لم ينجُ أحدٌ تقريباً من تأثير ت س إليوت (1888 – 1965). الشاعر الأميركي الذي اختار أن يكون إنكليزياً وأوروبياً بانتقاله إلى لندن، وضع اسمه في قلب الحداثة الشعرية للقرن العشرين. صرامته في الكتابة وعلاقته مع التراث الأوروبي، لم تعرقل ممارساته الطليعية في الشعر والنقد، إلا أنها جعلت اسمه أقل جاذبيةً من أسماء أخرى مثل رامبو وبودلير.
لم يكتب إليوت الكثير. ومقارنة بحضوره القوي في شعر العالم، يبدو شاعراً مقلاً، كما أن التركيز على قصيدته الأساسية «الأرض اليباب» (1922)، مع أربع قصائد أخرى هي «أغنية حب ج. ألفرد بروفروك»، و«أربعاء الرماد»، و«رباعيات أربع»، و«الرجال الجُوَّفْ»، جعلته يبدو كصاحب خمس قصائد فقط، ولكن «كل واحدة منها كانت كاملة وفريدة، وحدثاً بحد ذاته»، كما أراد إليوت نفسه.
سيكون كلاماً مكروراً أن نتحدث عن تأثيره على شعراء مثل السياب وخليل حاوي وأدونيس وعبد الصبور...، وكذلك عن الترجمات العربية الكثيرة لقصائده، وخصوصاً «الأرض اليباب» التي تبادل المترجمون والدارسون التشكيك بدقة سطور وكلمات فيها، ولكن ذلك كله حدث في جوار الترحيب الكبير الذي حظيت به هذه القصيدة، وتجربة إليوت عموماً، في الحياة الشعرية العربية. ترحيبٌ بدأه لويس عوض في أربعينيات القرن الماضي، قبل أن تضع مجلة «شعر» إليوت في برنامجها الحداثي، ويتولى يوسف الخال وأدونيس ترجمة «الأرض اليباب»، إلى جانب ترجمة الخال لـ «الرجال الجوّف»، وبلند الحيدري لـ «أغنية حب ج بروفروك»، ومنير بشور لـ «أربعاء الرماد»، ولكن الترجمة الأكثر شهرة ستكون باسم العراقي عبد الواحد لؤلؤة الذي ترجم «الأرض اليباب» مع شروحات لحواشيها ومرجعياتها الصعبة. والواقع أن هذه الحواشي أضافت طبقة أخرى من الرصانة إلى شعر إليوت الذي راح يُقرأ بوصفه طبقات ثقافية وشعرية أكثر من كونه شعراً خالصاً. وقد ساهم إليوت نفسه في تعويم هذه القراءة بمساهماته النقدية البارزة التي جعلت صفته كناقد مساوية لصفته كشاعر تقريباً، ويكفي في هذا السياق أن مفهومه عن «المعادل الموضوعي» في الشعر لا يزال يحظى بمصداقية في أي قصيدة، وفكرة «أن الشعر هو تجنُب العاطفة لا التعبير عنها» تكاد تختزل الكتابة الشعرية كلها، ولعلها كانت أكثر صلاحية للشعرية العربية التي وقعت (وتقع) في التفجّع العاطفي والميوعة اللغوية.
لن تكفي استعادة سريعة للحديث عن مكانة صاحب نوبل (1948)، ولكن ذكرى مرور نصف قرن على رحيله تُعيد اسمه الذي لم يغب أصلاً. تترافق هذه الذكرى مع مرور قرن كامل على نشر قصيدته الأولى «أغنية حب ألفرد بروفروك». في انكلترا، وأميركا، بدأت هذه الاستعادة زخمها منذ أيام بصدور الجزء الأول من كتاب «إليوت الشاب» للشاعر الاسكتلندي روبرت كروفورد الذي زوّدته مؤسسة إليوت بمعلومات تنشر لأول مرة، ومنها أن المؤسسة ذاتها ستنشر بعد خمس سنوات 1131 رسالة تبادلها إليوت مع حبّه الأول إيميلي هايل، بينما سيشهد خريف هذا العام إصدار قصائد غير منشورة للشاعر. الرسائل والقصائد ستُغني بالتأكيد صورة الشاعر الذي وُصف يوماً بـ «دكتاتور الأدب»، ولكن هل سيزيد ذلك شيئاً على كونه صاحب «القصائد الخمس» التي غيّرت الشعرية الحديثة في العالم؟.