نادرةٌ هي الكتب التي تناولت التاريخ المعاصر لسوريا من دون أن تقع أسيرةً لتأويلات مغلوطة، أو منحازة، أو تخصصيّة ضيّقة، تاركةً بهذا الوضع السوريّ لأن يكون شبه غامض، بخاصة في ما يتعلق بطبيعة أنظمته المتعددة منذ الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي عام 1946، وصولاً إلى الانتفاضة عام 2011 والحرب التي تلتها. كانت لذلك أسباب عديدة ليس أقلّها عدم توافر أرقام وإحصاءات رسميّة أو حياديّة، أو تركها (حين وجودها) أسيرة للهوى الشخصيّ للمؤلّف. شهدت السنوات الأربع الماضية إصدار كتب مترجمة عدة عن سوريا تحت حُكم حزب «البعث»، لكنّها كانت ضحيةً لأطروحة سيّئة، أو ترجمةٍ سيّئة، أو كلتيهما. أما الكتابات السوريّة (والعربيّة) الأخرى فلم تكن أكثر من مقالات غارقة في الأحكام القطعية لكتّابها، بسبب ابتعادها من موضوعية الأرقام والإحصاءات والاستبيانات.

ولهذا السبب بالذات، كانت لترجمة كتاب المؤرخ الفلسطيني - الأميركي حنا بطاطو «فلّاحو سوريا: أبناء وجهائهم الريفيّين الأقل شأناً وسياساتهم» (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي ـ مراجعة ثائر ديب) أهمية كبرى، بسبب تلافيها أخطاء التجارب السابقة. أطروحات الكتاب، في معظمها، شديدة الموضوعية والدقة، عدا سلاسة الأسلوب ووضوحه، إضافة إلى ترجمة جيّدة لم تنتقص شيئاً من أهمية الكتاب الذي يعد أحد أهم الأبحاث عن سوريا رغم مرور 15 سنة على صدوره بالإنكليزية، بل إنّ كثيراً من أفكاره ستساعد في فهم الغموض الذي يكتنف الوضع السوري الحالي. يتألّف الكتاب من 25 فصلاً مقسمة على 4 أقسام رئيسيّة. يتناول القسمان الأول والثاني صورة عامة عن أوضاع الفلاحين الاجتماعية والاقتصادية، وأنماط وعيهم التنظيمية والسياسية منذ الاحتلالين العثماني والفرنسي وصولاً إلى مرحلة ما قبل-البعث.
كانت سياسة حافظ الأسد أقرب للفلاحين بتأثير من وهيب الغانم
القسمان الأخيران يتناولان الجوانب الريفية والفلاحية لحزب «البعث» في تدرجاتها المختلفة وصولاً إلى تسلّم حافظ الأسد السلطة كأول حاكم لسوريا من أصل فلاحي.
ينطلق بطاطو (1926 ــ 2000) في كتابه من «مُسلّمة لا تقبل الجدل» بشأن المجتمع الريفي في سوريا كونه لم يشكّل جماعة اجتماعية متجانسة إلى اليوم، إذ إنّهم يشكّلون أنماطاً اجتماعية عدة على مستويات مختلفة. ثمة فروق بين «الفلاحين البستانيين» كفلّاحي غوطة دمشق، و«الفلّاحين الزراعيين» كفلاحي حوض الفرات في المنطقة الشرقية من سوريا، وبين فلّاحين من أصل محارب كفلّاحي الجبال (جبل العرب «جبل الدروز» وجبال اللاذقيّة «جبال العلويّين») وفلّاحين أكثر مرونة وسهولة كفلاحي السهول المفتوحة في منطقة الغاب، وبين فلّاحين لا عشائر لهم وفلّاحين ذوي روابط عشائريّة، وفلّاحين مُلّاك للأرض وفلّاحين لا أرض لهم، وفلّاحين خاضعين لتأثير أفكار صوفيّة وفلّاحين منتمين إلى طوائف باطنيّة. استناداً إلى هذه الفروق والتباينات، سيجد القارئ أنّ المسائل التي أصبحت ذات وطأة كبرى اليوم، كترييف الجيش، أو «طائفيّة» السلطة لا يمكن معالجتها على نحو قطعي وبسيط في مقالة عابرة، بل تحتاج إلى أبحاث معمّقة تبدأ من حيث انتهى كتاب بطاطو.
يشير بطاطو إلى أنّ العدد المتقارب للقرى الصغيرة والأصغر بين 1970 و1993 (14 ألف قرية تقريباً) ترافقَ مع عدد متعاظم لرجال الدين من 1173 إلى عدد مجهول يبدو ـ حين نراقب التطورات الحالية ـ بأنه متضاعف إلى درجة مخيفة. وعن سبب انتشار الفلاحين العلويين بعيداً من الجبال، يشير إلى حقيقة أنّ الملّاكين الكبار كانوا يفضّلونهم عموماً على الفلاحين من أصل بدويّ الذين يصعب قيادتهم وإرضاؤهم، ما جعل الفلاحين العلويين يشكّلون الغالبية الساحقة اليوم في وادي الغاب. أما الفلاحون البستانيون، لا سيما فلّاحو الغوطة، فهم أقرب إلى طبيعة المدن المتاخمة لهم، وأكثر تديّناً. ويضرب مثالاً أنّ بعضهم تردَّد في قبول الأرض المصادرة بموجب قانون الإصلاح الزراعي في الستينيات «خشية مخالفة التعاليم الإسلامية».
كان «البعث» هو الحزب الذي استقطب الشريحة الكبرى من الفلاحين لاعتبارات عدة أهمّها تركيز الحزب الشيوعي على العمال، عدا التوجّه الحازم للجناح الاشتراكيّ لـ «البعث» (حزب أكرم الحوراني) إلى الفلاحين حين تبنّى شعاره الشهير «هاتوا القفّة والكريك لنعش الآغا والبيك». وهنا، يفرّق بطاطو بين ثلاث مراحل لحزب «البعث»: «البعث» القديم الذي لم يضرب بجذور عميقة في القرى، بل كان أقرب إلى الطلاب والمعلمين، و«البعث» الاشتراكي لأكرم الحوراني (بعد اندماج حزبه «العربي الاشتراكي» مع حزب عفلق عام 1952) الذي يعتبر أول حزب زراعي في تاريخ سوريا، و«البعث» العسكري المتمثل بـ «اللجنة العسكرية» في الستينيات التي كان 4 من الأعضاء الخمسة لمجموعتها الدائمة، و10 من أعضائها الـ 19 الكاملين من أصول فلاحية. هذا عن الجانب السياسي، أما الجانب الطبقي الذي دفع الفلاحين (العلويين على الأخص) إلى الانخراط في الجيش، فكان أنّ مقدار بدل الإعفاء من الخدمة الإلزامية قبل عام 1964 يعادل 500-600 ليرة سورية. مبلغ كان «بمقدور سنّة المدن عموماً، وبصرف النظر عن مدى تواضع بعضهم، دفعه. أما بالنسبة إلى الفلاحين، ولا سيما العلويين، فكانت 500 أو 600 ليرة تمثّل قيمة مواسم عدة من العمل الشاق». أي، أنّ الجانب العشائريّ (السنّيّ) كان عاملاً مساعداً في إبعاد السنّة عن التطوع في صفوف الجيش، وتركه للطبقات الأفقر، أو لمن لا عشائر لهم.
كان حافظ الأسد من مريدي الدكتور وهيب الغانم الذي يُعتبر أقرب إلى التوجه الاشتراكي لحزب «البعث» منذ الأربعينيات. اتخذه الأسد معلماً ومرشداً، واعتنق نسخته من العقيدة البعثية. ولذا، كانت سياسة الأسد أقرب للفلاحين، منذ شبابه الأول حين أسهم في الإضرابات التي نتج منها تأميم شركة «الريجي» عام 1951، وصولاً إلى تسلّمه السلطة واعتباره أن «الناس لهم مطالب اقتصادية في الدرجة الأولى» رغم تركه الملفات الاقتصادية لاحقاً لمسؤولين آخرين حين اعتبر أنّ الملف الاقتصاديّ «ليس خطراً» قياساً بالملفين العسكري والأمني. ورغم الاتهامات الطائفية لنظام الأسد الأب، يؤكد بطاطو عدم وجود أدلة واضحة «على أن الأسد أعطى في سياساته الاقتصادية تفضيلاً ملحوظاً لطائفته، أو أنّ أغلبية العلويين تتمتع بأسباب الراحة في الحياة أكثر من أغلبية الشعب السوري».
لا يمكن، بحال، تلخيص «فلاّحو سوريا»، بخاصة لأنه يقدّم نظرة بانورامية شاملة في نصفه الأول، بينما يركّز في النصف الثاني على تفاصيل دقيقة بشأن سياسة حافظ الأسد داخلياً وخارجياً. وربما يبدو النصف الأول أكثر أهمية بسبب انفراده في التركيز على الجوانب الطبقية والاجتماعية لواحدة من أهم الطبقات الاجتماعية في سوريا التي كان لها نصيب تشكيل السياسة في العقود الأخيرة على ما هي عليه الآن. وباستثناء مؤلَّفات محمد جمال باروت، تبدو الكتابات السورية الأخيرة مصرّة على التركيز على البعد السياسي أو الطائفي كأنه البعد الأوحد في الوضع الحالي مع تجاهل الأبعاد الأخرى. ولعل كتاب بطاطو هذا سيصبح أساساً متيناً لكتابات بحثية عميقة في الفترة المقبلة.