هرب ج. د. سالنجر (1919 – 2010) من الشهرة، فحصل على شهرةٍ أشهر، وتحوّل انزواؤه عن الحياة العامة إلى أسطورة. الكاتب الأميركي الغريب الأطوار الذي نشر رواية واحدة هي «الحارس في حقل الشوفان» وعدة قصص قصيرة فقط، صنع سيرة شخصية وأدبية أكثر دسامة وثراءً من سيرته الحقيقية التي حرص على إخفائها منذ عام 1965. سيرة تغذّت من الشكوك والشائعات والمرويّات أكثر من احتوائها على معلومات موثّقة وصحيحة.
لم يكن سالنجر يحتاج إلى ذلك لكي يحصل على التقدير الذي نالته أعماله القليلة، وخصوصاً روايته التي تحولت إلى أيقونة لدى الأجيال الأميركية الشابة، ولدى أجيال مماثلة من القراء الذين تُرجمت هذا الرواية المدهشة إلى لغاتهم، ومنها الترجمة العربية التي أنجزها الكاتب الأردني الراحل غالب هلسا الذي أشار في تقديمه لها إلى أنها تُقارن دوماً برواية «يوليسيز» لجيمس جويس كعلامتين أساسيتين لتأريخ تطور الرواية في الغرب والعالم.
الرواية التي باعت أكثر من 65 مليون نسخة، والتي تُطبع منها آلاف النسخ سنوياً حتى اليوم، والتي وُجدت بحوزة مارك تشابمان قاتل مغني البيتلز الشهير جون لينون، كانت مانيفستو للكتابة الغاضبة، وفي أميركا رُفِعَ شعار «كلنا هولدن كوليفلد» وهو اسم بطل الرواية المراهق الذي يكشف اشمئزازه من زيف المجتمع بسردٍ روائي يجعله يبدو مختلاً أو يعاني من سوء فهمٍ فظيع مع العالم، ويتمنى أن يعيش في حقل منعزل يلعب حوله أطفالٌ يقوم بحمايتهم من نفاق عالم الكبار. أمنية كوليفلد تشبه ما فعله صاحب الرواية نفسه حين ترك نيويورك واعتكف في نيوهامبشير، وحصر اتصالاته بأشخاص قليلين وخصوصاً من النساء، فقد تزوج الصحافية الشابة جويس مينارد بعد تلقيها رسالة إعجابٍ طويلة منه عن تحقيق أدبي كانت قد نشرته، فتركت كل شيء وعاشت معه. وبعد انفصالها عنه عرضت 14 من رسائله للبيع، فاشتراها أحد أصدقاء سالنجر وأعادها إليه. ولكنها نجحت عام 1999 في نشر كتابها «إذا أردت حقاً أن تسمع ذلك» (وهي الجملة الأولى في رواية سالنجر نفسه)، بعد معركة خاضها محامو سالنجر لمنع صدوره بحجة انتهاك حياته الخاصة.
الحواجز التي وضعها سالنجر حول خصوصيته، ضاعفت من حشرية وفضول القراء والنقاد في تأويل ذلك، ففي الوقت الذي أعاد فيه البعض عزلة سالنجر وانقطاعه عن النشر إلى خوفه المرضي من الفشل، عزا آخرون ذلك إلى الفظائع التي شهدها أثناء مشاركته مع الجيش الأميركي في إنزال النورماندي أثناء الحرب العالمية الثانية، وإلى فشله في الزواج من أونا أونيل، ابنة الكاتب الأميركي الشهير يوجين أونيل، وتفضيلها شارلي شابلن الذي كان وقتها في الخامسة والخمسين.
مهما كانت الأسباب والتأويلات، فإنها ستظل ترفد سيرة كاتب خلّد اسمه برواية واحدة، وبعض القصص (أصدر الشاعر الراحل بسام حجار ترجمة عدد منها في كتاب بعنوان «اليوم المرتجى لسمك الموز»). لقد كُتب الكثير عن سالنجر، وسيظل يُكتب. عزوفه عن النشر ترافق دوماً مع تأكيدات تشير إلى أنه لم يتوقف عن الكتابة. وفي الفيلم الوثائقي الذي أخرجه شاين ساليرنو عنه، وعُرض العام الماضي، ذكر أن منفذي وصية الكاتب سيصدرون خمسة أعمال له بين عامي 2015 و2020. فهل سيشهد العام الحالي بداية تحطيم تلك الهالة السرية التي سيّج بها سالنجر حياته، أم أن وصيته بنشر أعماله لن تكون إلا شائعة أُريد منها أن تمنح تلك السرية حياةً إضافية تستمر في غياب صاحبها الذي ستمر ذكرى وفاته الخامسة بعد أربعة أيام؟