ترجمة وتقديم: رجاء الطالبييمكن اعتبار الشاعر والمفكر إدمون جابيس شاعر المنفى واللانتماء، شاعر التيه والفراغ، مكانه الحقيقي هو الكتاب والصحراء. يجسد مساره الكتابي نوعاً من العبور للصحراء، نوعاً من العبور ما بين السماء والرمال، ما بين الكل والفراغ، سؤال يضطرم من أجل نفسه ومن أجل الفراغ الذي يسكنه. تجسد تجربة الصحراء عنده نوعاً من الإنصات الكلي. والكتابة هي انفتاح أبدي، هي انفتاح الانفتاح. ما يهم في كتابته هو تعذّر القول والنقصان، اللا اكتمال، القطيعة، اللا يقين، الشك، فكل جواب لا يكفي، السؤال هو المهم وهو الذي يجعل دوماً المساءلة ممكنة.
إدمون جابيس الذي مرت ذكراه الرابعة والعشرون أخيراً (توفي في باريس 2 كانون الثاني/ يناير1991)، وكان قد ولد في القاهرة عام 1912، والتقى سنة 1935 ماكس جاكوب، الذي تبادل معه مراسلات نشرت سنة 1945 من طرف بول إيلوار الذي اطلع على أشعاره الأولى.

غادر مصر سنة 1956 عقب تأميم قناة السويس، بسبب أصوله اليهودية، وترك ذلك أثراً عميقاً في أعماله التي تتميز بتأمل شخصي في المنفى والهوية اليهودية. وفي باريس، وطد صداقاته مع أندريه جيد، وهنري ميشو، وبول سيلان، وإيف بونفوا، وغيرهم.
من بين مؤلفاته، نذكر: «أشيّد مسكني» (1959)، و«كتاب الأسئلة» في ثمانية أجزاء ( 196-1973)، ثم «كتاب المشابهات»، الذي صدر في أجزاء أيضاً، و«كتاب الضيافة» (1991).
في كتابه «كتاب الهوامش»، تأملات وأسئلة عن ماهية الكتاب؟ ماذا تعني القراءة؟ ما الذي يختفي وراء الكلمات؟ ماذا يقول المؤلف؟ وماذا يسمع القارئ؟ بينما أصوات قريبة تتقاطع مع صوته بل تغطيه عبر أقوال واستشهادات يستحضرها جابيس لبول سيلان، جاك ديريدا، ماكس جاكوب، روجي كالوا، إيمانويل ليفيناس، ميشيل ليريس موريس بلانشو وغيرهم.
في ما يلي مقاطع غير متتالية من الفصول الأولى لكتابه «كتاب الهوامش»:

■ ■ ■



«أن تكتب كسؤال للكتابة؛ سؤال يحمل الكتابة التي تحمل السؤال، ولا تسمح بأي علاقة بالكائن. يرى إليها كتقليد، كنظام، كحقيقة، وككل شكل للتأصيل – الذي تلقيته يوماً من ماضي العالم، مجال كنت مدعواً فيه إلى التدبير من أجل أن تقوي «أناك»، بالرغم من أن هذه الأخيرة كانت مصدعة، منذ اليوم الذي انفتحت فيه السماء على فراغها».
موريس بلانشو
(خطوة نحو الما وراء)


■ ■ ■



سوف تتناول اللا مشروط حيث الحياة هي فعل يحيي، وحيث الموت هو فعل مات، حيث كل حركة، كل فعل، كل صمت الحركة واللا حركة، التنفس وغياب النفس ليسوا سوى الأخرق، المغالي، المقاربة اللا نهائية لفعل مصدري، كما لكل كلمة غير مستعملة، لاسم، لعقدة، لحبة لوز لا تؤكل.
آه يا انزلاق العتبة المشار إليها
عند العتبة الممنوعة.
«عبر الكلمات لا يزال يبدو النهار قليلاً»
موريس بلانشو
(الانتظار النسيان)


1


يربطنا الكتاب أو بالأحرى ما يهفو ليصبح كتاباً ولن يصبح كذلك.
«محكي؟ لا، لا محكي، أبداً»
يقوم المحكي على السماح للمحكي، بتركه يأتي.
لم يوجد مكان للمحكي، لا مكان مطلقا، هنا للمحكي.
تبتعد محكياتك عن تحليق المحكيات من أجل أن لا تكون سوى اكتشاف الكلمة في نهايتها، في لحظاتها الأخيرة المسموعة، والمكتوبة.
خطبة، هشة، ماكرة هي الكتابة، تمتلك صفاء مهدئاً. في أي مكان، لا يوجد أدنى إفراط. يا له من درس! ويا لها من مرآة ساحرة! مطمئنة في بعض النواحي، لكن فقط في الظاهر. هكذا، هي الشفافية.
كيف أقول هذا الذي يربطنا؟
بالرجوع إلى المنفى، ربما، الذي هو المركز، بقعة الزيت.
دائما هي الكتابة مكبوتة.
فيما وراء –الحياة، فيما وراء الليل يقوم الكتاب.
(هذه المساءلة للموت على لسان حال الكتاب، عبر الدقيقة الناجية والمُقترحة كذلك من قبل الكتابة، هل تعرف يوماً ما، الراحة؟ ترعى الكتابةُ وهمَ إنقاذ قريب؛ لكن النار لا تحفظ من النار؛ ولا من برد البرد؛ لكن بالعكس تجعله يدوم).
يربطنا أيضا الصمت، وقاحة الآبار الجافة، الحوارات الداخلية الطويلة للرمل مع الرمل.
يربطنا أبيض بياض العلامة وأسود العلامة الذي أصبح مقروءاً في ذروة بياضه.
يربطنا تمزق الفكر عند تخوم اللا مفكر فيه؛ استحالة القول.
تربطنا قرون من الخوف وهذه الالتمامة التي تلتقي عندها طاقاتنا الذكورية: الانشقاق.
(أليست البئر هي المحبرة؟
لا تغمس ريشتك صديقي أكثر من لحظة؛ يمكنك أن تهلك مع ريشتك غرقاً، لأن جسدك صديقي هو ريشتك؛
لكن بأي موت مرعب تهددنا البئر النابضة واليابسة!)، كتب لي حكيم التقيته في «كتاب الأسئلة»).
تربطنا مواعظ حكماء مؤلفاتي وما حدث لهم، الكتاب المهجور، المتروك بدون صباغة.
(... الانشقاق، أليس هو أيضاً مسافة القول اتجاه ما يقال في أي مكان؛ هذا الفضاء الذي يقطع قسراً مع الحرف، كما مع الصوت، حيث إن خطابه يدهشنا دائماً، بفصاحته الصامتة يلتقطها صمت الهوامش والشواطئ الموعودة؛ مسافة الرمال مع اتجاه البحر، مسافة السماء مع الأرض، ملازمة لطبيعتها، وحيالها يجب علينا أن نتنفس، نتحرك، نعبر ما وراء الانتظار، ما وراء النسيان؟
«لا أسمع كلماتهم، ولا أرى أيضاً حركة شفاههم، ورغم ذلك أعرف أنهم يتكلمون، كل ما لديهم تلفظه أعينهم العاشقة»، تقول سارة. كلمات العشاق هي كلمات معجونة بصمت متعذر تعريفه.
أيضا يربطنا الصمت الأكبر للعشاق، للشهداء والموتى.
جرافة ومحكي: حاجزان يحددان تعليمات فظة للحدود. البداية والنهاية. يمكننا إذن أن نركن بأمان قواربنا، لكن إذا كان الحاجز من حرير، من هواء، من دهان.
من هو النوتي، أو القارئ الذي سيلوذ به، ويحس بفضله بأمان؟
ليس هناك حد للسفر، ولا مقدمة. لا شبه بين الكاتب والنوتي.
غير مقبول هذا الميناء للتعلق
كل الكتب تجيب على تساؤل كتاب واحد.
يتطور المحكي على مستويات عدة، على أبعاد مختلفة للتواطؤ؛ حيث هذا التفاوت بين ما قيل – ولم يقل تماماً - وبين ما أدرك - ولم يتم إدراكه تماماً؛ يكتب الكتاب فيما ينتظر، ينسى، ويعثر عليه، ويفقد من جديد.
ومن خلال هذه الكتابة، سيقول المستقبل المباشر، لقراءة، وينجز المعاينة؟
«انظر، في الماء، إلى أسماك لطيفة بدون لون تتطور، بعضها فوق بعض، بين الصخور تقترب فجأة، وتوجد في نفس المستوى. أفكر أنها تشبه الجملة في هذه اللحظات الأخوية للكتابة حيث اللفظة تنتظم بجوار اللفظة من أجل نفس المصير الاتفاقي (صدفة)، بينما الموت يستثمر البحر».

2


عمل لا يعيد، تلك العودة التي طالما انتظرناها، «عودة الكتاب»، هل ستكون لديه مجهولة؟
-العودة إلى مقروء الشفاه، هكذا سيصبح مقروءاً بمجرد التفوّه به.
هناك دائماً كتاب مهيِّئٌ لقدوم كتاب.
عمل غير ترابطي، غير ممكن إعادته، في تجدده المفرط.
أيها الموت بألف يد، وبألف غد.
ستكون هناك دائماً شمس حيث كل شيء ليس سوى تنازل عن النهار
عمل لا يمكن اختزاله في السحب، في السراب، في الرسائل، في الاستعمالات، في الرضى، وفي الدمار.

3


حرية كبرى أولاً: المتجلية في عدم الخضوع للواقعي، لصالح حقيقة لا مشروطة
لغز، كما النقطة
هي دائما نهاية الكتاب.
نار لا مشروطة،
صدع،
هل هو حدث –أن توجد؟-
حياة منتهية - خارج الوصول- تتعارض وحياته المنقضية.
(حياة معلقة
تتلوى
في الفراغ)
كل حضور مشروط؛ غياب لا محدود، ولا مشروط.
هل ضجيج البحر دليل على وجود الضجيج أو البحر؟
وصمت السماء؟
تبعية القول،
والصرخة.
(نبتة مائية، كلام غزير،
إبحار صعب من الكائن إلى الكائن.
ما من نباتات في نواحينا،
الفاكهة المنسية، الأبيض اللامحدود،
المجاعة).
البحر غير الممنوح. اتفاق مختوم ما وراء – النهار.
لا يمكن تحديد اللانهائي إلا بألفاظ اللانهائي.
يحيا الموت بالفراغ، الموت هو نوعاً ما، أن تعيش الفراغ.
أن تخرج من اللفظة حتى تكون من خلاله مكتوباً في العدم.
ترتكز الكتابة إذن، على حفظ المخارج في الكلمة المحرمة
أن تخرج من الصفوف
في النهاية؟ تائهاً.
الأثر المرفوع كان حظوتنا.

■ ■ ■


يمنح اللامشروط قول ذاته فيما لا يمكن قوله، ينمنح للتفكير من خلال ما يرفض أن يفكر فيه.
متذبذب بلا شرط
غريب
(بماذا يمكن أن يكون مشروطاً
هل عن طريق الحضور؟ - ماذا إذا كان الحضور،
نفسه غياباً؟ عن طريق الكتاب؟ - ماذا
إذا كان الكتاب ليس سوى وضع الأمل في
كلمات؟.
(..)
هذه المعرفة ليست معرفتنا
معرفتنا في عدم - معرفة
معرفة منفصلة عن المعرفة
التي تتمرغ فيها المعرفة.
(..)
المعرفة هي الافتقار الأقصى للسلطة.
أيتها السطحية السلبية، أيها البحر الميت.
(..)
يوم آخر، يوم يجرح ككتابة اللحظة.
ماذا إذا كان الغد تطويحاً عنيفاً بتحولّه؟
(..)
النهار مكان اللا شيء
وجه في مواجهة وجه
وريقة على وريقة.
(..)
تعرف اليد أنها ستأخذ يوماً ما بصحيفة يوم الحساب.
اقطعوا جميع الأيدي إذا كنتم ترفضون أن تُحاسبوا.

* مقاطع من الترجمة العربية التي تصدر قريباً عن «دار ضفاف» (لبنان) و»منشورات الاختلاف» (الجزائر)