في كتابه «مدن متنازعة» (الفرات للنشر والتوزيع)، يزيح فرانك مرميه القشور البرانيّة عن ثلاث مدن عربية هي بيروت، صنعاء، عدن لتتكشّف عن أصول هجينة متصارعة، وإرث تاريخي ثقيل تتنازعه القبلية في المقام الأول. وإذا بفكرة المدينة تتلاشى تحت طبقة ثخينة من القيم الريفية والعشائرية والدينية. وتالياً، فإن فكرة الحضرية التي تتسم بها المدن الحديثة تندحر لمصلحة هويات طارئة، أو ما يسميه «ترييف المدينة» في ظل هيمنة الأنظمة العسكرية على الحكم، أوإقصاء الطبقة البورجوازية جانباً، ما أدى إلى بروز الأصولية الإسلامية، وذيوع الحجاب، والعسف الأمني، مقابل غياب فكرة التمدّن، أو المواطنة التي هي من سمات الحضرية.
يتكئ الأكاديمي الفرنسي على معرفة ميدانية بالمدن الثلاث خبرها عن كثب خلال عمله في «المركز الثقافي الفرنسي» في هذه المدن، إضافة إلى الوثائق والدراسات والمراجع التي تتعلّق بأحوال المدينة العربية وتطوّرها العمراني والحضري والسياسي، من وجهة نظر أنثربولوجية، وقراءة سوسيولوجية تميط اللثام عن «أطوار الدلالات المختلفة التي تؤثر في التمثّلات أو التصورات والحوادث الراهنة».
تنهض سير هذه المدن على توترات ومشكلات مزمنة، تعود إلى جذور تأسيسها، وأنماط العيش المشترك والملتبس بين أقوامها، وصولاً إلى تغيّر أشكال الانتساب المديني المثقل بإرث قديم لمعنى «الإقامة» لجهة معايير السلوك المديني، وصعوبة تعريف كلمة «حضرية» في مجتمعات تنتسب إلى القيم الماضوية أكثر من انخراطها في الحداثة، خصوصاً ما يتعلّق بنظام التشريع، وسطوة نظام القرابة (روابط نسب، وروابط مصاهرة، وعلاقات زبائنية). وهو ما سوف يتجلّى في المهن، وعلاقات السوق، والهيمنة على مركز المدينة، بصوغ نموذج مديني هجين، تتخلله هويّة محتكرة تؤثر في عمل مؤسسات السلطة المدينية. يصف مرميه بيروت بأنها «محطة توقّف متغيّرة»، كلما انطفأت بتأثير كارثة طبيعية أو نتيجة تقلّبات تاريخية، تنهض من جديد، وبمصائر مختلفة. وكان عليها أن تنتظر القرن الـ 19 كي تُحكم ربط شواطئها بطرقات التجارة الدولية و»كي تصل إلى مصاف سلالم الشرق». تجارة الحرير النشطة في منتصف القرن الـ 19، ربطتها بشكلٍ متين بالموانئ الأوروبية. وبذلك همّشت منافساتها من مدن الساحل، وباتت مرفأ المشرق الأساسي تجارياً، ما أدى إلى اختيارها عاصمة إدارية لولاية بيروت في العهد العثماني، وعاصمة للدولة اللبنانية في ظل الانتداب الفرنسي (1920)، وبعد استقلال لبنان. هكذا أصبحت مركز جذب للمهاجرين إليها من المنطقة، خصوصاً بعد اكتسابها وظائف إدارية وسياسية وتعليمية. بتراجع صناعة الحرير، عوّضت بيروت حضورها الاقتصادي بالسيطرة على ثلث السوق العالمية للذهب، وتبوأت المركز المالي الأساسي في الشرق الأوسط، مجتذبة الرساميل العربية، ونقطة لقاء بورجوازية الأعمال من جهة، والمثقفين والمنفيين العرب من جهةٍ ثانية (تجارة الأفكار والكلمات) بوصفها مختبراً ثقافياً للعالم العربي، وتجارة المطبوعات (عاصمة النشر العربية)، في طابع كوسموبوليتي فريد، عبر «حداثة مستعارة من الغرب، لكنها موشاة باللون المحلّي».
محت الحرب الأهلية اللبنانية (1975) الصورة القديمة لشارع الحمرا كقطب اقتصادي وثقافي، وتحوّل وسط المدينة المهجور إلى خط تماس، وتالياً، استئصال قلبها التاريخي وشعار ذاكرتها، ما أفقد «المركزية المدينية القديمة، جزءاً كبيراً من وظائفها»، كما غيّرت الحرب المشهد التجاري في بيروت بخلق فضاءات جديدة يتحدّد تأثيرها أحياناً بحدود مناطق نفوذ الميليشيات المتنازعة، واستبدال طابع التعدديّة المدينية بـ «الطابع الاستئثاري للسلطات».
لكن ماهي حدود بيروت؟ يجيب مرميه بأنّها «مجموعة أراضٍ متجاورة تفصل بينها حدود غير مرئية، تتنازعها الانتماءات الطائفية والسياسية بقصد السلطة والتمثيل»، رغم تنصّل سكانها من الانتساب إليها، وإعلاء شأن «الضيعة» بوصفها حيّزاً مكانياً ونموذجاً ثقافياً لقيم راسخة، وتتقابل في هذا السياق «إيديولوجيا الجبل»، و»إيديولوجيا المدينة» لتصنيف لاعبين سياسيين، ومجموعات دينية، وهويّات مفترضة، على رغم سعي الدولة وقوى السوق إلى حلول تذلل المخاوف الأمنية، من طريق التخطيط المديني. هذه المحاولات لا تخفي واقع تقسيم المدينة إلى جزر أمنية، ما زال بعضها موروثاً من حقبة الحرب التي أرغمت آلاف اللبنانيين على الهجرة والنزوح، مثلما عزّزت «الأقلمة الطائفية»، والتناقض المديني عبر التخطيط العمراني الجديد الذي مهّد لعملية تقويض البعد التراثي للمدينة وانفصامها الاجتماعي، كمحصّلة للمضاربة العقارية المجنونة. على ضفة أخرى، يرصد هذا الانثربولوجي الرصين «معركة السماء في بيروت»، في إشارة إلى الصراع المذهبي بين الحيّز الذي يحتله «جامع محمد الأمين» من جهة، و»كاتدرائية مار جرجس» من الجهة الأخرى.
في قراءة «صنعاء»، تتشابك ثلاثة أقانيم هي المدينة، والسوق، والقبيلة.
استأصلت الحرب الأهلية قلب بيروت التاريخي، ما أفقد «المركزية المدينية القديمة، جزءاً كبيراً من وظائفها»
لطالما كانت هذه المدينة ساحةً للمعارك، وعرضة للنهب والمذابح على يد قبائل مجاورة، ما جعلها كياناً مركزياً وتبادلياً بين المجتمع القبلي والمجتمع الحضري بدفعات متصلة من المهاجرين. احتلت القبيلة مركز المدينة مع توسّعها مطلع السبعينيات، ما أدى إلى تفاقم الاختلاط الاجتماعي والمذهبي، إذ لم يعد «الزيديون» وحدهم من يسيطر على مقدرات المدينة. بمعنى آخر، لم تتمكّن السلطة السياسية من لجم السلطة القبلية داخل الفضاء المديني، وهو ما يعكس «حجم النفوذ الذي يتمتع به مشايخ القبائل داخل الدولة». صنعاء إذاً، وفق ما يراه هذا الباحث، مدينة تقليدية تتمحور مركزيتها في الأسواق التقليدية والعائلات التي تسيطر عليها، قبل انفتاح البلاد على السوق العالمية. ولعل «سوق القات» هو الأكثر خصوصية في صنعاء، نظراً إلى حجم الاستهلاك المحلي، وتليها «سوق الذهب والفضة»، و»سوق النجّارين». صنعاء بصيغة أخرى، هي رجحان الشرعية الدينية على النموذج السياسي المضاد. أما «عدن»، فتخضع لتصوّرات خيالية تبعاً لتنوّع الجماعات التي استقرت في هذا المرفأ السحري الذي راكم ثقافات متعددة مثل الهندية والانكليزية والعربية، وتراتبية عرقية مختلطة، وسجل اكزوتيكي للرحالة الأوروبيين بوصفها «دراما ماورائية»، مثلما هي المحطة التي صنعت أسطورة الشاعر الفرنسي رامبو الذي عمل فيها وكيلاً تجارياً، وصولاً إلى صورتها كنجمة حمراء، لحظة انضوائها تحت لواء الماركسية باسم «جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية»، و»عاصمة الشيوعيين العرب»، ونقطة جذب للخلايا الثورية من مختلف أنحاء العالم. وهو ما انعكس على السلوك الاجتماعي المحلّي بتحرّره من القيود القبلية، إلى أن انطفأت الشعلة في التسعينيات بتوحيد اليمن. ويخلص مرميه إلى أن ما يجمع بين المدن الثلاث أقرب إلى تظاهرات العولمة منه إلى خصائص ثقافية مشتركة بينها، متسائلاً عمّا تبقى من روح المدينة في تحوّلات مؤسسة السوق أو الجامع أو التصوّرات المدينية؟