بدليل أنها سألتني فجأة:
– أين كميل؟ (وتلك كانت نسبة مئوية عظيمة من الكلمات التي كانت سوف تنطق بها يومها)
– أنا هنا، أجلس أمامك.
– أعرف ذلك! ماذا تعتقدني (لقد حطمنا الرقم القياسي بعدد الكلمات المنطوقة).
– ماما حبيبتي، اسمعيني جيدا لم يتبق أحد، بقيت أنا وأنت فقط وسط كل هذا الخواء. تنظر إلي باستنكار وكأنني صعقتها بموجز أخبار صادم.
– عنجد يعني. بابا مات، وكريستين في كندا ولا تسأل – حتى بعدما هرب زوجها مع جارتهم الإيرانية - ومي انتحرت كما تعرفين وسوسن في دار الرعاية النفسية، وسامي مات من الإيدز، وأنا مولع بسائقي الشاحنات ومرممي البيوت من الفحول، لذا لا عائلة لي، لا أحد. حان الوقت كي أتصرف بكل هذه الأملاك المتكلسة التي باتت تئن من طبقات الغبار الذي تكتسيها. أريدك أن توقعي هنا، بالضبط هنا، طيب حبيبتي.
يمكننا التصرف بكل هذه التحف في المزاد العلني، وذلك البيانو على الرغم من كل ذكرياتي معه وطقم الجلوس القيصري هذا، وعشرات الدكاكين ومصنع الزجاج الذي أصبح مرآب سيارات، ومصنع التبغ الذي تحول لملتقى عشاق عابرين يرشقون جدرانه بمنيّهم ويرحلون. حان الوقت كي نعيش قليلا. ثم ماذا عن مجوهراتك، تلك السعادة التي لم نتذوقها. لورد التي لم تزوريها. سويسرا التي لم تعيشي فيها. مقهى «فوكيت» في شانزليزيه الذي لم أجلس فيه. الشقة في تل ابيب التي لم أشترِها. أعرف أنك لم تزوري تل أبيب إلا لاستصدار تأشيرة دخول إلى أميركا وطن الرعاع، ثم بيروت التي لم تزوريها بعد. لبنان بلدك هل نسيتِه؟ ألمْ نردد طويلا ونحن أطفال: «ردني إلى بلادي».
أمد الورقة تجاه أمي ومعها قلمان. لا أعرف لماذا قلمان. يبدو أنني ارتكبت خطأ فادحا، فهي تمسك القلمين وتجري مقارنة منهجية بينهما مهملة الورقة ومكان التوقيع.
– يلا ماما، اكتبي اسمكِ هنا... عايدة.
– أسحب القلم الأقل جاذبية بسرعة. تتأمل أمي القلم المتبقي. تثبت رأسه على الورقة حتى تكاد أن تثقبها، ثم تكتب بسرعة مذهلة:
سوسن!!.
* كاتب فلسطيني